السيّد "بلا مؤاخذة"

كل الرجال في قريتي يهرمون ويموتون بفعل "زوجة سيئة أو حاكم شموليّ ليس في دستوره كلمة (لا)". أمّا هو " فأسطورة" ، " لغز" ، بل " فوق العادة" ، في حين لا أجد ما يلائمه أكثر من اسم "الرجل الأخير" .

فقصارى القول أنّ المرء هنا في هذه القرية قد يرى أناساً محترمين من كل الأنواع ، فيما عدا رجال الدين والجيل الرابع لشبيبة هذه الحرب ممن خلقتهم أجهزة المخابرات الوطنية والأجنبية طوال سني الاقتتال .

 فمن الجميل أن ترتجي في قرية بدويّة في الجولان غرقت في الدم لخمس سنوات حتى ذابت فيها القيم والأخلاق عن شاب ولا يشعر بسن اليأس. لذا فغاية القول أنّّي أنا الثلاثيني لم أوفّق حتى الآن بأكثر من هذا الصديق ، فهو رجل في الأربعين ، ذو وجه مدور أسمر جميل ولا يذكرني سوى برفاق المسيح الأوائل، إذ يعرف متى يلوذ بالصمت ومتى ينبري للإجابة مثل قديّس حقيقي في عالمٍ كافر ، لكنّه ليس مثلهم يطوف بالبلاد قاطعاً مئات الأميال على ساقيه باحثاً عن وصيّة.

زرته وكان الجو ضاحٍ جميل ،و الوقت غداءً و المائدة على ازدحامها لكنّها جدّ لطيفة ، حيث عَلَت رائحة اللحم المطبوخ التلاع المحيطة ببيته ، و أنّ اليد التي عنيت في صنع هذا الطعام أضفت عليه قيمة تفوق كل تقدير بين البساطة وطيب النفس ، لكن ازدحام الأنفاس ولهاثها فوق المائدة جعلني أدعو الله في سري ألّايكون كرمه ملزماً مشاركتي لهم هذا اللهاث. 

استقبلني وكان ما لم أريد ، حيث ردد عبارة قريتي المعتادة " بلا مؤاخذة حماتك تحبك أستاذ جوهر ، بلا مؤاخذة إيّاك أن تفكر في الرفض فعيار الشبعان عند البدوي أربعين لقمة ".

 حكمته تلك والمسبغة دوماً بعبارة "بلا مؤاخذة" والتي يكررها في اليوم مئات المرات تخبرني لما نحن جوعى دوماً ولا نشبع . فالكل هنا تغيّر ، وإن كان هناك عبارة لها معنى أكثر من تلك الكلمة أستطيع أن أقول أنّ الكل هنا "توحش" ، لكن هذا الكرم المتوحش في أوداج هذا الصديق والبادية بخطوط غليظة على جبينه وصدغيه تثبت أنّ القيم الحقيقية لا تتبدل أو تتحول .

انتهينا وكان حديثه غارقاًٌ بالانفعال على توحش الواقع والذي لم أرَ من مسلك انفعالاته سوى جانبه الطيب ، فقد تحدّث مطوّلاً أمام الجميع عن تجربته القاسية في المعتقل ووجدته متأثراً في سجنه أشد التأثر ، فلقد تركت الزنزانة في نفسه طابعاً فظيعاً ، ولمّا كنت الشخص الوحيد الذي يتعاطف أشد العطف لآلامه التصقت نظراته لي مُنِمّةً عن احترام . ثم بين الفينة والأخرى يلتفت إليّ قائلاً:

- لقد وهن جسمي وهان صبري هناك، فلا تعتقد أنّ رفاقك في السجن منذ أكثر من عامين سيكونون أحياء.

ثم وقف بعد ساعة من الحديث المتواصل أمام الجميع وكمن تذكر:

- بلا مؤاخذة يا شباب أعرفكم على السيد شاهر ، وبلا مؤاخذة فهو صديق عزيز وابن عشيرتي العزيزة ، ودعوتكم اليوم لتكونوا شهوداً على زواجي الجديد.

وسوم: العدد 693