الخَرَزَةُ الزرقا

عندما حَسَمَ أمرَه وقرر شراءها، كان قد قطع شوطاً طويلاً من الحِيرَة والتردد، واستنفد جَهْدَهُ في تقليب الأمور على وجوهها، ولم يعد أمامه إلا أن يخطو الخطوة الأولى باتجاه تحقيق ما عزم عليه. وها هو جالس أمام اللوح الزجاجي السميك الذي تخترقه كُوَّتان: واحد للكلام، وواحدة لدفع النقود واستلام المطلوب.

ومع أنه عقد العزم وانتهى تردده قبل أن يأتي إلى هنا إلا أنه بُوغت بالحيرة تُطل بثقلها على نفسه من جديد، ولكن هذه المرة ليس لاتخاذ القرار من عدمه، ولكن للتحرك خُطوتين.. خُطوتان فقط.. ليصل إلى الكُوَّة، ويهمس بحاجته.

وكان كلما شد من عزمه وحاول القيام تأتي فتاة لتقف خلف الكوة.. إنها في عمر حفيدته.. وكيف سيطلب منها هذا الطلب؟!..

قد لا تفهمه..

قد تضحك..

قد تمتعض..

قد تنظر إليه نظرةً ناريةً ليس لها معنى إلا كلمة واحدة: « استح على شيبتك »..

لكن.. هذا حقه.. وليس من حق أحد أن يمنعه لا سيما والأمر لا يعنيهم في شيء، الأمر يعنيه وحده.. ليس وحده تماماً.. لكنه في النهاية.. وبالدرجة الأولى يخصه وحده.. ويتعلق به بالذات.. واللوم في التقصير سيقع عليه وحده.. فلماذا تضحك منه؟! أو حتى تلومه؟!

لكنها في النهاية بنت.. والمصيبة أنها في عمر حفيدته.. يعني لو كانت أكبر من ذلك بثلاثين سنة.. أو حتى بعشرين على الأقل لفهمتْ وقدرتْ وعذرتْ..

- لكنها صغيرة يا عمي.. في عمر حفيدته.. الله يقطع الشيب وسنينه!!

هكذا هتف داخله.. وعلى كُلٍّ لا بأس أن ينتظر حتى تذهب هذه البنت المنحوسة.. ولماذا منحوسة؟!.. وما ذنب البنت؟.. المنحوس أنا.. أي نعم.. أنا المنحوس.. لو كان حظي أحسن من ذلك قليلاً لكان الموضوع مر دون أن يُثيرَ زوبعةَ أحدٍ.. أو يسبب لي كل هذا الحرج والعناء.. على كُلٍّ الشابُّ الذي يتحرك خلف الزجاج، ويعود فيختفي خلف الجدران لفترة من الوقت.. سيعود حتما.. وعندها سأقفز إليه مباشرة وأطلبها منه.. ما هي عيبٌ ولا حرامٌ.. مجرد بطارية صغيرة بحجم زر صغير أو حبة عدس بِجِبَّةٍ مثل بطاريات الساعات أو الآلات الحاسبة الصغيرة أو سماعات الأذن.. نعم بطارية لتشغيل الجهاز.. تجعله يعمل بكفاءة عالية.. هكذا قالوا له..

ضحك في سره عندما تذكر الدعايات التي يبثها التلفزيون حول أنواع البطاريات الصغيرة.. وما يصاحب ذلك من دُمَىً تتحرك أو تلعب أو تتصارع، ثم فجأة.. يتوقف كل شيء.. وتبقى إحداها مستمرة في عطائها وفعاليتها.. ثم يصدر صوتٌ يِفِحُّ بالنصر: وتدوم.. وتدوم.. مُنَوِّهَاً باسم البطارية ونوعها.. ويعاود (الاختيار) السبعيني الضحك في سره ويكرر: وتدوم.. وتدوم.. وتدوم.

ها هو الشاب يتحرك خلف الزجاج.. اقترب من الكوتين.. هل يقفز إليه قبل أن يختفي ثانية؟ وهل مثله يستطيع القفز؟! ذاك زمان وَلَّى من زمان.. ثم استدرك السبعيني لما رأى ما أمامه:

-                       لا يا عم.. هذا غير ممكن..

لقد كان هناك رجال ونساء يقفون على الجانب الأقرب من الزجاج.. وكيف سيقول له؟ لا بد أن يسمعوا طلبه.. وستبرز الابتسامات على أفواههم كالخناجر تحز.. تحز ماذا؟!

جسدَه؟..

قلبَه؟..

مشاعَره؟..

كرامتَه؟..

لا يدري.. المهم  أنها ستحز.. وإن حزتْ آلمت وأوجعتْ.. حتى وإن صاحبها ابتسامٌ أو ضحكٌ.. بل هي هنا أشد وجعاً وإيلاماً.. هل هو الحَسَدُ؟!

وما دخل الحسد في الموضوع؟! وحتى لو كان حسداً.. وكانت عينٌ قد أصابته- كما يبرر لنفسه هذه السنوات كلها- أليس من حقه أن يدفع عن نفسه الحسد؟.. حتى ولو بالطريقة البدائية.. تعليق خرزة زرقا.. صحيح أن الشرع لا يقره على تعليقها.. ولا الإيمان بها ابتداءً.. 

لكن.. من قال إنه يريد أن يعلقها؟! أو أنه آمن بها؟! مسألة الإيمان مسألة معقدة.. ليس من السهل التسليم بها.. فهو عليه أن يُجَرِّبَ.. وربما تنفع.. وربما لا تنفع.. لكن كل الذي يرجوه أن تنفعَ من حالته.. وتُزِيلُ عنه هذا الكابوس الذي قلب حياته رأساً على عَقب، وجعل الغَمَّ يُصابحه ويماسيه، وبعد أن كان الليل حبيباً إلى قلبه.. أمسى موسم الاكتئاب اليومي.. وإذا كانت الخرزة الزرقا لمنع الحسد!! فلماذا لا يشتري خرزة لمنع النكد؟! لا سيما وقد بات النكد يُضاجعه كل ليلة، حتى تحولت حياته لجحيم لا يُطاق.. صحيح إنه يداري ويبتسم وكأن شيئاً لم يتغير في حياته، لكن الحقيقة أن أشياء كثيرة تغيرت، وإن كان الناس لا يعلمون، فزوجته تعلم، لكنها بنت (أوادم) صابرة، وعندما تشتد الأزمة بينهما وتصل إلى درجة الغضب الذي يوشك أن يمزق حياتهما معاً، تختم الخلاف بقولها:

-         قلتُ لك كَبِرْنا على هذه الأشياء.. دعنا نتفرغُ لعبادة الله والاستعداد للرحيل.. لكنك تُصِرُّ على المحاولة.. اتعبتني.. ماذا أقول؟! يغفر لك ماضيك ما تفعله معي الآن.. الله يسامحك.. الله يُصبرني عليك..

وتصبر هي.. لكنه يُقهر من داخله لصبرها هذا، ويتمنى من قرارة نفسه أن يَعْبُرَ هذه الأزمة الخانقة، حتى وإن لم تكن أزمةً بالمعنى الدقيق الذي يُفهم منها أنها مؤقتة.. وحتى ولو أمست حالةً دائمةً.. لكن ما المانعُ من التخفيف منها وجعلها مقبولةً فالرغبةُ موجودةٌ لكن الجسدَ لا يُساعدها.. ألم يقل الأطباء له في أكثر من مرض عجزوا عن إزالته: تعايش معه!!؟ حتى أصبح التعايش مع الأمراض المزمنة هو الأساس، والاستثناء ألا تكون في حياته.

وتَحِينُ منه التفاتةٌ.. لكنها تكون عليه كالصاعقة.. ها هو ذا شاب من معارف ابنه يتحرك في الرَّدْهَةِ، ولا بد أن يكون قد رآه.. والمصيبة أنه يتظاهر بالأدب والذوق، وهذا سيدفعه حتماً للقدوم للسلام عليه ومصافحته.. وربما يكون فضولياً يحشر نفسه في كل شيء، ويريد أن يعرف كل شيء بالتفصيل « البيضة من باضها، والدجاجة من دججها!! ».. ماذا سيقول له؟ هل سيقول له الحقيقة؟ أم يقول له: استح على دمك وخليك في حالك؟! وحتى لو فعل واستحى على دمه وبقي على حاله.. هل سيسلم من لسانه؟!.. أم سَيُخبر أهل الحارة بأنه رأى (الاختيار) في المكان الفلاني.. وربما يعرض خدماته.. وبماذا سيرد عليه؟! هل يكذب؟! لماذا يدفع الناس بعضهم بعضاً إلى الكذب؟! (حِشَرِيّةٌ) زائدة باسم الحب وتقديم الخدمات..

اللهُ سَلَّمَ، وانحاز صديق ابنه إلى ممر آخر يذهب به بعيداً عن ممر (الاختيار)، ويبقى (الاختيار) يلوك حِيَرتَهُ وعجزه.. والذي يزيدهما وضوحاً تخوفه الظاهر الذي يبدو في مضغه لشفته السفلى.. مع أن طبيب الأسنان حذَّره أكثر من مرة حتى لا تتأثر (ضَبَّتُهُ)([2]) والمكسرات ومص عيدان قصب السكر!! .. هذه زمانها وَلَّى منذ عشرين سنة، بعدما تجاوز الخمسين بسنتين.. لم يعد يذوق هذه الأشياء.. وهل سيعود مثل الأطفال الرُّضَّعِ يبحث عمن يمضغ له الفستق ثم (يُزَغِّطُهُ) إياه؟!!

ها هي ذي المنطقة التي أمامه تَقْفِرُ من الناس، يقف مُستغلاً الفراغ والوقت، يقترب من الكوتين.. يحاول أن يُدخلَ رأسه من الكوة العلوية.. لكنها أضيق من حجم رأسه.. يحاول.. فيبادره الشاب من خلف الكوة:

-         قول يا حاج.. أنا سامعك.. ماذا تريد؟

يقرب فمه من الكُوَّةِ.. يهمس باسمها مُـحـَـرَّفَاً من بين أسنانه الصناعية.. ثم يخفض رأسه ويكسر بصره.. لم ير تعابير وجه الشاب..

هل ابتسم؟.. لم يره..

هل ضحك؟.. لم يسمعه..

هل استنكر؟.. لم يسمعه..

هل رفع حاجبيه دهشة؟.. لم يره..

هل قَلَّبَ شفتيه؟.. لم يره..

ربما هز كتفيه!! لم ير ذلك.. ولم ير ما حدث.. ثوان وكان الشاب قد أحضر علبة وبدأ يسجل الفاتورة..

استغرب الحاج السبعيني.. عاد يقرب فمه من الكوة.. يهمس:

-         واحدة.. واحدة.. فقط..

وأشار بأُصبعه السبابة.. فربما تُساعد الإشارةُ بها الشابَّ على فهم طلبه إن لم يُسْعِفَهُ الهمس.. لكن الشاب سمع.. وعرف.. وقدر.. وتصرف..

-         إنها واحدة يا حاج..

-         ولكن هذه علبة..

-         صحيح إنها علبة.. لكن فيها واحدة فقط..

قال السبعيني في نفسه: من أجل هذا هي غالية الثمن.. وربما لأنها غالية الثمن أفردوها في علبة.. صحيح يا عمي « الغالي ثمنه فيه » وقد أكدوا له إنها رائعة.. وتدوم.. وتدوم.. وتدوم..

كاد أن يضحك.. لولا أنه تذكر أن الشاب ما يزال واقفاً أمامه.. وهو لم يدفع له ثمنها بعد.. نقده الثمن.. ودسها في جيبه.. وتلفت يميناً ويساراً.. ثم انزلق إلى الشارع..

-         الحمد لله.. لم يرني أحد يعرفني.. والشاب الذي باعني إياها محترم.. عندما دَوَّنَ الفاتورة لم يسألني عن اسمي.. محترم يا عمي.. ابن أوادم.. الله يُخليه لشبابه..

وتذكر الشباب وسنينه.. وتذكر بيت الشعر الذي كان يُردده دوماً ولا يعرف صاحبه، ولم يكن يحس بحقيقة معناه فيما مضى.. والآن أدرك.. وأدرك بحرقة..

ألا ليت الشبابَ يعودُ يوماً     فأخبره بما فعل المشيبُ

الآن عرف مصيبة الشاعر.. أحس بوجعه.. ولم يعد البيت شعراً يلوكه وحسب.. بل تأوها من تجربة مرة.. وواقع مُمِضٍ..

عندما عاد إلى بيته، دلف مرحاً.. وجد زوجته أمام المجلى في المطبخ تغسل الصحون.. مَسَّدَ على ظهرها.. فهمتْ.. تساءلتْ.. قال لها:

-         نعم.. أحضرت المطلوب!!

ضحكتْ .. وأخبرته:

-         عندنا ضيوف.. البنت وأولادها.. وسينامون عندنا الليلة!!

تأفف.. ليس هذا وقته.. ولكنه تدارك.. وأمامه الليل بطوله!! ورفع صوته لتسمعه ابنته وأحفاده:

-         أهلاً وسهلاً.. شرفوا.. وآنسوا..

وقبل موعد نومه بساعة بلع حبة الدواء حسب التعليمات المدونة على الورقة المصاحبة.. وبقيت مَهَمَّةٌ واحدة: المداعبة!!

ولم ينم (الاختيار) في موعده، لقد طاب لابنته وأولادها السهر معه، فهم في شوق شديد إليه.. ولحكاياته وذكرياته التي يحدثهم فيها عن آبائهم وأمهاتهم إذ كانوا صغاراً مثلهم.. وكلما توقف ليوحي بانتهاء الموضوع.. وحاول أن يهم بالقيام لينام.. رجوه المزيد من السهر.. والمزيد من الذكريات والحكايات.. حتى لم يعد فيه متسع لفتح جفنيه.. ومالت رأسُهُ على صدره أكثر من مرة.. وداهمه الغَطِيطُ وعلاهُ الشخير.. وأمسى جسده في حاجة لمن يُعينه للوصول إلى فراشه لا أكثر ولا أقل..

حملوه.. ساعدوه.. نام.. وعندما استيقظ في الصباح مَزَّقَ العلبةَ الفارغةَ بحَنَقٍ شديد، وألقاها في فُوَّهَة المرحاض، وسحب عليها (السيفون) فاندفع الماء مبدداً كل شيء.. ونظر الحاج إلى السماء الزرقاء، وحمد لله على نعمة (الخِلْفَةِ)(

([2]) القضامة: حُمص محمص ومملح.

([3]) الذُّرِّية.

وسوم: العدد 698