جذور العشق

قالتْ: الشيخ عِجْلِين.

 فُغِرَ الفمُ مني دَهْشَةً!!

قُلتُ: الشيخ عجلِين؟!

قالت بإصرار: نعم الشيخ عجلين.

قلت: ماذا يُعجبكِ في هذه القرية النائية، الصغيرة في عددها سُكانها الذين لا يتجاوزن المئة نفس، ولا تتعدى عشرين بيتاً، ومسجد كمِفْحَصِ قَطَاةٍ!

قالتْ: أُختيَ الكُبرى فاطمة متزوجة هناك، وكنا نزورها.. ونفرح يوم زيارتها، وحسبك من الشيخ عجلين كُرُومها « وموَاصِيها ».

قلتُ: أعرف عنبها وتينها، خالي محمد يقيم هناك بأسرته منذ هاجروا من أسدود، ولكننا لم نكن نذهب هناك إلا لماما، صديقي وزميلي في مدرسة فلسطين الثانوية، ومُجاوري في مخيم الشاطئ محمد عوض كان أهله من  «حمامة » وكانوا يتضمنون أحدَ الكروم كُلَّ صيف، فذهبنا معاً إلى الشيخ عجلين، وإلى ذلك الكرم بالذات، وأكلتُ أَعْسَلَ حبةِ تين في حياتي، وأشْقَرَ قُطف عنبٍ، فكانت شمس الشيخ عجلين تُـضَرِّجُ خدودَ حبات العنب بلونها الذهبي!! وأذكر أنهم كانوا كل يوم قُبيل الانصراف من الكرم يدورون حول أشجاره بربطة من الشوك يسحبونها فتمسح الأرض، فيعرفون إن كان سُرق منه شيء أم لا؟ وأذكر أَنَّ حية ضخمة طولها يتعدى المترين هربت من كومة أحجار- خوفاً منا- إلى كومة أخرى فأرعبتنا!!

قالت: كان أهل زوج أختي يملؤن حُجرةً بأكملها من مخلفات الأشجار حطباً ووقوداً للفرن، فقد كانوا يخبزون في الطَّابُون([1]) يومياً، وكنا إذا أُبْـنَا حَمَّلَـتْـنَا زبيباً وقُطِّينَاً، أما فخارة العنبية السنوية فكانت تصلنا إلى بيتنا في المخيم، حصتنا السنوية هديةً منهم، أما الشيء الذي لا أنساه في الشيخ عجلين فأزهار الزنبق.

قلت: زنبق؟!! وفي الشيخ عجلين؟!! كيف هذا؟!!.

قالت: ولماذا تعجب، نعم زنبق، وكنا نقطف أزهاره من تلال الشيخ عجلين على شاطئ البحر، أما لونه.. أما رائحته فلا تصدق.. وما زالت رائحته في أنفي إلى اليوم.. تعود إليَّ بالذاكرة كلما شاقني الشوق إلى الشيخ عجلين.

قلت: أنا أذكر في أوائل الستينات من القرن الماضي، وقُبَيْلَ خروجي من غزة مهاجراً إلى قطر، وكنا لضيق بيوتنا في المخيم نسترجع دروسنا ونحن نمشي على شاطئ البحر، ونكتب معلوماتنا التي نريد تثبيتها في الذاكرة بأصابعنا على صفحة الرمل الناعم التي مَلَّسَتْهُ موجةٌ منسحبةٌ للتو إلى خضم بحرها.. آه.. ما أجمل هاتيك الأيام رغم فقرنا..

قالت: ألم تقل لك أميرة الممرضة في المستشفى الإسلامي في عَـمَّانَ هذا الكلام.. أنت ما صدقتها.. لكنه الحب الذي يتأبى على كبت الفقر، فيطل برأسه من كومة تراب الأسى، ورُكام الحسرات لنغازل أوطاننا برقيق الحنين الموجع للقلب.

قلت: صحيح.. رغم فقرنا.. كنا نحبه.. نحبها.. نحب تلك الأرض.. نحب ذاك الجو.. نحب ذاك الطقس.. بلادنا أعظم بلاد خلقها الله، فلا برد يقصم عظامنا ويُقشّب جلودنا، ولا حر يطفح العرق من مسامنا كلها حتى يضيق نفسك بالدنيا.

وترقرق الدمع في عيني « غَصْبِ عَنِّي »، كانت حالة تعترني من رقة القلب لا أُسيطر فيها على دمعي فَأُفتْضَح، ومع ذلك لا أكرهها، فحسبي منها غسل مشاعري دوماً، وتخليصها من كُدُرَتِها وخشونتها، تميل بي برفق إلى الإنسانية التي بتـنا نفقدها في زماننا هذا، تماماً  «كالرومانسية » التي حاربها العنف ومسلسلات « الأكشن » وأفلام الرعب، ونشرات الأخبار التي ترفع الضَّغْطَ حتى بتنا أسيري مشاعر لا تعرفنا ولا نعرفها.

وعُدْتُ من جولة « السرحان » التي داهمتني، والسهوم الذي بدا على وجهي، وأغرب عينيَّ، فانتشلتني كلمةٌ منها..

قالت: أين ذهبت؟!

قلت: إلى حيث تعلمين!!

كانت تعرف جيداً منذ أن تزوجنا وعاشرتني أن أغلب شيء على حياتي التفكير، هي السمة التي تطبع زماني وأوقاتي وحياتي.. فكانت تتركني.. لا تقاطعني إلا نادراً، لأنها كانت تعلم أو تتوقع أني ألاحق فكرة في ذهني، أو أُنَضِّدُ جملةً رائعة أُلْهِمْتُها في لحظتي ربما تدخل في صفحة من صفحات كتبي..

أكملتُ

-   صحيح!! ما أخبار فاطمة اليوم؟

قالت: لا أعرفُ عنها شيئاً، آخر أخبارها ما زودتني بها أمي في آخر زيارة لنا في عَـمَّان، أخبرتني أن زوجها ترك «ا لتْعِيرِيَّةَ » حيث نُقل إلى « الخَفْجِي » منذ سنوات، وهم يقطنون الخفجي الآن.

اعتراني شيء من الخوف، سرعان ما تبدد بالتسليم لقضاء الله، كنا نعرف « النعيرية »، فقد كنا نمر بها مع شروق الشمس في طريقنا بالسيارة من الدوحة إلى عَـمَّانَ، أو في عودتنا عصراً من عمان إلى الدوحة بعد قضاء  «الإجازة »، ولم نكن نُعَـرِّجُ عليها إلا للتزود

« بالبنزين » من محطتها التي على الشارع الدولي الرئيسي بين المنطقة الشرقية وغيرها..

أما « الخفجي » فكانت على الحدود مع  «الكويت ».. نائية.. بعيدة والكويت الآن قد احتلها « صدام » وطبول الحرب تدق بعنف، وتميز الناس إلى معسكرات: « مع » أو « ضد » أو « معتزل الطرفين ».. ـ في ظل تجييش الجيوش ـ وحشد المؤيدين على أشدها، والحربُ واقعةٌ لا محالة، وأبو « العبد » الآن كيف حاله؟!!

« درع الخليج » وصلت طلائعه إلى « الخفجي »، قيل لي: إن صديقك « أحمد » ضابط المدرعات القطري في طريقه الآن إلى الخفجي..

هبط قلبي..!!

أُحِبُّـهُ كثيراً..  «وكثيراً » قليلةٌ عليه، فمنذ عرفته وهو من أنقى الشباب الذين عرفت، ومن أتقاهم ـ فيما أحسب ـ وكان في عزوبيته يشترط شروطاً في زوجة المستقبل، فيقول صاحبنا « معجب » هذه لا تتوفر إلا في صحابية، وقد انقرض ذاك الجيل، فيذهب عقلي سريعاً إلى الأميرةِ الأمويةِ التي طلبت أن يُشْتَرَى لها غلام تجعله وكيلاً لها يُديرُ أعمالَها، وحددت صفات لهذا الغلام، فرد عليها من كلفته بالبحث: هذه الصفات لا تتوفر إلا في « ابن عمر »([2]) وأهله لا يبيعونه!!

اتصلتُ بكل من أعرفُ هاتفهَ من « آل غراب » في الدوحة لأطمئن على أحمد، فجاءتني كلمات التسليم لقضاء الله، والأمر بين يديه، وأمره بين الكاف والنون، سكنتْ روحي قبل أن تبرأ جُروحي التي أحدثها الطيش، وقد كنت كتبت عنواناً لكتابٍ لي سأسميه بـ

« آه.. يا كويت » لكنه لم يُولدْ.. فقد أجهضته الحربُ والتصرفاتُ الخرقاء من كل الفرقاء.

« رن الهاتف » الأرضي، وإذا بفاطمة على الطرف الآخر تطلب أُختها.. فرحت.. صَرَخْتُ على أحد أولادي أن ينادي أمه..

جاءتْ مرعوبةً..

متلاحقةَ الأنفاسِ..

دفعتُ إليها السماعة وأردفتُ:

-فاطمة.. فاطمة أُختك..

كانت فاطمة أختي أنا التي تكبرني لم تمت بعد، ولم تكن قد عادت من الإسكندرية لتستوطن القطاع مرة أخرى إلا بعد عودة السلطة الفلسطينية، وبعد سنوات من العودة ماتت، وكان أبي قد سبقها بسنين..

قالت: أُبَشِّرُكَ.. فاطمة وزوجها أبو العبد الآن في عَمَّان!! وابنهما الوحيد في « الهند » يدرس الطب.

تنفستُ الصُّعَدَاءَ، وكَلَّفْتُ ولديَّ الكبيرين أن يذهبا إلى الفندق فيدعوان زوج خالتهما وخالتهما للغداء عندنا غداً.

أولادي فقراء في الأقارب.. لا يوجد لنا في مغتربنا أقارب، لا من جهة الأب ولا من جهة الأم.. الحنين للأقارب.. الحاجة للانتماء.. ضرورة التواصل.. كلها حاجات بشرية.. فكيف بشابين صغيرين في أواخر المرحلة الثانوية!!

طارا عن الأرض فرحاً.. لأول مرة يرون خالتهم فاطمة.. لأول مرة تراهما خالتهم فاطمة.. لأول مرة يشتاق الدم للدم.. وتتعانق الروح بالروح.. لأول مرة يلتقي الأحفاد بخيوط الأجداد..

عادا آخر اليوم..

آخر اليوم عادا يطفح البشر من وجهيهما، شُحِنَا بالكلام شحناً، عندهم من الأخبار ما يحتاج إلى ساعات لسردها..

ملاحظات..

أحاسيس..

ماذا قالت؟

ماذا قالا؟

ماذا وجدا؟

كيف هما؟

كيف هي؟

كيف أنتما معهما؟

الاستقبال؟

المكوث؟

الترحال؟

كل ذلك كان الحديث الذي تراكمت أسئلته وتدافعت.

ضحى اليوم التالي جاءا... التقت زوجتي بأختها.. شقيقتها الكبرى.. لا أحب أن أرى هذا المنظر.. لا أستطيع السيطرة على مشاعري.. دموعي أقرب مما يتصور أحد.. كانت الأختان لم تريا بعضهما منذ تسعة عشر عاماً- لعنةُ الله على الاحتلال- تَرَكَتْهَا عروساً صغيرة، واليوم هي.. هي وأولادها.. بعضهم في الجامعة، وآخرون في الثانوية وما دونها..

أُسْرَةٌ كبيرةٌ..

هدأت مشاعر الفرح الممزوج بالأسى والدموع، ونزلتُ للسلام على « عديلي » ونسيبي.. استعدنا ذكريات، وتركنا خلفنا ما فات، فقد مات، وليس من الحكمة تحريك الرفات، ودخلنا في الأصيل، فاستأذنا في الرحيل عودة إلى فندقهم، وغداً السفر إلى غزة.. آخر كلمة قالتها فاطمة عند الخروج من الباب الخارجي:

-ماذا تريدين من غزة؟

قالت: من الشيخ عجلين.. أُريد بُصيلات زنبق، حتى أُقْنَعَ أبا كريم به وبأزهاره، وأن الشيخ عجلين لا يعز عليه ولا على تلالها هذا العبق الحنون.. بل والحرون!!

قالت فاطمة: بسيطة.. فهو الآن في قمة إزهاره، وسأخرج إلى التلال بنفسي، لا سيما عند البئر الوحيدة في الشيخ عجلين، فأنا أعرف أنه يكثر في التلال القريبة منها.. لكن، ماذا تريدون غيره؟! فتعففنا.

اشتعلت الحرب.. ووجعاً طُحِنَ القلبُ.. وهدأت المعمعة، وعادت الأمور إل ما كانت عليه قبل « الغزو » لكنها بجراحات كثيرة، وذيول غزيرة.. وقيود لا تنكرها العين وإن أنكرتها القلوب الكسيرة.

جاء أبو العبد وفاطمة مارين من عمان إلى « الخفجي » مرة أخرى، حملوا لنا ثلاث بُصيلات زنبق، و «سَحَّارَة »([3]) عنب عجليني، ولا قُطِّين ولا زَبيب، فما زال الموسم في أَوَجِّهِ، وغَشِيمٌ مَنْ يحملُ التينَ هذه المسافة، ألم يقولَوا في الأمثال عن الموجوع المنهوك بدنه « كالتين في الفَرْدَةِ ».

كان فرح زوجتي بالبصيلات لا يوصف، فأنا أعرف حبها للون الأبيض، وتلبية لرغبتها زرعت لها شجرة « جُوري » أبيض أمام نافذة المطبخ الذي تقضي فيه جُلَّ وقتها، قالت: أُحبُّ إذا نظرتُ إلى الحديقة تلامسُ عيناي اللونَ الأبيض بنقائه الأَخَّاذ، ويا حبذا لو كان ذات رائحةٍ أَخَّاذَةٍ أيضاً.

انتقل الفرح إليَّ، فَحَضَنْتُ البصيلات بكفيَّ بحنان عجيب، مع أنها لا تختلف كثيراً عن البصل الذي نأكل ونقلي وتدمع أعيننا من زيوته الطيارة، لكنه الحب.

قالت نسيبتي: ضعهم يا أبا كريم في الأرض من الآن، وستجدها قد نبتت أوائل الصيف القادم ـ إن شاء الله ـ لأن هذا الصيف أوشك على الرحيل، ففعلتُ، لكنني اخترت لها مكاناً لائقاً وسَيَّجْتُهُ حتى يليق بمقامه السامي الذي حدثوني عنه، والحقيقة حتى لا يضيع منها في وسط الحديقة، التي سماها الحسناوي ـ رحمه الله ـ:  

« الحديقة المتوحشة » في إحدى مجموعاته القصصية.

في حزيران القادم بدأتُ أُنَديِّ تُربتَها بقليل من الماء، وأُراقب، وأُحاذر، واللهفة أخذت مني كل مأخذ، وبدأتْ بوادر اللون الأخضر تشق التربة على مهل، وتخرج من كمونها على استحياء، وبدأت تطول وتطول.. ومع الصيف يأتي الضيف، وجاءتنا ابنةُ أبي عايش ومعها زوجها وأولادها.

أذكرها جيداً.. كان أبوها زميلاً لنا في الوزارة في قطر، وكان أخوها زميلاً لي في مدرسة قطر الإعدادية، وقبل ذلك كان جَدُّهَا الشيخ عايش قد عَلَّمَ والدي في مدرسة أسدود في العقد الثاني من القرن الماضي، إذ كان في الصف الثاني الابتدائي، والآن تجاورا في  «الرمال »([4]) بعد أن استولى اليهود على بيتنا في المخيم بحيل، وهدموا البيت.

كان أبي فَرِحَاً بي وبقدومي قُبَيْلَ منتصف السبعينات من القرن الماضي، فقد كنت عائداً من تقديم  «الماجستير » بجامعة الأزهر، وقد تطاول بعنقه فخراً، فقال لأستاذه مازحاً: غداً يأتيك ابني وسيغلبك بعلمه إذا ناقشك أو ناقشته.. فيضحك أستاذه الشيخ عايش.

قال لي الشيخ: خُذْ ناريمان معك إلى عَـمَّانَ حتى تعودَ إلى أبيها في قطر، وستعود بالطائرة، أما أنا وأسرتي فبالسيارة.

بعد سنين، وفي الصيف إياه الذي أَنْبَتَتْ فيه البُصيلاتُ، جاءني زوج ناريمان وهي وأولادهما زائرين، وقد استعدوا للعودة نهائياً إلى غزة.. الأولاد الأشقياء لا تستطيع أن تكبح نشاطهم، ولا تستوقف شقاوتهم.. دخل علينا أحدهم وفي يده نَبْتَاتٌ خُضْرٌ، قد خلعها من الأرض، لما رأيتها انخلع قلبي معها، فقد كانت بُصيلات الزنبق!!

قمت كالمسلوع المفجوع، وأخذتها من يده لأعيدها إلى التربة قبل أن يلفح الهواء الجذورَ الغضةً فلا تصلح بعدها..

أعدتها.. سقيتها.. نظرت إليها بإشفاق العاشق الوامق، والمحب الملهوف، والمنتظر الشغوف..

مضت الشهورُ، وتفتحتِ الأزهارُ، اقتربتُ منها بحذر، ركعتُ على رُكْبَتَيَّ، قربتُ أنفي من إحداها.. جذبتُ نفساً عميقاً من الهواء المحيط بها.. دُخْتُ... أغمضتُ عينيَّ أُسَلْسِلُ الرائحة على مهل إلى رئتيَّ..

أي رائحة هذه؟!

أي روعة هذه؟!

أي بياض هذا؟!

اعتدلتُ من ركوعي واقفاً، ذهبت إلى المطبخ أُبَشِّرُ زوجتي.. فاجأتني: كيف وجدتها؟ هل صدقت؟

قلت: وآمنت..

قالت: الله يخليك اقطفْ لي واحدةً!!

قلت: لا.. ممنوع.. ماذا أقطف لك.. ما هذا الكلام؟

قالت: واحدة فقط؟! أُحبها!!

قلت: ليس كل ما نحب نقطنه، فنحن نحب الأطفال الصغار، فهل نقطف رؤوسهم؟ ألم يقل ذلك برنارد شو؟!

قالت: أوه علينا.. ما لنا ومال براند شو هذا؟ نحن في الزنبق الآنّّ

قلت: لا.. وألف لا..

قالت: لماذا؟

قلت: أريدُ أن استكثرَ منه، أريدُ أن أرى ما تؤول إليه أزهارُهُ.. ولكل حادثٍ حديثٌ.

جاءني يحمل باكورة انتاجها، ممهوراً بعبيرها وزمانه، وجدني أدور في الحديقة ضحى ذاك اليوم من ربيع السنة التي بُعيد منتصف العقد التاسع بقليل، بأسمال بالية خصصتها للحديقة أثناء رعايتي لها، في السُّترة الخارجية « الجاكيت » وضعت مقص الأشجار، ومفكات، ومشرط، ومجموعة مِشَقِ القُماش جعلتها على شكل حبال، وعلبة صغيرة فيها « هرمون تجذير » وحولي علب كثيرة مصنفة حسب السماد الذي أحتاج إليه، وأنا أدور من حوض إلى حوض، ومن طرف  

« بربيج » إلى طرف بربيج آخر في همة ونشاط فنادى: يا أبا كريم.

التفت للصوت، فإذا هو...

رَحَّبْتُ وأَهْلَّتُ وسَهْلَّتُ.. ودعوته لتجاوز باب الحديقة إلى محرابها.

دخل، ارتسمت الدهشة على وجهه مِنْ هَيْئَتِي، فما هكذا أَلِفَنِي، ومِنَ الحديقةِ، فما هكذا توقعها..

طلبت كرسيين ومنضدة صغيرة وضعناها في ظل شجرة التين الوارفة، ووصلنا الشاي، فأخذنا نرتشفه، وعيناه تدوران هنا وهناك، ولسانه يسأل: ما هذا؟ وما هذا؟ سبحان الله، حتى البابونج نبت عندك في الطرقات؟!!

قلت: هذا بفضل الله، ثم توجيه « حماتي »!!

قال باندهاش: حماتُك؟!

قلت: نعم!!

قال: أَتُحَبُّها؟

قلت: نعم، وألف نعم، كيف لا؟ وهى تحبني، وما رأيت منها سوءاً قط، ولا من ابنتها التي أهدتها لي من أزيد من عشرين عاماً فاستولدتها هؤلاء البنين والبنات..

قال: وما توجيهها؟!

قلت: قالت: يا نسيبي؛ إذا غسلت زهر البابونج لا تدلق ماء الغسيل في المجلى أو المغسلة، بل انثره كُوباً كُوباً في أي قطعة أرض، بحول الله، العام القادم سترى البابونج يملأها.

ولما كانت الأرض عندي قد امتلأت بالأزهار والرياحين، نثرت الماء في الطرقات، وهذا ما تراه..

قُمْ بنا أُفَرِّجُكَ على الحديقةِ وأشجارها.

كانت حبات اللوز الأخضر قد انعقدت وكبرت، وطابت لأفواه من يشتهيها، فالتقطت حفنةً منها، و... و... و... حتى وصلنا إلى حوض، فتساءل:

لماذا تركت هذا فارغاً؟!

قلت: هذا حوض الزنبق البلدي!!

قال: وما الزنبق البلدي؟!

قلت: بصيلات أتركها هنا في أرضها، تنبت - بحول الله- مع قليل من الماء في حُزيران، وفي منتصف آب اللهاب تخرج أزهاره فتعبق الجو عندنا، فإذا فقدنا أزهار النرجس في الصيف، عوضنا الله بالزنبق، ويا له من زهر لا مثيل له..

ثم أفضت في الحديث وتسلية الجليس بموضوع الساعة، وكلما أمعنت في الوصف ازدادت عيناه بريقاً وإعجاباً.

قال: يا أبا كريم؛ شوقتنا لهذا الزنبق حتى نكاد نصبح مثلك أسيري هيامك به، وعشقك له!!

قلت: أعدك إذا أزهر أن آتيك ببعض أزهاره، وبعض بصيلات النرجس، فقد طَفَحَتْ به حديقةُ بيتي..

انصرف..

وعدت إلى حديقتي..

وكعاتي.. الوعد يؤرقني دائماً، مهما كلفني من ثمن..

استنبات الزنبق ليس بالأمر السهل، فهو من أَعْنَدِ النباتات، وأرهفها حساً، وأرقها مشاعراً!! وأنحفها عوداً، ومن غرابته سواد بذوره وعدم انتظامها، فريد نوعه، وشهير فرعه، وحسبك من التعب روعة النتيجة، ومع أنني أملك من الصبر طاقةً أُحَسدُ عليها، ومن طول البال ما جعلني موضع اندهاش زوجتي، إلا أنني كنت أطمع دوماً إلى تطوير أدواتي، ما دمت قادراً على ذلك، وحتى أختصر المسافات، وأقلل الأوقات، ذهبت إلى محل في جبل الحسين يبيع حوائج الزراعة..

دخلت..

أَجَلْتُ النَّظَرَ..

موظفة.. وبعض العاملين..

سألتُ: هل عندكم أبصال لأزهار نادرة؟!

عرضوا عليَّ أشكالاً وأصنافاً وأسماءً توحي بالخارجية الغريبة عن بلادنا.. صورها رائعة، فسألت عن الزنبق، فقال الموظف: سَل المهندسةَ.. قامت واتجهت نحوي.. أخذت تشرح لي مزايا كل زهرة، وهي في أكياسها الورقية فائقة الصورة والجمال والعرض الذي لا يُقاوم..

قلت: هل عندكم زنبق بلدي؟

قالت: لا.. عندي زنبق هولندي..

قلت: له رائحة؟

قالت: لا..

فامْتَعَضْتُ..

رأتْ ذلك على قسماتِ وجهي..

قلتُ: طالما أنك مهندسة زراعية؛ دعيني أسألك: كيف يتكاثر الزنبق البلدي؟

قالت: بُصيلات..

قلت: وبالبذور؟!

قالت: مستحيل!!

فَتَبَسَّمْتُ ضاحكاً من قولها..

قلت: يا بـُنَـيَّـةُ؛ لا تقولي لِمَنْ جَرَّب ونجحَ « مستحيل »!!

نظرت إليَّ نظرة استغراب، ثم رشقتني بِعلمها، وقذفتني بجهل هيئتي ولباسي، وعزلتني بشيبتي وكبر سني، فَهْم الجيل المتعلم المثقف!! وأين نحن منهم؟!

في مثل هذه الحال لا أدخل في نقاش، فقد قال أجدادُنا قديماً في الأمثال:  «يا قَارِي العلم على الجاهلين أخطيت » وكيف سَتُسَلِّمُ هذه بـ « بكلوريوسها » الزراعي الفَذِّ أمام شيخ إلى الموت بخطاه يَغُذُّ.

انسحبتُ تملؤني حالة من الإعجاب بنفسي أمام هذه الكومة من العلم النظري، وحملتُ بين يديّ ست عشر بُصيلة بستةَ عشر ديناراً، لبُصيلات أجنبية اسْتُقِدْمتَ مِن خلف البحارّ.

زرعتها.. ويا ليتني ما زرعتها.. ألوانٌ فاقعةُ.. وروائح معدومة، وجهد ضائع.

عندما أَظَلَّنَا آب، كانت أزهارُ الزنبق قد ملأتِ الحوض عندي، قطفتُ بعضاً منها، ونبشتُ حوض النرجس فاستخرجتُ بُصيلات منه، وحملتها جميعاً بشغفٍ إلى الغربِ لأفي بوعدِ أرقني. كان الطريقُ إلى بيتهم تَـحـُفُّـهُ أشجارُ السرو، وكان للسرو عندي منزلةٌ، ولإحساسي به منازل من الذكر والشوق والحنين.

كان جاري اللدود الحقود قد طمع طمعاً لا تحدُّه حدود، من زمن بعيد وهو يمني النفسَ أن يأخذَ حقي فيأكلَهُ، ويشرب بعده الماء، وكان الله بالسِّرِّ عليماً، وكان الغُواة الموتُورون يمدونَهُ بكلِ حيلةٍ توصله إلى غرضه، وكنت متسلحاً بإيماني بالله، ثم حُجتي القوية فيما أملكُ من أدلةٍ وبراهينَ وبيناتٍ وشهودٍ عُدول.

وكان أشد ما يخيفني ويُقلقني ضياع الزنبق مني؟

وتساءلتُ: هل أنبش الأرض واستخرج البُصيلات؟

وإذا طالت مدة الانتظار للفصل في القضية ستجف البصيلات وتموت، كما حدث معي عندما جنيتُ بُصيلات النرجس، بقيتُ في أقفاصها سنتين، فلما ذهبتُ أتفقدها أُسْقِطَ في يدي، فقد وجدتُ قِشْرَاً بلا بصل.

الخوفُ يتملكني..

قمتُ فنبشت الأرضَ، واستخلصتُ بُصيلات الزنبق، وزرعتُها في أُصص بلاستيكية ليسهل سقيها والرعاية لها، كما يسهل حملها إذا ابْتُلِينَا بالرحيل، فلا يضيع تعبي هذه السنين، وقد أوشكتْ البُصيلات على بلوغ الثلاث مئة بُصيلة!!

وبعد سنة، وجدتها في الأُصص حزينةً، قليلةَ الإنتاجِ، لا تأخذُ حريتها في التكاثر والامتداد، استعدتُ الثقة في خطتي، فدلقتُ الأُصص على الأرض، وانتقيتُ البُصيلات الكبار، وعزلتُ الصغار. أعدتُ الكبارَ إلى الأُصص بعد تجديد التربة وتغذيتها، وزرعت الصغار في حوض في الأرض مباشرة.

السنةُ الأولى مجرد أوراق، الصيف الثاني مجرد أوراق، الصيف الثالث مجرد أوراق!!! أدركتُ أن جذورَ شجرة « الجوز » تمنعها من أخذ حظها في النمو، بعضها تتمرد فَتُزْهِرُ... فنسارع إلى بذورها.. وألأُصص بدأتْ تُزهر، فَـنَـدَّخِرُ بذورَها لعل وعسى أَنْ يَمُنَّ اللهُ علينا ببيت آخر يُزهر الزنبقُ فيه، كما أزهر في قلبي من قبل.

([1]) فرن من نوع خاص معروف في قرى فلسطين.

([2]) الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-.

([3]) صندوق خشبي كبير لنقل العنب.

([4]) حي من أحياء مدينة غزة على مقربة من مخيم الشاطئ.

وسوم: العدد 701