قطط

رغم انه ذهب الى العمل باكرا , لم يحصل على فرصة او حيز له في أي مكان للعمل , لم يك هناك من يستأجره في هذا اليوم , فيدفع له , حتى انتصف النهار , حينها قرر العودة الى البيت , لكن .. تذكر ان زوجته طلبت منه ان يجلب شيئا للغذاء , فلا يوجد في البيت ما يسد رمق الاطفال , الذين هم في امس الحاجة الى التغذية الجيدة وهم في مثل هذا العمر , كان صدى صوتها يتردد في رأسه كرنين الاجراس في غرفة محكمة الاغلاق , ترك التفكير بالعودة خال الوفاض , وانعطف باتجاه السوق .

دسّ يده في جيبه , اكتشف وجود ورقتين فقط , تأوه:

-         هذا لا يكفي وجبة غذاء لثلاثة اطفال مع ام واب .

 تجول في السوق بحثا عن وجبة رخيصة تسد الرمق , رمق المطاعم بنظرات مهيبة , سرعان ما ابعد ناظريه عنها , وقف قبالة مطعما للفلافل , ما لديه لا يكفي لخمس لفائف , انصرف مبتعدا .

توقف امام المخبز , قرر ان يشتري عدة ارغفة بورقة واحدة , وان لم يك عددها  كاف لجميع العائلة , الا انه فكر ان يقسمها بينهم بالتساوي , ثم انطلق بحثا عما سيشتريه في الورقة الاخرى , حالما دخل في سوق الخضراوات , توقف امام بائع الطماطم , قال في خلده:

-         سيقول الاطفال لقد سئمنا من الطماطم مع الخبز .. بالزيت او بدونه.

استمر في الاكتشاف , توقف امام بائع الخيار , لكن ورقة واحدة لم تك كافية , حدق في البائع الذي يغرد بصوته الجهوري مناديا اياه حالما رآه يتفحص بضاعته:

-         انها الافضل ... والارخص .. الكمية محدودة .. اغتنم الفرصة .. لا تفوتها.

لم يدر البائع ما يدور في خلده , لذا اظهر نوعا من الغرور , وانصرف مبتعدا بشيء من الزهو , متظاهرا انه اكبر من ان يشتري الخيار! .

استمر في جولته الاستكشافية في كافة انحاء السوق وتفرعاته الضيقة , متفحصا الباعة المتجولين , مستفسرا عن الاسعار , الا ان الفرصة لم تحن بعد كي يجد بغيته .

هناك , وعلى الطرف الاخر من الرصيف , سمع بائعا ينادي بصوت مرتفع:

-         ارجل دجاج .. كيلو واحد بورقة ... ارجل دجاج .. كيلو واحد بورقة.

 بالرغم من ان صوته كان مبحوحا , الا انه طرق مسامعه كتغريد العندليب :

-         كيلو واحد سيكون كاف جدا ... كما واني املك الثمن.

اسرع نحوه , لكنه توقف , عندما تذكر انه ابن البلد , يملك من العزة الكثير , لكن .. طرقات الجوع لا ترحم , ان تحملها هو وزوجته , فأنه لا يحتمل ان يرى فعال الجوع في صغاره , فكر ان يتنازل عن الانفة , لكن ذلك كان صعبا عليه ايضا .

لاحظ ان المقبلين عليه من ذوي الفقر والفاقة , سمع البائع يسلقهم بلسان حاد , اما من يجاوره من الباعة الاخرين كانوا يسخرون منهم :

-         كلوا .. واشبعوا .. لولا ارجل الدجاج وثمنها الرخيص لمتم من الجوع .. او انقرضتم !.

الى غير ذلك من الكلمات التي ظن انها جارحة , لم يك لهم حول ولا قوة , جرعوا تلك الغصص تحت وطأ الفقر , الجوع , العوز .

 توقف يتربص فرصة مناسبة , لم تطاوعه قدماه للابتعاد , فجأة , حانت الفرصة ! .

ركنت سيارة فخمة , ترجل منها رجل ضخم الجثة , يرتدي بزة غالية الثمن , ادار ربطة عنقه , واعاد ترتيب سترته , توجه نحو البائع , الذي هبّ لاستقباله مرحبا :

-         اهلا استاذ .. تفضل .. لدينا اليوم بضاعة طازجة!.

مبعدا بعض الفقراء عن طريق ذلك الاستاذ , موسعا له الطريق , سمعه يطلب خمسة كيلو من ارجل الدجاج , اغتنم الفرصة , وقف بجواره , وطلب كيلو واحد فقط , حدقا فيه , البائع والاستاذ , بدوره راقب الاستاذ يخلع نظارته قائلا :

-         كلابي المدللة تحبها كثيرا!.

امتعض جميع الفقراء لسماع كلماته , خرجت من فيه بشيء من الزهو والتكبر وبعضا من الخيلاء , فنظروا اليه بازدراء , كان الاجدر به ان يراعي مشاعرهم , او على الاقل ان يتفوه بها بطريقة اخرى لا تمس مشاعرهم .

امتعض صاحبنا بدوره , وشعر بشيء من الاذلال :

-         هذا الرجل الغني يشتري ذلك طعاما لكلابه .. مزاحما الفقراء الذين يبحثون عما يسد الرمق... يا لبئس هذه الحياة و يا لتعاستها ! .

كانت شفتاه ترتجف , محاولا التعليق او الرد على كلام الاستاذ , خانته التعابير , وانحبست الكلمات في حنجرته , بينما كان البائع يزن الكمية المطلوبة , استجمع هو قواه , راسما صورة اطفاله وزوجته , وفرحتهم بعودته بشيء جديد , يغير الروتين اليومي الممل , وقال مبتسما ابتسامة المنتصرين مع شيء من البلاهة , مصحوبة بشكل من اشكال الزهو المتصنع :

-         قططي .. ستحبها كثيرا ! .

وسوم: العدد 702