حكم الله

نُدف الثلج الكبيرة تتساقط بغزارة حول مخفر الشرطة ، ترسم طبقات رقيقة فوق سطح المخفر والبيوت والأشجار المحيطة ، بعد لحظات تقترب سيارة الشرطة من المكان ، يترجّل الشرطي "إيوان" وسيّده "معروف" منها ، قبل أن يُخرجا شاباً مذلولاً من الباب الخلفي للسيارة ، غرس "إيوان" بيده الثخينة نطاق سروال الشاب من الخلف وأمسكه بعزم ، في حين سحبه "معروف" من ياقة قميصه بقرف وجذفاه في زنزانته .

كان عوشر فلاحاً بسيطاً عشرينياً ناحلاً ، نمى الشعر بتعب على وجهه المرعب ، و انسدلت من تحت منديله المتّسخ الذي يغطي رأسه خصلة شعر طويلة متلبّدة يبدو أنها لم تمشّط منذ زمن بعيد ، في حين دَكّ نهايات سرواله المرقّع في جزمته الطويلة التي فاخت منها رائحة زبل البقر المالحة .

في الزنزانة سجين متأنق في منتصف العقد الثالث من العمر ، يلف ساق فوق ساق ويحدّث نفسه طوال الوقت ، وبين فينة وأخرى يفرّ واقفاً ليدور في زاوية الغرفة ، وتحسبه يضرب أخماساً بأسداس ويستغرق في تفكيرٍ عميق .

جلس عوشر بالقرب من الباب كليلاً و يلتفت حوله ببسور ، ثم يفكر بنفسه  "ما الذي فعلته بنفسي ، ليتني لم أسمع كلامها.. "

أشار إليه السجين بيده :

- هيه أنت ..?

وبنزق رمقه عوشر :

- هل تحدثني ..?

نظر إليه السجين ثم أخذ يقلّب ناظريه حوله :

- وهل يوجد مجرمَين غيري وغيرك في هذا القصر المنيف ?

- نعم يوجد أصدقاؤك العفاريت من تكلمهم منذ دخلت "قصرك" اللعين هذا .

ضحك السجين بطريقة تنم عن اعتلال في الشخصية :

- هئ ، هئ ، تعال ، تعال واحكي لي حكايتك .

سمع عوشر كلامه ومزاجه المتقلب ومكث في مكانه دون أن يراعي دعوته. تململ الرجل ، ثم اقترب منه ومدّ يده ليصافحه :

- اسمي "أدهم" من العاصمة وأعمل محامياً ، أسكن في هذه البلدة منذ سنة تقريباً ، أي منذ أن قامت القوات الحكومية بتهجير سكان بلدتي . وأنت ?

استوى عوشر في جلسته ، وقام بمصافحته بتثاقل :

- وأنا عوشر من سكان هذه القرية.

- مممم ، يبدو أن جنايتك كبيرة حتى أنك لا تقوى على الكلام . أنا محامي يا هذا وأعرف جيداً قوانين هؤلاء الرجال ، تكلم وسأساعدك ... هل هي المرة الأولى التي تصبح فيها سجيناً ?

- نعم .

- وماذا فعلت ? هل قتلت ، انتهكت الأعراض ، اعتديت على أحدهم ?

- بل سرقت .

- أوه ، هذا فعل سيء يا رجل ، على كلٍ حدثني بالتفصيل حتى أساعدك ، هيا لا تفرغ صبري ، أنا "أدهم جاد الله" أكبر محامي في العاصمة قبل الثورة لأعوام ، كما أنا كاتب وأديب ، هيا تكلم لعلي أجد في قصتك ما يستحق الكتابة وأساعدك .

كوّر عوشر جسده من البرد ، ثم أخذ ينفث أنفاسه الدافئة في يديه :

- لم أكن أريد فعل ذلك صدقني ، زوجتي هي السبب .

- لا تحدثني عن النساء يا أخي ، أعرف أنهن ماكرات في كل شيء ، حتى أني لأعتقد جازماً أن هذه الحرب هن من أشعلنها .

 

سكت أدهم قليلاً ثم أخذ يتأوه :

- أهٍ ما أجمل النساء .. أكمل يا رجل أكمل ، وما علاقة زوجتك بوجودك هنا .

- هي طلبت مني أن أسرق كيسين من الحصى الموجودة على أطراف الشارع حتى أفترشها لبقرتنا في الزريبة ، فهذا الشتاء قاسٍ وزريبتنا تكاد تغص بالطين .

- أوه ، هل تقصد أنك سرقت من الأملاك العامة.. يا إلاهي !?

- جمعت كيسين فقط من الحصى المتناثرة على أطراف الشارع ، فهو زائد عن حاجة الشارع ولم تقل البلدية أن ذلك مال عام . كما أن رئيس البلدية قام ببناء بيته الجديد من المواد المخصصة لتعبيد الشارع ، زوجته قالت لزوجتي ذلك ، والكل في القرية يعلم ذلك ، لكن لا أحد يستطيع ذكر الأمر جهارة لأن رئيس البلدية مدعوم بفصيل عسكري كبير ..

دمدم أدهم ، ثم فرّ واقفاً ، وعاد يتجول في الزنزانة :

- أعذرني يا هذا لا أستطيع مساعدتك ، فهذا لا يبرر لك السرقة ..

قال ذلك وعاد إلى مكانه في زاوية الزنزانة . سمع ذلك عوشر ، وزحف بالقرب من أدهم :

- وهل جنايتي عويصة إلى هذا الحد ? أنت محامٍ وتعرف في القانون ?

عاد أدهم للتأوه من جديد :

- آه ماذا أقول ، مسكين أنت أيها الشاب .

قال عوشر وفي لهجته تسخيف لكلامه :

- سأسجن ? سأدفع لهم ثمن الكيسين وتنتهي القضية .

- أنت تسرق المال العام ، هل تعي ما أقول ? و ستحاكم وفق قانون ديني لا لعب فيه ، أتضن أنك لازلت محكوماً بأهواء وقوانين الحزب الحاكم ، سلطة الحزب انتهت في هذه القرية و أنت تعيش تحت حكم الله و سلطة الثورة وهي سلطة لا مراء بها . أم أنك تعترض على سلطة الثورة ?

تبدلت حال عوشر ، وتغير حبره وسبره  :

- لا أعوذ بالله .. لكن .. هل تقصد أنهم من الممكن أن يقتلوني ? ألأجل كيسين من الحصى أُقتل ? إنك تهذي يا هذا ? لم أسمع أنهم قتلوا أحداً لمثل هذا ?

أخذ أدهم يضحك لكلامه :

- هئ ، هئ ، أنت تنشل المال العام ، وهذين الكيسين من مال المسلمين ، انتهينا ، قد صدر حكم الله بك، بعد قليل سيستدعونك للتحقيق ولن يصدقوا روايتك ، وستُسأل عن جماعتك . كم عددكم ، لأي جهة عسكرية أو سياسية تنتمون ، وما هي الأماكن التي قمتم بسرقتها طوال هذه المدة ?

- جماعتي !? بماذا تهذي يا رجل ، أقول لك أني أخذت كيسين من الحصى الفائض عن حاجة الشارع لأفترش زريبتي ، وتسألني عن جماعتي ، هل أنت محامي أم محقق ?

- هئ، هئ ، اهدأ ، سأحاول مساعدتك ، أخبرني من هو صاحب الدعوة ?

تنهد عوشر الصعداء بتوتر :

- رئيس البلدية ، وقد قال أن الشارع اختلّ تقويمه بسببي .

سكت أدهم ، ونام على بطنه وهو يضحك :

- هئ ، هئ ، لن تنجو يا رجل ، لن تنجو .

تركه عوشر وعاد إلى مكانه ، يتفكر في كلامه غير مقتنع بما دار من حديث ، في ذات الوقت عاد أدهم واستقام في جلوسه وتربع في جلسته ، وقال بجديّة :

- هيه أنت ، إن العرب إن عفت عن لصهم ضربوا بسيوفهم ناصيته ، كنت اتمنى مساعدتك ، فلتسامحني على ذلك.

ثم زمّ شفتيه ورفع يديه دليل عجزه ، ولم يقوَ على كبح فمه عن الضحك بهستيرية.

بعد لحظات فُتح باب الزنزانة ، وتم استدعاء عوشر للتحقيق معه ، بقي قرابة الساعة في التحقيق ، وعندما عاد ، جلس ولم يتفوه بحرف . و بينما أدهم مستلقٍ على ظهره وقد أسند ساقيه على الجدار ودون أن يلتفت إليه ، قال :

- ها ، لم تصدقني . ما قلته لك لم يكن تلفيق كاتب ولا اختلاق شاعر .. قلت لك أنا محامٍ .. محامٍ

وكمن يحدّث نفسه ، طأطئ عوشر رأسه :

- لم يصدقوا أنها المرة الأولى التي سرقت بها ، وقد سألوا إن كنا عصبة نمتهن اللصوصية والاحتيال ، لكنهم لم يضربوني ، وعندما سألتهم إن كانوا سيقتلونني ضحكوا ملء معاطسهم ، حتى أن رئيس المخفر انقلب على ظهره من شدة الضحك ، وقال رفيقه ببرودة "سنقتلك فقط !? بل سيتم تقطيعك وربما حرقك ، هههه هاي".

قال عوشر ذلك و أخذ يبكي حتى ابتل شعر وجهه ، ثم التفت إليه أدهم وأخذ ينظر إليه بحدّة :

- هيه ، أتبكي مثل النساء وأنت رجل بدويّ، على كلٍ هناك مخرج وحيد  كي تنجو .

- وما هو ?

سأل عوشر بسرعة ، وبوشوشة اقترب منه أدهم  :

- بعد ثلاثة أيام سيتم نقلك إلى المحكمة الشرعية وسيصدر بحقك الحكم ، وفور خروجك من باب هذا المخفر سيكون بإمكانك الهرب ، أركض ، أركض ولا تلتفت خلفك .

عوشر وهو يمسح دموعه :

- لكنهم سيطلقون النار عليّ  .

- لن يفعلوا ، صدقني هذه فرصتك الوحيدة ، وأنا أعي ما أقول ، كما أنه ليس أمامك أي خيار آخر ، وإلا سينفّذ فيك حكم الله.

قال ذلك وراح يضحك كعادته ويعوي كالذئاب .

    و في صباح اليوم الثالث فتح "إيوان" باب الزنزانة ، وهو يرتدي بيجامته و يتمطى من النعاس ، ثم صرخ :

- عوشر ، جهز نفسك سوف تخرج .

رد عوشر ، والذي لم ينم ليلته تلك وهو يتفكر بكيفية الهرب :

- إلى أين ?

- إلى أين يا أبله ! للإعدام ، ههه هاي ، هيا أيها الأبله ، لقد خنقتنا برائحة الزبل المنبعث من لباسك .

خرج عوشر ، وما إن وصل باب المخفر حتى أطلق ساقاه للريح و ركض حتى انقطعت أنفاسه ، وخلفه يقف "إيوان" على باب المخفر واضعاً يداه في جيوبه ويصرخ مستغرباً وضاحكاً :

- توقف يا مجرم ..

سمع عوشر صراخه ودون أن يلتفت عَبَر الشارع وهو يتمتم (صدر حكم الله .. صدر حكم الله) ، فجأة تصدمه سيارة مسرعة . ليسقط متضعضعاً مهشم الوجه على الأرض ، هرع الجميع نحوه ، أسرع "إيوان" وقد احتضنه  بكلتا ذراعيه :

- لماذا هربت يا مجنون .. كنا نريد إيصالك لبيتك وزوجتك ..

تسايل الدم من أنف عوشر ، وراح ينشج بلوعه :

- كنت .. كنت أريد أن أهرب من حكم الله .. لكن أين المفر ، نحن الجناة الضعفاء لن نستطيع أن نهرب من حكمه ..

كثر الهرج حوله ، وارتفع صوت إيوان  :

- أحضروا مسعفاً .. إسعاف .. أين الإسعاف ..

بكى إيوان ، وتخضبت سترته بدماء عوشر الذي سرعان ما جفأت عيناه .

وسوم: العدد 702