الغريب الشجاع

مصعب محمد الشيخ ويس

عندما أناخ راحلته كانت أزقة مكة هادئة ، ثمّة أصوات تصل إلى سمعه أدرك أنها لبعض العبيد أثناء تجهيزهم حوائج ساداتهم ، وقت الهجير تخلو سكك مكة إلا من بعض عجائز حبشية يفترشن أبواب منازلهن .

مشى إلى حيث الكعبة نهاية  طريق كل غريب عن أم القرى ، فهي ملتقى عِلْيَة  القوم  ومنتهى الأخبار ، عيناه تراقبان الناس بخوف وفي قلبه رجاء الحائر عن دربه ، انتهى به الزقاق  وكعبة (قريش) أمامه ، اسند ظهره إلى جدار دار الندوة ، أمواج الأسئلة تتلاطم في رأسه ، فمنذ بدايته كان يرفض عقائد العرب و أصنامهم ، كان حراً بتفكيره جريئاً بأفكاره ، رفض ظلم السادة للمستضعفين ، السماء بنجومها والأرض بجبالها ، والإبل بغريب خلقها لا بد أنها تدل على مبدع ، و ليس من المعقول  أن شركائه من خشب،  كانت هذه أسئلة تخطر بباله وتزيد من شكوكه ؟!

تعب السفر وقلة الزاد تَغلّبَ على جفنيه فأطبقهما مستسلماً لنومٍ حذر ، أيقظته يدُ شاب بالسابعة عشرة  وصوت هادئ يسأله :

-         أراك غريباً يا أخ العرب ، ومنزلي قريب  فهل لك بضيافتي الليلة .؟

-         ما  رأيتَهُ صحيحاً أيها الفتى ، على أن لا تسألني عن سبب قدومي .؟

ضوء سراج يتراقص أمام الفتى الشاب وضيفه الغريب يتبعه بحذر ،  دَلَفَا غرفة في ناحية الدار تتبعها فُسحة صغيرة يدخل منها هواء مختلط الأحوال .

أمضى يومه الثاني يجول بين البائعين ويجالس أصحاب المهن من العبيد يسمع منهم أخبار أهل مكة والاضطرابات التي حصلت بعد إعلان ابن عبد المطلب عن دينه الجديد ، أحزنه تعذيب الضعفاء وسجن الأحرار من الذين اتبعوا محمد بن عبد الله  النبي الهاشمي ، سمع أيضاً عن تعذيب خبّاب بن الأرتّ صانع السيوف من مولاته أم أنمار وهي تحمّي حديدةٍ لتكوي بها ظهره وتضعها على رأسه ، مما زاد وَجَلَهُ  من جواسيس سادة قريش .

عند غياب الشفق الأحمر كانت خطىً مسرعة تتجه إلى هذا الغريب الذي افتقده الشاب الكريم .

-         مرحباً وأهلا بالفتى الشهم ، لقد هممت بالقدوم إلى بيتك لكني قلت هذه الليلة الثالثة أبيتها عند هذا الفتى بلا أي كلام أو تعارف فاستحييت .!

-         اتبعني يا أخ العرب ولنا حديث .

بينما كان الفتى ينقل طعام العشاء آنسَ في عينيّ ضيفه طمأنينةً ورغبةً في الحديث فبادره قائلاً : 

-         لم تقل لي اسمك  حتى أناديك به أو كنيتك إن أحببتها .؟

-         اسمي جندب ، جنادة  أبي من غفار وكنيتي أبا ذر .

-         أهلاً ومرحباً ، اسمي عليّ  بن أبي طالب .

-         لقد ملأ اسم أبيك بيوت العرب فمن لا يعرف صاحب الرفادة والسقاية في حج العرب لهذا البيت ، نِعْمَ العَشِيْرُ أنتم بني هاشم ، ولقد قَـصُرَ طريقي بمعرفتك فهل قضيت حاجة ضيفك .؟

-         قد وصلت إن كانت عندي .؟

-         حَسَنٌ ، لقد بلغني نبأ صاحبكم وأنه يدعو الناس إلى دين لم تعرفه العرب وأنْكَرَتْهُ قريش فإن أخذتني إليه أكلمه وإلاّ اكتمْ عني ما كان بيننا .؟

-         ما يقوله صحيح يا أبا ذر وأنا على دينه ، وإن كان الغد اتبعني فإن رأيتُ ما يخيف وَقَفْتُ كأني أريقُ الماء ، عندها ابتعد ، وإلا فحيث أدخل تكون ورائي .

رغم وعورة الطريق لم يشعر أبا ذر به  لِما في داخله من اضطراب الفرح والخوف بأن يكون اللقاء كما يحب ولا يريد أن يصدق كلام قريش بتخويفهم العرب منه ، بينما هو بهذه الأفكار وإذ بالفتى عليّ ينبّهُهُ بصوتٍ خفيف ،

-          أمامك دار الأرقم هيا .!

هيبة رسول الله ملئت كيانه وانغرس النور في قلبه ، آمن بالله الواحد وبمحمد عبده ورسوله ، طلب أبو ذر أن يبقى في مكة مع النبي وصحبه .؟ شرح له الشباب الموجودين بدار الأرقم خطورة بقاءه معهم وعدم الجدوى من ترك بلده في الوقت الحالي ، سيما أن الجميع يخضع للمراقبة والملاحقة ذلك أن قريش قد اتخذت قرارها بالمجابهة ووأد الدعوة في مهدها وتم تشكيل مجموعات (مخابراتية  )!! بقيادة أبو جهل بن هشام .!! استوعب أبو ذر كلام إخوانه بدون كثير عناء فقد وجد ما وصفوه له على ألسنة الناس فقد أمضى أيام ثلاث سمع الكثير عن التعذيب والاضطهاد.فَصَلَ رسول الله بالأمر حيث قال : - ارجع إلى قومك فأخبرهم عني وادعهم حتى يأتيك أمري .

لم يكن أمام جندب بن جنادة عند هذا القول إلا السمع والطاعة ولكن حبه وحماسه وفرحه دفعه إلى قرار ، لا يتخذه غريب في أجواء أمنيّة متوترة قد تكون حياته ثمناً لهذا الاندفاع ، إلا أن يكون شجاعاً قوي العزيمة :

-         والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم .

نزل مسرعاً بين الشعاب ولما وصل أمام الملأ من قريش وحولهم العبيد والسفهاء صرخ بهم ، يا معشر قريش إني جندب بن جنادة جئتكم من غفار وإني أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله .

عصف الغضب بالملأ ، اِكفَهَرّت الوجوه وانتفخت الأوداج ، كانت إيماءة عقبة بن أبي معيط لمن حوله كافية أن يقوم إليه  الأوباش وعناصر القمع المدربين ، ضربوه وضربهم كَثُرَ الناس حوله حتى تورمّت وجنتاه والدم ملء فمه .

ظهر العباس بن عبد المطلب وجيه بني هاشم يستعجل ترتيب ردائه فوق كتفيه صائحاً

-         اتركوه ، اتركوه  ، يا معشر قريش هل تريدون أن تقطع علينا غفار الطريق إن أصابه مكروه أو قتل بأيديكم  ، أم أنكم نسيتم اقتراب موعد تجارتنا إلى الشام .؟

حركة خفيفة من  الوليد بن المغيرة  كانت كافية لتوقف الجميع ، وترك أمره للعباس الهاشمي .

مرتّ الأيام ودارت الشهور وإذ بوفد غفار يملأ المسجد النبوي في المدينة وأبو ذر يقبّل يد حبيبه وشفيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم  ورجال غفار وأطفالها يتقدمون الصفوف ، رسول الله أعجبه عمل صاحبه الغريب الشجاع ذلك أنّ طاعته في الابتعاد عن مكة حينها والبقاء بين قومه يدعوهم إلى الإسلام  أثمر اليوم  حليفاً قوياً له بين أعراب المدينة .

وسوم: العدد 702