ضيافة الموت

معاذ عبد الرحمن الدرويش

لم ينم ليلة البارحة، فصرخة زميله لا يزال صدى وجعها يتردد في أذنه ، كمطرقة حديدية تضرب برأسه مجيأة و روحة - رغم أن صراخ الألم هنا لا يتوقف ليل نهار -  لكن صرخة البارحة كانت معبأة بالألم لدرجة أنها يمكن ان تقتل سامعها ، ربما أنها تشبه صيحة ثمود ،كما جاء بالقرآن الكريم،أو ربما أنها تشبه صرخة إنسان يلقى في نار جهنم. و أعينه لم تعد ترى شيئاً إلا "إلية" زميله كيف انسلخت عن جسده و سالت على السخانة الكهربائية، و أنفه التي كانت تتلذذ بإشتمام رائحة شواء الكباب باتت اليوم مزكومة برائحة شواء لحم بشري، رائحة تدعو للإقياء ،إلا أن جوفه الفارغة من أي طعام أو شراب ترفض حتى أن تتقيأ نفسها.

لم ينم ليلة البارحة ، و هو يفكر ماذا سيفعل في لقاء الغد؟، إذا اعترف زوراً و بهتاناً على نفسه بأنه حمل السلاح، فحتماً سيكون مصيره مصير صاحبه بالجلوس على سخانة الكهرباء، و إذا لم يعترف فإنه سيجلس عليها أيضاً، هذا ما هدد به المحقق و أنذره به في نهاية التحقيق.

جميع المعتقلين ينصحون بعضهم البعض بعدم الإعتراف بحمل السلاح ،مهما اشتد التعذيب، رغم أن كل ما فعلوه أنهم خرجوا بمظاهرات تطالب بإسقاط النظام،و حملوا لافتات الحرية، نعم هم يعترفون بذلك ،إلا أن المحقق يصر على التوقيع و البصم بحمل السلاح و قتل المدنيين و ليس حمل لافتات الحرية.

فتح السجان الباب و نادى برقمه، حاول أن يستجمع كل قواه الخائرة و أن يستنهض روحه الهزيلة ، حتى استطاع أن ينهض ببدنه، لبطه السجان لبطة برجله أخرجته من الباب، لم يكترث بلبطة السجان، يمشي إلى الأمام وكل ما يفكر به كيف سيواجه مصيره المحتوم،كيف سيصرخ كما صرخ صديقه بالأمس ،كيف ستشوى "إلية" مؤخرته ، كيف سيشتم رائحة لحمه المشوي،كيف... و كيف؟.

طرق السجان باب المحقق رمى التحية العسكرية، ثم تركه واقفاً ، أغلق الباب و ذهب، كانت عيناه لا تنزاحان عن السخانة الكهربائية، فوق السخانة إبريق شاي كبير جدأ،لم ير بكبر حجمه طيلة حياته،الماء يغلي و "يفور" داخل الإبرق و البخار يتصاعد من "زلومته" .

لم يكترث المحقق لوجوده أبداً، كان أمامه مجموعة كبيرة من الأوراق يقرؤها و يوقعها.

قلبه يدق ، عيناه لا تبرحان النظر عن السخانة و الإبريق فوقها، و هو يفكر كيف سيجلس مكان الإبريق بعد قليل، و كيف ستحترق مؤخرته.

رفع المحقق رأسه و قال لماذا أنت واقف تفضل إجلس؟، و أشار بيده إلى جهة السخانة، ارتعدت فراصعه، تلعثمت الكلمات في صدره و الله يا سيدي أنا .. خانته عيناه بالدموع... إلا أن المحقق أسعفه و قال له لا تخف تفضل إجلس فانت شاب وطني ،انتبه إلى وجود كرسي بجانب السخانة فهدأ من روعه، و تكوم على نفسه في زاوية الكرسي .

قال المحقق: لقد تبين لنا انك شاب شهم و وطني ، و كل التهم بحقك باطلة، "و نحن غلطانين بحقك" . لم يكن يصدق ما يسمع ، اشتعلت بارقة أمل  في داخله المعتم، ثم قدم المحقق له كأس "متة " كبيرة جداً، تتناسب مع كبر إبريق الشاي..ثم قدم له طبقاً  مليئاً بالسكر قال له إذا تحب أن تشرب "المتة" بالسكر فهذا سكر أيضاً.

هل هو في حلم؟!.. لم يكن يصدق ما يحصل.

قال المحقق قلت لك اشرب "متة"، صب الماء المغلي فوق كأس "المتة" و ارتشف أول رشفة ، منذ عدة أشهر لم يتذوق مشروباً لا حاراً و لا بارداً سوى الماء الآسنة ، هو لا يحب المتة و لم يشربها في تاريخه أبداً، لكن مع أول رشفة "متة" ساخنة و حلوة انتعشت الروح قليلاً في جوفه المتشققة.

أمضى وقتا طويلاً حتى انتهى من شرب أول كأس، المحقق لا يبالي به، و يتابع توقيع أوراقه.

التفت إليه بعد قليل .قال له أريدك أن تثبت لي أنك وطني ، إذا شربت هذا الإبريق، و سأطلق سراحك .

 يا إلهي ماذا حدث بين الأمس و اليوم؟! .

بالأمس لم يتركوا نوعاً من أنواع العذاب إلا و أذاقوني إياه، و لم يبق إلا الجلوس على السخانة الكهربائية.

انقلبت ذاكرة مخيلته من آلام الجلوس على السخانة الكهربائية، إلى أحلام الإنطلاق في عالم الحرية ، عادت إلى ذاكرته صورة أمه و صور أخوته و أخواته، صور أصدقائه ، و بدأ يشرب الكأس بسحبة واحدة،حتى انتهى من الإبريق .

رن المحقق الجرس فدخل العسكري، أمره أن يملأ الإبريق بالماء من جديد..ملأه العسكري ثم وضعه على  السخانة،قال له المحقق سأذهب قليلا و عندما أعود أريد الإبريق الثاني قد انتهيت من شربه ،و أمر العسكري أن يراقبه ريثما يعود.

غاب المحقق قليلاً ثم عاد ، في هذه الأثناء أخذ الماء الساخن مجراه في الجسم فطلب أن يذهب إلى الحمام، قال المحقق عندما تنتهي من الإبريق الثاني ستذهب إلى الحمام، فسارع أكثر من وتيرة شربه حتى انتهى من الإبريق الثاني.

هنا انقلب وجه المحقق و صرخ عسكري، دخل العسكري بسرعة. " إربط ذكر هالخائن"... جرده العسكري من سرواله و بانت عورته كاملة أمام المحقق و العسكري، كان بيد العسكري لاصق وضعه على مقدمة عضوه الذكري، ثم أخرج من جيبه خيطاً ناعماً و ربطه بإحكام، و انهال المحقق عليه بالضرب ...تريديون أن تسقطوا النظام يا عملاء إسرائيل و أمريكا ...

ثم أمر العسكري أن يرجعه إلى المهجع، أخذه العسكري و رماه خلف الباب ، قيد يديه إلى الخلف و قدميه، ثم قال: إن كل من يقترب منه سينال مصيره ثم خرج.

و بدأ ماء "المتة" يتجمع في مثانته، و الألم يشتد شيئاً فشيئاً، صراخه بدأ يعلو و يعلو، و بدأ يتقلب ذات اليمين و ذات الشمال بأطرافه المقيدة بالسلاسل، و جسده المثقل بالألم، صراخه يعلو أكثر فأكثر و تقلبات جسده تزداد، يتقلب فوق أصحابه بالسجن، استمر صراخه المدوي طيلة النهار و الليل، ثم بدأت وتيرة الصراخ تنخفض شيئاً فشئياً و حركات جسده بدأت تهمد، هكذا استمر الوضع ليومين آخرين إلى أن توقفت أنفاسه و غادرت روحه من ضيق المهجع إلى فضاء السماء الرحب...

ملاحظة:الأحداث الرئيسية للقصة ليست من نسج الخيال و إنما برواية أحد معتقلي سجون نظام الأسد و قد كتبت له الحياة و خرج منها.

وسوم: العدد 704