وقال في نفسه بارتياح: وبيتذكّر كمان! 2من3

لم يكن الطريق طويلا إلى بيت صديقي، فلما وطئتُ عتبتَه ظننتُني "زعيمًا" يدخل بيت الأمّة، وما كانت "الأمّة" إلا الصديق "أبو خالد"، وزوجته التي بدت لي أقوى منه بنيةً وأصلب عودا.

ــ كيف الصحة؟ كيف الأولاد؟...

كان صديقي، قبل ما يقارب نصف قرن من عمر الزمان، يشغل وظيفة "معاون مدير" في الدائرة الرسمية التي كنت فيها مديرا. ذكّرتهما بما اقترح عليّ يومًا، من أن نمضي، بموظفي الدائرة في يوم عطلة، بحافلة صغيرة نستأجرها تقلّنا ذهابًا وإيابا، إلى أحد المُتَنَزّهات في مصيف "بلودان".

تحدّثت، وأفضت:

ــ وكنت أنت، يا "أم خالد"، التي اخترتِ لنا مقهى كان يومئذ متواضعا، نزلنا إليه عبر منحدر عريض ترابيّ، وداست أقدامنا ونحن حول الموائد أرضا من تراب، وقد عرفت أنك أنت مَن وجّه قبل ذلك على أكلة "الصْفيحة" (أقراص اللحم بالعجين) وملحقاتها من المسبّحة والمتبّل واللبن والبصل والنعنع، ولم تكن قد ظهرت بعد مياه "بقّين" المعبّأة بالقناني. أكلنا، تظلّلنا أغصانُ أشجار ذات حفيف، واستقينا الماء من حنفيّة المطعم. وفي العودة سويعة الأصيل، لله كم تضاحك الشباب في الحافلة وغنّوا وأطلقوا الشدّيّات... ذلك المتنزّه الذي كان، هو اليوم "مطعم أبو زاد" الشهير، ينزلون اليوم ذلك المنحدر على أدراج من رخام، وأرضه الترابية - هذا قبل استعار الحرب والآن لا أعرف! - باتت شرفاتٍ ومطلات... هل تذكر هذا، يا أبو خالد؟

كان صديقي يصغي إليّ وكأنه يستمع إلى قصة  فنية، ولكنّ محيّا أمّ خالد كان يزداد إشراقًا... وسمعتها تقول:

ــ أنا أذكر هذا كله، يا صديقنا العزيز، نعم، أنا التي اقترحت النزهة عليكم، وأوصت على الصْفيحة، وطربت للأغاني... سقى الله تلك الأيام!

وأما صديقي أبو خالد، فقد خيّل إليّ أنه يحدّث نفسه بارتياح: وصديقي بيتذكّر كمان! 

وسوم: العدد 707