على جبل أعراف المي/ هانم!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

أَوْ كالذي مرَّ بي، وأنا في غيبوبةِ الصَّعقِ؛ إذْ صفعتني الميُّ/ هانم .. صفعاتِ الطَّردِ مِن جَنَّتها الهانئة، وبساتينها الوارفة، وأنهارها العذبة! فأيقَظَني بالضَّربِ، واللوم، والرَّجم! فلم أدرِ إلاَّ والدماءُ تتقاطر مني كالبحار الهادرة! فأخذتُ أعدو، وأعدو؛ وأنا لا أعرف أين أنا؟! ولا مَن هذا الذي بَطَشَ بي؟!

وبعد مسيرةِ يومينِ في الصحارى المُوحِشة؛ فوجئتُ بـ(جبران) يُمسِكُ بي هو وزبانيته؛ فأمرَ بأنْ يُوثِقوا وَثاقي! وبالفعل، أحضروني على جِسرٍ شاهقٍ، النيرانُ مِن حولِه، وتحتِه .. تلتهمُ الجميع!

فتركوني؛ للنارِ الحارقة المُحرقةِ؛ فذاب لحمي، وتفحَّم قلبي! وزفزفتْ روحي من شِدَّةِ الألم! وسال الصَّديدُ منِّي؛ فلا حدَّ له!

وفوجئتُ بالميِّ/ هانم .. تخرجُ علينا في زينتها، وبهرجها؛ فقام الجميعُ؛ إجلالاً لها ما عدايَ!

ساعتها، زفرتْ الميُّ زفرةً، أطارتْ بي في قعر جهنَّم! فخاستْ بي دركاتُها، وكانت كلُّ دركةٍ تُسلِمني إلى التي تحتها؛ حتى وصلتُ إلى الدَّرْكِ الأسفلِ منها! فلمّا رآني المنافقون صاحوا فزعاً مني، ومن منظري: نعوذ بالله منك! مَن أنت؟! اللهمَّ لا تُعذِّبنا مع هذا المغضوب عليه، الضَّال المُضِل!

ثُمَّ، فوجئتُ بـ(جبران) يغمِس يديه؛ فيُخرِجني من الجحيم! وقام بوضعي على جبل أعراف المي! فلم يقوَ أحدٌ على رؤية منظري، ولا شمِّ رائحتي النَّتنة! فأومأتْ الميُّ أنْ اغسلوه بماء الحياة، وبمِسك الحور العين! فلمّا فعلوا ذلك، أصبحتُ خلقاً آخر!

ثمَّ، وضعوني على خشبةٍ حدباءَ للحساب، خائرَ الروح، مهزومَ القُوَى، مسلوب الإرادةِ، بين الموتِ والقتل!

عند ذلك، قالت الميُّ/ هانم .. لماذا يا هذا تركتنا، فلم تعدْ تسألُ عنّا؟! ولماذا يا هذا تخلَّيتَ عن الكتابة عن جَمالنا، كما كنتَ من قبل؟! ولماذا سلوتَ عنّا؟! وهل وجدتَ مُحِبّاً لك غيرَنا؟! وهل من الإنصاف أنْ تُوْقِعَ بحبيبكَ، ثُمَّ تتركه لغير رجعة؟! فإلامَ الخُلْفُ بيننا؟! يا هذا، إنَّ تمنُّعَ المُحِبِّ دليلُ محبَّةٍ! يا هذا، المحبَّ الصادقُ هو الذي يُكابِدُ في عشقه، لا مَن يستسلم، فيكون خائراً؛ بلا عزيمةٍ! فلو كنتَ صادقاً في دعواكَ؛ لحاربتَ الدنيا، من أجل حبيبك! يا هذا، كيف سوَّلتْ لكَ نفسُك الأمّارةُ بالسوءِ، أنَّ المياه ستعود لسابق عهدها؟!

يا هذا، هل لكَ من إجابةٍ؟!

فنظرتُ في الأرضِ أكثر وأكثر؛ حتى تمنَّيتُ أنْ لو مادتْ بي، من شِدة خَجلي، الذي كساني ضعفاً فوق ضعفي!

فزادتْ الميُّ في جَلْدِها لي، فقالـتْ: يا هذا، ماذا تظنُّ أنَّني فاعلةٌ بكَ؟! يا هذا .. هل خطر لكَ خاطرٌ أننا سنعود كما كنا؟! يا هذا، مَن حرقَ قلب حبيبهِ، يستحق حرقَ قلبه سبعين مرةٍ! يا هذا، إنَّ جهنَّم خُلِقتْ لأمثالك؟! يا هذا، لقد غضب عليكَ قلبي غضباً، فارت له السماوات والأرض!

يا هذا، كم هي سعادتي الكبرى؛ بحرق فؤادك، وشوي روحك، وأكْلِّ كلابُ البرِّيَّة لجُثّتِك!

يا هذا .. إنك اليوم لدينا ضعيفٌ لعين! إنك اليوم أشقى بني آدم!

فلا يأسى عليكَ أحدٌ! ولن يرحمكَ الراحمون! بل، سيلعنك الأتقياءُ المُخْلَصون!

وستستعيذُ منكَ سِجِّين! وستجأرُ منك سعيرٌ! وستستغيثُ منك شجرةُ الزَّقٌّوم!

 فلقد حلَّ عليك عِقابي، وجاءتك الرُّجومُ، والشياطينُ، (مِن كلِّ حَدَبٍ ينسلون)! (واقترب الوعدُ الحقُّ؛) فأدخِلوه أشدَّ العذاب! و(ذُقْ إنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريمُ)! فخسفنا بكَ، وبقلبكَ الأرض! فسوف نُغرِقُكَ في دماء ذُلِّكَ! (فاليومَ، نُنَجِّيكَ ببدَنِكَ؛ لِتكونَ لِمَن خلفك آية)!

فلن تموتَ فيها، ولن تحيا! بل، ستظل في عذابي، ونِقمتي، ولَعناتي، تفورُ، وتغلي، في الحميم، والعذابِ المُقيم!  ولن تهنأ- مِن بعدي- أبداً! فأنتَ من المرجومين!

عند ذلك، مِتُّ، وأنا مَيْتٌ! مِتُّ مرَّتين: الأولى، بطرد الميِّ لي! والأخرى: بعقابها المعنوي لي،  وكُرْهها القطعي لي!

فقلتُ لنفسي: فأنتَ مّيْتٌ لا جَرَمَ! فعندما تخسر مَن تُحِبُّ إلى الأبد، تكون من الهالكين، ولو ضحكتْ في وجهك الدنيا! ولو فُزْتَ بملكة سبأ؛ فستكون أشقى مِنْ أشقى ثمود! بل،  ساعتها ستحلُّ عليكَ جميعُ أنواعِ العقاب التي حاقتْ بأُمم الأرضِ؛ فستتعرَّضُ للغرقِ، والريح العقيم، والصَّرصر، والصَّاخّة، والظُّلَّة، والطوفان، والمسخ، والخسف، والصَّعق!

لكنني طمأنتُ نفسي بعضَ الشئ؛ وعزَّيتها؛ فيكفيني أنَّ عِقابي بيدِ الميِّ! وهو أجملُ سَحْلٍ! وهو أعذبُ رجمٍ! وهو أسلمُ جحيمٍ! وهو أفضلُ خسفٍ! وهو أمثلُ إغراقٍ!

فحسبي، أنني رأيتُ مَن أهوَى .. وهو يقتلني! وغَنائي أنني شَهِدْتُ أجملَ وجهٍ؛ يُصْدِرُ فَرمانَ إبادتي! وعَزائي أنني طالعتُ نورَ شروقِ شمسها، وقتَ أنْ طعنتني بحربتها المسمومة في فؤادِ قلبي!  فمِتُّ على الفور، وأنا أضحكُ من أعماقي!

وظللت أردِّد في حضورها: بل قتلي بيديكِ .. دليلُ حبي، وحبك!