الّدرسُ الطــويل ...

أعتدت حين أقصد جامع الصديق في الجميلية لصلاة الظهر أن أقف على بابه واستعرض عشرات من أوراق النعي الملصقة الكثيفة كمقبرة متزاحمة ، وأدقق في أسماء المتوفَين ، فكل يوم نودع صديقًاً اوقريبا أو علماً ، ويومها لفت انتباهي اسم الأستاذ فاضل ...وتصادف أنه سيصلى عليه بعد صلاة الظهر ، فغمرني احساس مختلط هوبين الحزن والأسى والغُصة والألم ...

*ولمّاانتهت الصلاة وجدتني مسرعا لأحمل النعش مع من تسابقوا اليه لكسب ثواب وحسنة مرجوّة 

ولا أستطيع رسم إحساسي وأنا أحمل رجلا آذاني وأهانني وأذلني أمام، مئات من تلاميذ مدرسة النجاة  قبل نصف قرن .وثمة همسة من داخلي دعتني أن أطلب له الرحمة ، فدعوت من قلب أبيض أن يُدخله الجنّة ودمع خفي أجالده في عينيَ ّ..وهممت أن أعاتبه ونعشه على كتفي ..أين يدك التي بطشت بي ظلما ..,وقهرا وإيذاءً.

*في الفرصة كان الأولاد يلعبون ويتمازحون ويتدافعون بخشونة ، وكنت يومها في الصف الثاني ولا أجيد ألعابهم وصراعهم ، فُجاءة دفعني طالب ضخم كالبرميل فاختلَّ توازني وتراجعت إلى الخلف وكان الأستاذ فاضل هو المعلم المناوب في باحة المدرسة ويقف ورائي ، فدسْت على حذائه الأسود اللماع وسقطت على الأرض، وسرعان ما انقضّ عليّ وشدّني من أذني وأنهضني وهو يضربني بعصاه ويغسلني بشتائمه ..جحش .حيوان . كلب .خنزير . جردون , زبالة ،وكان يحاول أن يرفعني عن الأرض باصراره على شدّ أذني حتى أحسست أنها سُلخت .

* وكان التلاميذ في كل الباحة قد توقفوا عن الحركة والتفوا حولنا يتفرجون بعيون مفتوحة وأفواه مشدوهة ..والمعلم فاضل يزداد عنفا وكأنّ بكائي ونشيجي يستفزانه , وتوقف عن ضربي وطلب منّي أن أمسح له الحذاء بمنديلي الأبيض . لم أستجب لأمره فمنديلي المطرز بيد أمي لا يمكن أن أمسح به الحذاء وأنا  حريص عل نظافته دوما، ولكنه أصرّ على مايريد فحنى رأسي إلى حذائه وهو يضربني , وربما حينها ثارت جينات العناد الحلبي المتوارثة في رفض اذلالي أما م أعين التلاميذ.

وفُجاءة انشق صف التلاميذ وبرز المديرالرصين الوقور بشعره الكثيف الأبيض  والذي كان يراقب المشهد من نافذته ..تجمدت يدا المعلم فاضل ، حين أمسك المدير بيدي وسار بي بلطف وهو يمسح رأسي ودموعي . أجلسني في غرفته وسقاني ماء وأنا أتألم وأتوجع فكل جسمي يئن من ضربات المعلم ، وقدحاول المدير ان يُهدئ من بكائي وألمي فهو صديق والدي وهو من وافق أن أدخل المدرسة قبل بلوغي السابعة من عمري ...

وأخرجت منديلي الأبيض المطرز وعليه اسمي لأمسح دموعي وليس لأمسح حذاء أحد.ـ

وسوم: العدد 713