لولا جرادة ما وقع عصفور

قصة من التراث الفلسطيني

لولا جرادة ما وقع عصفور

د. محمد عقل

[email protected]

يحكى أن إسكافيًّا فقيرًا اسمه "عصفور" كان في سالف العصر والزمان يعيش في مدينة بغداد، وكان له زوجة اسمها "جرادة" تذكّره كل يوم بفقره وعجزه عن توفير حياة مريحة لها. وفي يوم من الأيام مرت ابنة الملك مع حاشيتها في السوق، فسقط من إصبعها خاتم من الدر النفيس، فالتقطته بطة بيضاء، وابتلعته على مرأى من عصفور، وبعد ساعة من الزمن نادى منادٍ يقول: يا سامعين الصوت صلوا على النبي العدنان، يا من شاف يا من دري، ضاع خاتم الأميرة، ومن يجده له ألف دينار!..

 فأسرع عصفور إلى زوجته وأخبرها بما شاهد ورأى، فقالت له: اِذهب إلى القصر وقل لهم إنك مُنجِّم وتعرف مكان خاتم الأميرة، وألحت عليه، فذهب إلى هناك، وشاهد كيف يعنف الملك المنجمين الذين عجزوا عن الكشف عن الخاتم الثمين، فبادر قائلاً: يا جلالة الملك سلني فأنا الخبير في علم التنجيم، والخاتم موجود في بطن بطة بيضاء موجودة في السوق، فقال الملك: وإن لم نجد الخاتم في حويصلتها! فرد عصفور: اِفعل بي ما تشاء، فأرسل الملك الجنود فأحضروا البطة على الفور، فأمر الملك بذبحها أمام الأعيان والشهود، فوجدوا الخاتم المنشود، فانبهر الملك وحاشيته وأُسقط في يد المنجمين، ووهبه الملك ألف دينار إكرامًا له، فأخذ عصفور المال وأسرع إلى بيته وهو يكاد يطير من الفرح، بينما كاد المنجمون يموتون من الغيظ والحسد.

وحدث في أحد الأيام أن سطت عصابة من اللصوص على خزنة الملك وسرقوا صندوقين من المال، فدعا الملك وزيره وأعوانه وتشاوروا في الأمر، فلم يجدوا مخرجًا، ولما كان عصفور قد اكتسب شهرة واسعة في مجال التنجيم والضرب في الرمل أمر الملك بإحضاره وطلب منه الكشف عن الصندوقين واللصوص، فأُسقط في يد عصفور، ولم يدر ما يفعل، وطلب مهلة من الملك ليدبر الأمور، ويرصد النجوم، ويضرب في الرمل، فأعطاه الملك مهلة أربعين يومًا؛

 ولما كان عصفور يخشى أن يتوه في عدّ الأيام أخذ زوجته إلى السوق واشترى أربعين حبة رمان ليأكل كل ليلة رمانة منها فيعرف ما تبقى من أيام المهلة. وسمع اللصوص الخبر وكانوا أربعين لصًّا وزعيمهم، فخشوا من افتضاح أمرهم وأيقنوا أن عصفور كاشف عنهم لا محالة. وفي الليلة الأولى طلب زعيم اللصوص أن يذهب أحدهم إلى بيت عصفور ويتجسس الأخبار، ويحاول أن يسمع ما يقوله عصفور، وقبل أن ينام عصفور طلب من زوجته أن تُحضر رمانة ليأكلوها لانقضاء أول ليلة من أيام المهلة، وعندما أحضرتها قال عصفور: هذا أول واحد من الأربعين. وهو يقصد أول يوم من الأربعين يومًا، ولما سمع اللص ذلك سقط قلبه في جوفه، وظن أن عصفور قد شعر به وعلم بوجوده، فهرب وعاد إلى زعيمه وأخبره بما سمع من عصفور وكيف شعر به وعلم بوجوده دون أن يراه، وفي الليلة التالية بعثوا لصًّا آخر ليتجسس أخبار عصفور، وعندما أحضرت له زوجته الرمانة قال: هذا ثاني واحد من الأربعين، وحدث مع الثاني كما حدث مع الأول، ودام الحال على ذلك عدة ليال حتى ضجّ اللصوص من الخوف واقشعرت أبدانهم؛ ولما لم يرض أحد منهم بالذهاب إلى بيت عصفور قرر الزعيم الذهاب بنفسه وسماع ما يقوله عصفور، وفي المساء عندما أحضرت زوجة عصفور له الرمانة أمسك بها وكانت كبيرة وأكبر واحدة في الرمانات، فقال عصفور: هذا أكبر واحد في الأربعين وهو يقصد حبة الرمان، أما الزعيم فظن أنه يقصده لأنه أكبر واحد في العصابة وهو زعيمهم، فخاف وعاد إلى أصحابه وقرر إعادة الصندوقين وتسليم أنفسهم إلى عصفور، وقد تمّ ذلك من الفور، فسلمهم عصفور في اليوم التالي إلى الملك وطلب منه أن يخفف عقوبتهم. فطار صيت عصفور بعد ذلك وانتشر خبره وعمّت شهرته حتى طبّقت أرجاء المملكة وأصبح منجم القصر بلا منازع.

وفي يوم سألته الملكة وكانت حاملاً وعلى وشك الوضع: هل تعرف أين ألد يا عصفور؟ فكّر عصفور مليًّا ولما لم يعرف الجواب قال: لا فوق ولا تحت، وصعدت الملكة الدرج إلى حجرتها فسابقها الطلق ووضعت قبل أن تصل غرفتها، فقالت: صدق عصفور، فقد تنبأ لي بذلك؛ وكافأته وأحسنت إليه.

أما الوزير فكان يشك في صدق عصفور ويقول للملك إنه كاذب، ولم يزل يلح في طلب اختباره حتى وافق الملك على ذلك. فأرسل الوزير جنوده لإحضار عصفور، وقام الوزير بإعداد الاختبار، فأحضر أربع طناجر، ووضع في الأولى حليبًا، وفي الثانية عسلاً ، وفي الثالثة علقمًا مرًّا لا يحتمل، وفي الرابعة جرادة، وغطى الطناجر بغطاء، فلما حضر عصفور سأله الوزير: أخبرني ما في هذه الطناجر تنجو من العذاب، ولكن إن أخطأت طنجرة قطعنا رأسك..!. فلما أيقن عصفور بالهلاك بدأ يتذكر بصوت عال ما مر عليه من الأحوال فقال: كانت أيامي صافية أصفى من الحليب، وكان يقصد أيام سعادته عندما كان فقيرًا، ثم صارت أحلى من العسل وكان يقصد عندما أغدق عليه الملك الأموال بعد أن صار منجم القصر، ثم صارت مثل العلقم وكان يقصد المأزق الذي وقع فيه واختبار الوزير له، ثم أجهش بالبكاء وقال: " لولا جرادة ما وقع عصفور..!"، وهو يقصد أنه لولا زوجته جرادة ما وقع هو في الفخ؛ وهكذا حلّ عصفور جميع الألغاز لأنه محظوظ بدون قصد منه، فعزل الملك وزيره وسجنه بتهمة اختلاس الأموال وعين مكانه عصفور!.