عبدُ (رمضان)؛ حُرُّ (شوال) وبقية العام ..!

بمجئ شهر شعبان؛ ومع دخول شهر رمضان الكريم؛ يراه الناس خَلقاً آخر؛ إدامةً للصلاة، وقياماً لليل؛ وخشوعاً في غير العبادات؛ وصياماً لأكثر شهر شعبان؛ وقضاءً لحوائج الناس، وأناةً، وتؤدةً، وصبراً جميلاً، وابتساماً في وجوه الثكالى، والحزانى، والأيامى، واليتامى! وتجده أحرص الناس على بِرّ ذوي القربى، ومساعدة الضعفاء، والذب عن المظلومين، ودفع الإساءة عنهم، وإقامة موائد الرحمن في أكثر من منطقة بالقرية؛ والإنفاق ببذخ؛ كأنه الريح المرسلة!

لدرجة؛ أنه يذهب للشيوخ والعجائز؛ فيكنس لهم دورهم، ويطهو لهم طعامهم، ويغسل لهم ثيابهم، ويحلب لهم أنعامهم، ويكون في خدمتهم؛ كأفضل ما يكون العبد مع سيده!

ففي هذين الشهرين الفاضلين؛ يتمنى الناس البسطاء؛ أن يكون العام كله شعبان، ورمضان؛ لرحمة(مطاوع) بهم؛ وعطفه عليهم؛ وحنانه الكبير على الصغير والكبير؛ وعلى حضرة جناب العمدة، وشحاتة الخفير الحقير!

فهذا الـ(مطاوع) المسكين؛ يتصور؛ بل يعتقد اعتقاداً راسخاً؛ لا تزلزله الجبال الشُّم الرواسي؛ أو تحركه العواصف الهوج الضواري؛ أن شهري شعبان ورمضان؛ يَجُبّانِ ما قبلهما من المعاضي، والذنوب؛ ولو كانت مثل زبد البحر جُرماً وكبائر؛ لذلك؛ كان إقباله اللاهث على عبادة هذين الشهرين دون بقية الشهور؛ لأنه يعربد؛ وينتهك حرمات الله في غيرهما من الأوقات! من هنا؛ أطلق عليه الناس؛ لقب(عبد رمضان)؛ حتى صار أشهر من اسمه!

فمن الحكايات التي تُروى عن مطاوع؛ في شعبان ورمضان؛ حتى عرفتها القرى المجاورة، ورددتها الألسن بأندر سيرة؛ حكايته مع حمارته(لَكاعِ) التي يحرمها من الطعام، ويتركها بقية العام؛ تتسول من حقول الآخرين، ويرفض أن يُعيرها لمن يحتاجها من المعوزين؛ بل إنه كان؛ يخاطبها قائلاً لها على سبيل التهديد والوعيد: لا طعام لكِ لديَّ في الحقل؛ فعليكِ بسرقة البرسيم من حقول الجيران!

أمّا عند حلول شعبان وقرب رمضان؛ فإذا(مطاوع) شخصاً غير(مطاوع) الشحيح؛ العنيف؛ الفظ؛ الكالح؛ العابس؛ شيطان البَشَر؛ والمؤذي للضعفاء في شهور السنة كلها!

وأمّا؛ حكايته مع أُمِّه؛ فهي تقص الشئ وعكسه؛ فهو لايزورها؛ بل لا يتذكر أنَّ له أُمّاً إلا في شعبان ورمضان فقط؛ حتى إنَّ العامة؛ اتخذوه مثلاً لإهمال والدته؛ فقالوا: "أحمق من مطاوع؛ لم نرَ مثله؛ جاحداً لأُمِّه"!

ففي هذين الشهرين الكريمين؛ يراه الناس؛ لا يفارقها؛ حدباً عليها؛ وقياماً بشأنها؛ ورعايةً لها؛ ووصلاً لحقها؛ وتجهيزاً لإفطارها؛ وسحورها! والعجيب؛ أنه في آخر ليلة من رمضان؛ ومع ظهور رؤية شوال؛ يتركها على الفور؛ فلا يزورها في العيد، ولا يستضيفها في قصره المشيد، ولا يكلِّف أحداً من خدمه، وما أكثرهم؛ بزيارتها؛ وإعطائها العِيديّة، واللحوم، والفواكه، والحلوى؛ فكأنه ينسى أنَّ له أُمّاً على قيد الحياة؛ فضَّل عليها زوجه وعياله! ويظل في جحوده، ونكرانه طوال عامه؛ فلا يعود إليها إلا مع أول ليلة من ليالي شعبان الجديد؛ وهكذا حاله؛ دواليك دواليك؛ وصلاً قصيراً، وفصلاً طويلاً! والأنكى؛ أنها تقيم في بيت من السقيفة، ومن الطين الآيل للسقوط؛ على بعد أمتار قليلة من قصر ابنها المنيف؛ فلا تجد من ينفق عليها؛ إلا أهل الصدقات، والزكوات! والناس؛ تنظر إلى حالها البئيسة، وحال ابنها؛ حيث الثراء الفاحش؛ فتقول بلسان السخرية، والألم: "أليس في قلبه ذرَّةٌ من رحمة؛ بمن حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وأرضعته حباً، وربَّته رسالةً، وصبرت عليه رفقاً، وحناناً؟".

أمّا؛ والده(منير)؛ فقد ارتضى له؛ أن يكون أجيراً في أرضه؛ يعمل في النهار؛ بأكله وشُربه؛ وفي الليل؛ بنومه في اصطبل الخيل!

لكنَّ؛ صورة والده الأجير الذليل؛ تتغيَّر إلى الأحسن؛ في شعبان ورمضان؛ فهو القائم على رعاية الفقراء؛ نيابةً عن ابنه؛ وهو الوجيه الحسيب؛ الذي يقوم على أمر الموائد التي يخرجها ابنه للفقراء والمحتاجين! إلا أنه مع آخر ليلة من رمضان؛ يراه الناس؛ يبكي ألماً ولوعةً؛ وهو يغادر القصر؛ إلى حيث حظيرة المواشي والحمير؛ حيث مستقره بقية العام؛ سُخرةً، وعبوديةً في بيت ولده الجاحد!

حتى إن الناس؛ تندَّرت بمطاوع وبوالده؛ فقالت ضاحكةً: كلاهما عكس الآخر؛ فـ(مطاوع) عبدٌ؛ يقضي مصالح الناس، ويخدمهم في شعبان ورمضان؛ لأنه أجير شعبان ورمضان، وعبد شعبان ورمضان! ووالده؛ حُرٌّ في الظاهر؛ لكنه عبد ولده، يقوم على أمر موائد الصيام، والإنفاق من مال ولده في هذين الشهرين! وبعد ذهاب الصيام؛ يعود الوالد؛ إلى عبوديته المفروضة عليه من قبل ابنه؛ والنوم مع الحيوانات! أما مطاوع؛ فيرجع إلى نزقه، وطيشه، وعلوه، وتجبره في الأرض! وكلاهما؛ في عبوديته؛ وفي حريته؛ لا يعمل ما يقوم به طائعاً مختاراً عن حب، واقتناع؛ ولكن ظناً منهما؛ أن ذلك عبادةٌ لرمضان؛ تُدخِل الجِنان!

بل؛ إن مطاوع؛ لا يستنكف في هذه الأيام الفضيلة عن تنظيف حمّامات المسجد الجامع بيده؛ ففي كل يوم من شعبان، ورمضان؛ يسارع قبل الفجر إلى دورة مياه المسجد؛ فلا يتركها إلا وهي تلمع من شدة النظافة! على الرغم؛ من أنه لا يقرب من جامع القرية بعد انصرام شهر الصيام؛ فلا يُصلِّي، ولا يتصدَّق، ولا يتذكر أنَّ له ربّاً إلا في شعبان ورمضان!

وهكذا؛ عرف الصغار من الكبار؛ أنَّ الإسلام قد قضى على الرِّق قضاءً مبرماً؛ إلا في حالة مطاوع؛ فهو عبدٌ لشعبان ورمضان فقط؛ كما أنه؛ حُرُّ نفسه؛ وحُرُّ نزواته، وشهواته، وعصيانه في شهور السنة كلها ما خلا فترة عبوديته المختارة؛ لشعبان ورمضان!

وسوم: العدد 722