دردشة

عصام الدين محمد أحمد

يطلبنا رئيس المباحث،أثنان فقط إحداهما أنا والآخر سجين سياسى حصل على البراءة،يصعد منبر الوعظ والارشاد:

- المظاهرات لتفعل شيئا،لن يتغير النظام.

يطنب فى النصح،لا أحد يرد عليه،أردد فى سيرتى:

- الفجور فى الخصومة كارثة.

نبراته تتبدل وفق درجة التهديد،أخيرا قال:

- روحٌوا.

يشتد البرد،يكاد الشارع أن يكون فارغا،لا أحد يظهر ملتحفا أمارات التوحش،موكب أفراح يزف صاحبنا الذى خرج معى،فرح حقيقى يكسو الأوجه،أسرع الخطى فى الشوارع الداخلية متجها إلى ميدان الدقى،لا ألتفت يمينا أو يسارا؛لأول مرة أشعر بقيمة ما يسمى بالحرية،غاب عنى معناها وظننت أننى لن أمارسها ثانية،أتحرك بأمر،أقعد بأمر،أنضرب وقتما يشأون؛فما أنت إلا جرذ فى مصيدة من الفولاذ،ما أيسر أن تتيه فخرا بالحديث عن الحرية والكرامة،تسترجع مسيرة الشعوب وحوادث التاريخ،وحين تلبسك الجدران تفقد كل الدلائل والمعانى،تضحى الكلمات جوفاء مجردة من أى مدلول،أشياء لم أكن أعرف قيمتها،أدركت الآن أنا ثمينة لا تقدر بمال،دخولك الحمام،استحمامك،تبديل ملابسك،مواعدة أصدقائك،كل هذه الأفعال قد تبدو تافهة ولكنها تحمل فى حقيقتها أسمى معانى الحياة،حينما يصبح دخولك الحمام يلزمه تصريح وموافقة ومرافقة من يسحبك خلفه بعنف وغلظة بالأضافة إلى عشر جنيهات كاملة،والضامة الكبرى حينما يصيبك تعب الأخراج فى مواقيت يعتقد يعتبرها من بيده الأمر غير مناسبة،فى حياتك تملك أبا وأما وأسرة وعائلة،،وخاف الجدران ترديهم اللعنات جبانات الجثث المتعفنة،وكأن آيات الاحتقار هى كتابهم المقدس.

لم أدع للحوارات الشخصية أن تسطو على ذهنى،أدع نفسى تتمتع باستنشاق الهواء،ها أنا أجد جسدى أمام الباب الذى لم أره منذ سبعة أيام كاملة،أطرق الباب بخفة ورقة،ليقينى التام بإن أبى يفترش الأرض وينام خلف الباب،يفتح لى،لم يقل إلا كلمة واحدة:

- أهلا.

يتقبلوننى بحفاوة،تجهز لى أمى طعام العشاء،أنتاول بشراهة وجوع حقيقى،أقف عاريا تحت دش المياه الساخنة،أستهلك صابونة الحجم الكبير،أتمدد فوق الفراش،يكتنفنى التعب المميت،أتدثر بالبطانية،تناوشنى خيالات:

يدان مربوطتان خلف الظهر،عينان تدثرهما عصابة سوداء،صفعات،لكمات،شتائم،ناقوس يدق:

- اعترف.

- لم أفعل شيئا.

- لن تفلت بفعلتك.

- لم أرتكب جرما.

يتكاثون خلف الباب،فوهات بنادقهم مشرعة،يتهامسون،يخططون،تصدر الأوامر،يقتحمون،أصرخ:

- لم أفعل شيئا.

- النجاة..النجاة.

أنهض من نومى وأصداء صوتى توقظ الجميع،يأتون لى بالماء،أتجرع رشفتين،أجرب النوم ثانية،أمست أصداء الصوت أعلى،أخير يأتى الصباح متثاقلا،يقول أبى:

- خذ هذا المبلغ وسافر إلى جدتك بالصعيد؛حتى تطمئن عليك،وتغير جو.

- سأسافر فى المساء.

- قم لأصطحبك إلى الطبيب؛طوال الليل تهاجمك الكوابيس ،وكحتك جافة وتكاد تكون متواصلة.

- لا تشغل بالك،سأتخلص من هذه الأعراض قريبا.

أسطو على هاتف حسام،أذهب لمقابلة أصدقائى ؛الذين لم يجرأوا على زيارتى،أقابلهم فى المقهى الهادئ،يستقبلوننى بالأحضان والكلمات المعسولة،أى نعم أنهم رفقاء درب التكوين،ولكن الظروف الأمنية تحول دون الزيارات لزنزانة الحجز،يحيط بنا الصمت وكأننا نؤدى طقوس عبادة،أخيرا أنفتح صنبور الكلام:

صفوت:كفارة.

- يا سيدى تجربة مفزعة.

عبد الرحمن:حمد لله على السلامة.

- لا يحمد على مكروه سواه.

صفوت:لم أسع لزيارتك لأن اسمى ورد بالتحقيقات.

- اعذرك يا دكتور.

عبد الرحمن:على فكرة؛شكرا على تحذيرك لنا.

- الشكر موصول يا باشا.

قصصت عليهما بعضا من التجربة،لم يصدقوا وفرة محصول الغل فى النفوس،ربما يجابههم ما يقنعهم بصدقى،تسح السماء كلاما يصيب الجسد بالرتجاف،أذهب برفقتهم إلى كشك يبيع شرائح المحمول،فى جيبى عدة صور من بطاقات الرقم القومى لبعض عجائز محو الأمية،أشترى لهم شرائح جديدة،ومع قدوم المساء أصعد الحافلة المتجهة إلى الصعيد،أتنقل من بيت إلى بيت،أتعرف على ملامح عائلتى الممتدة،أزور أماكن لم تطأها قدماى من قبل،لا تعنينى مشاهد السياحة،فقط أريد التجول فى مساحات شاسعة من الأرض،أبتعد عن المدن والشوارع والعمارات والناس،أجوب الحقول وكأن الأرض الخضراءتخدر النفس،تركتنى جدتى أربعة أيام كاملة دون أن تتبادل معى الحديث،بصراحة كاد الزعل أن يأتى عليها؛لم أكن أعلم أن العواطف الأنسانية ثرية لهذه الدرجة،وفى نهاية الرحلة أفاقت من تعبها وأعطتنى أرعمائة جنيه مرة واحدة وهو ذات المبلغ الذى منحه لى والدى،أشترت لى ترنج سوت،أوصتنى على نفسى وحياتى بالمراعاة،وعدم الأنجذاب للبطولات الزئفة؛فالحياة لا تتحمل الضياع بين أكف الشرطة وحجرات الحجز،والسياسة للأغناء،ولا نفع منها إلا لأعضاء البرلمانات،يطفح حديثها بخبرات السنين،عموما كلام الناس الكبيرة لا يلقى ترحابا فى نفسى،ولكن الأنصات لن يكلفك شيئا،تحكى:

منذ سنوات قليلة أنقطعت الكهرباء تماما عن المدينة،وتأكدت الشائعات أن كبار البلد تعمدوا نشر الظلام حتى لا يكتشف أحد أمر اللوريات العملاقة التى تحمل أطنان التماثيل على سيارات النقل،فهذه هى السياسة وهؤلاء هم الساسة،وقالت بصوت رصين:

- البلد بلدهم ونحن ضيوف.

لم أكن أعلم أن جدتى تملك مثل هذا الحس النابض بشراسة الصراع،الطريق من سوهاج للقاهرة يتجاوز خمسمائة كيلو متر بالحافلة،على أمتداد الأفق تلال من الصخور،وأخرى من الرمال وصحراء لا نهاية لها،تندر محطات الوقود وتكاد تنعدم بإمتداد الطريق،ما أكثر محطات تحصيل الرسوم،الأمتداد اللانهائى للفراغ يجرد الأفكار من المشهيات والمقبلات،يندلق مخزون العقل إلا من حقائق الفناء والبقاء،الموت والحياة؛تنير الشمس السماء،أرأيت تعبيرا أكثر عبقرية من هذا؟    الأرض والسماء لا تملكان إلا الخضوع للشمس،خلف كثبان هذه البيداء بشر،وجوههم كالحة جامدة،أى نعم نادرون ولكنهم موجودون،هؤلاء البشر يختبأون من الشمس فى العشش،تطاردهم بالأنتشار،يدفعونها بالتخندق،هؤلاء بنوا كافيتريات على الطريق،يقدمون الطعام والشراب للمسافرين،تظن أنك تتعارك فى تعاملك معهم؛تصيح بصوت مرتفع طالبا الشاى مرات عديدة،تشتد نبراتك حال طلب الشيشة،أكواب الشاى مدهننة وكذلك المبسم،لا تتذمر ولا تتمرد فهذا هو المتوفر،وسواء رغبت أم لا فالحافلة لن تقف إلا هنا،طال مكوثنا بالكافيتريا،أستعجل العودة إلى القاهرة،الذهاب إلى الكلية،استدراك ما فاتنى من الدرس.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 722