حزام الأمان

يا رب يسِّر هذه الولادة، فإن روحي كادت تخرج مع كل طلقة، وما عدت أطيق مزيد ألم، أو خذني إليك شهيدة مخاض، ولكن أبْقِ وليدي حياً، وهب حياتي له.... تتمتم بهذه الكلمات ثم تغطُّ في غيبوبة الألم المُمضِّ، وأبواها يذرعان الممر المجاور لغرفة الولادة، وفي كل جيئة وذهاب يستشرفان موقفاً جديداً من ممرضات التوليد وقد تحلقن حول الأم المتمخضة، وبينهن وقف طبيبان مختصان يتابعان تلكمُ الولادة العسرة.

انطلق صراخ مولود أبصر النور، فهرع الأبوان ومن معهما إلى غرفة الولادة، وكانت المفاجأة أن الصوت قد انبعث من غرفة ولادة مجاورة، فعضت الأم على شفتيها من شدة الجوى، وراح الأب المعنَّى يقلب كفيه تارة، ويشبكهما عشراً على رأسه طوراً، ولكنهما مع ذلك هنآ أهلين المرأة التي وضعت بعد أن انطلقت الزغاريد تعج في كل ردهات المشفى.

مضت ساعة تلو أخرى، وغرف الولادة جلها بل كلها قد أعلنت عن مواليد جدد، خلا الغرفة رقم ثلاثة حيث تئن الأم المشدودة إلى جنبات السرير مرة، وتغيب عن الوعي مرات وهي ترزح تحت آلام لو أُنزلت على جبل لرأيته متألماً متصدعاً من شدة الإيلام. وكلما صحت الأم كانت ملائكة الرحمة من حواليها يطمأننها أن الفرج قد اقترب، حتى إن واحدة منهنَّ قالت لها: تالله لتلدنَّ بسهولة بعد هذا العسر، مثلما أنك تعطسين عطسة، فتمتمت الأمُّ الملتهبة ألماً: يا رب عجِّلْ عجلْ.

كان الأبوان يصليان الفجر حينما تناهى لسمعيهما صوت بكاء طفل وليد، فقصرا من الصلاة، وهرعا إلى حيث الصوت لتخبرهما إحدى ملائكة الرحمة أن قد وُلد الأول. فغر الأب فاه قائلاً: وهل من ثانٍ؟ ردت الممرضة: قل الحمد لله يا عمي الحج، وهاتِ بدل الحلَوَان اثنين.

جثت الأم على ركبتها من شدة الفرح، ثم سجدت لله شكراً ثم هرعت للممرضات تغدق عليهن من العطايا شكراً لله أولاً ثم لهن أن أنقذن حياة بُنيتها التي لمَّا تكمل السادسة عشرة.

 وما هي إلا نصف ساعة حتى أطل القادم الثاني على وجه هذه البسيطة، وجعلت الممرضات يتبادرن المولودَيْن تغسيلاً وإلباساً واعتناءً، وتنادى كل من في المشفى ليروا التوأمين الجميلين.

مكثت الأم أسبوعاً في المشفى حتى تعافت من آلام المخاض، وهي تشكر المولى – عزَّ وجلَّ أنْ كتب لها حياة جديدة لتعتني بهذين التوأمين، ثم تربيهما أحسن تربية.

أيمن، أحد التوأمين كان أسمر البشرة كما أرض أبيه في قرية (كفر داعل)، يتطاول دائماً مع نموه عن أخيه التوأم (يمان) ببضعة سنتيمترات، فكان فارق اللون والطول مميزين لأيمن عن أخيه التوأم، ثم شيء آخر جعل علامة فارقة كبرى؛ أَلَا وهي الابتسامة التي لا تفارق شفتي أيمن ليل نهار، وصباح مساء، حتى إنه كان كثيراً ما يضحك في نومه!

اللباس الموحد كان عادة ينتهجها الأهلون ممن رُزقوا توائم، فكانت أم أيمن تمتثل لهذا التقليد الاجتماعي السائد، ولكنْ مهما حاولت أم أيمن أن تلتزم بالعادات فإن الفوارق الخلْقية والخُلُقية لا بد لها من أنْ تميز بين أي مخلوقين على وجه الأرض ولو كانا توأمين حقيقييْن، فما بالك بأن أيمن ويمان توأمان غير حقيقييْن؟

كان يمان منذ نعومة أظفاره وحداثة أسنانه جاداً يميل إلى الحياة العملية، وشُغف أيمن بالقراءة والرياضة والحياة الاجتماعية، وكلما كبرا كانت الفوارق النفسية والاجتماعية توسِّع الشقَّة بعد أن كانا توأمين عاشا سنة إلا قليلاً شريكين في بطن واحدة.

ولمَّا بلغ أشدَّه، كان أيمن ميالاً للمطالعة التي بدا أنها دءوب عليها، شغوف بها، فيما اعتاد أخوه التوأم على التدرب على المهن التجارية وأضْرُب الحياة العملية، فسبحان من فلقَ النطفة إلى شطرين، ثم جعل منها نفسين متباينتيْن!

كان أيمن محافظاً على صلوات الجماعة، وقد تعلقت نفسه بالمساجد؛ ينكب على القراءة، ويتابع الدروس المسجدية، ويصطحب من هم أصغر منه سناً إلى المسجد يدربهم على صلاة الجماعة وقراءة القرآن، بل وكان يأخذهم في رحلات ترفيهية لكي يحبب إليهم الصلاة والأعمال الصالحة.

شطَرَ أيمن نصف حياته للعمل الاجتماعي والدعوي، والنصف الآخر لحياته ودراسته وأهليه، وكانت أمه كلما تذمرت بأنا لا نراك إلا قليلاً يا أيمن؟ رد ببسمته العريضة التي تكاد تأكل جلَّ وجهه: فمن لهؤلاء الشباب يرشدهم ويدعوهم يا أماه؟ فيخفُّ هذا الرد الجميل من غلواء الأمِّ، ويبرد حنقها، وتدعو له بحسن الخاتمة، فينكبُّ الفتى على يدي الوالدة يقبلهما، ويضعهما فوق رأسه، ثم يسألها أن تدعو له بالشهادة.

جلس خطيباً في أهله وهو ابن العشرين: ألا تسمعون ما حلَّ في مسلمي البوسنة والهرسك؟ إن علينا واجباً بأن نغيثهم ولو ببعض مال نسد جوعتهم، ونكسو عريانهم، ونمسح على جبين أيتامهم، وفي الحد الأدنى نخصهم بحارِّ دعائنا؛ فقد تكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب.

ما فتئ الفتى يمشي بين الناس يحثهم على إغاثة المنكوبين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويمشي بين المسلمين في الحض على إغاثة الملهوف والمحتاج، في حين كان جلُّ الشباب يمشي بالغيبة والنميمة، وبعضهم كان يمشي بالرذيلة.

وكما أن كل حيِّ يُرزق على نيته، فقد رُزق أيمن عملاً يعتاش عليه في جمعية تقوم على الأعمال الخيرية، فسبحان من قسم الأرزاق بين عباده، وجعل لأيمن من اسمه وعمله صفتين تحكيان حاله الخيرية العجيبة؛ فأيمن كان يشطر راتبه الشهري على حاجات الناس، ويبقي لنفسه شطراً، وكلما حثته أمه على التوفير، كان رده الأزلي: لقد وفَّرت مع من يضاعف إلى سبعمائة ضعف، فتقول له: فمتى ستتزوج وأنت على هذه الحال من الصرف؟ فيرد بلهجة الواثق من ربه: " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" ؛ فالله هو الذي سيغني من أراد التعفف.

لأن أم (العريس فاضية ومشغولة) كما يقول المثل السائر فقد كانت أم أيمن منكبة على تجهيز ما يلزم لهذا اليوم الذي تنتظره قرابة ربع قرن؛ فهذا أيمن أحد ولديها البكْر سيصبح زوجاً خلال أيام، فلا بد من إعداد ما يلزم لهذا الحدث الجميل. لم يك حفل العرس مهيباً كبيراً كما تعود أهل الجِّدِّ أن يجعلوه، ولكن حفل زفاف أيمن حَفِل بوجود الأهلين والأصحاب في لمَّة حرص فيها أيمن أن لا تُرتكب فيها المنكرات كما يحصل في كثير من حفلات الزفاف؛ فهو الرجل الملتزم الذي لا يود أن يبدأ حياته الثانية بعمل لا يرضاه الله ولا رسوله.

بُعيد زواجه كان لا بد لأيمن الزوج أن يعمل قسمة رياضية جديدة في توزيع الوقت غير القسمة السابقة التي تقوم على التشطير، فقد أصبحا في القسمة زوج ولها حقها؛ إذاً لابد من تثليث الحقوق، وثلثٌ للأهلين بما فيهم الزوجة، وثلث للعمل الإلزامي، والثلث الأخير للعمل التطوعي في حقول الدعوة والعمل الخيري.

لم يتذمر أحد من هذه القسمة، ولم يدعِ فرد من أهليه بأنه حصته منها ضيزى، وكلٌ كان يظن أنه قد أُفرد بنصيب أكثر من غيره؛ فقد كان يتمتع الشاب بدماثة فريدة وحسْن إقناع ولطف معشر. حتى أخوه الأصغر عبد الرحمن، ذو الثلاث سنوات كانت له حصة في قسمة هذه الكعكة المباركة؛ فقد كان الشاب الخلوق الملتزم يلاعب أخاه ساعة من نهار كل يوم قائلاً لأمه: أدعي لي الله أن تشبه ابنتي الجنين في بطن أمها أخي عبد الرحمن كما أنه يشبهني تماماً، حتى كأنه بشبهه يبدو توأمي؛ فهو يشبهني أكثر من توأمي الحقيقي أخي يمان، فتمد الأم ذراعيها إلى السماء أن حقق يا ربُّ لابني مبتغاه.

انتقل عمل أيمن من إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إمارة أبو ظبي التي تبعد مسافة ساعتين في ترحال السيارة، فزاد عناؤه عناءً، وبعدت عليه الشقة، فما عاد يسطيع أداء الواجب اليومي في زيارة الوالدين كل مساء؛ فصارت الزيارة أسبوعية، ويلاقي فيها من عنت السفر ما يلاقي، وتزداد الخطورة إذا عُرف أن أيمن قد ينام أثناء القيادة في السفر لقلة نومه نتيجة ضغط الأعباء اليومية العملية والأسرية والدعوية، وماذا تملك الأم خلا الدعاء في حال كهذه، فيسمع أيمن تمتماتها فيقول: إن حصل يا أماه فادعي الله أن يقبلها شهادة في سبيله؛ فكم ذا قصرنا عن الالتحاق بساح الوغى؟

"ربِّ قد آتيتنا من كل نعمة قسطاً، وعلَّمتنا وأبناءنا من كتابك وسنة نبيك، فاطر السماوات والأرض، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين". أمَّن أيمن على دعاء أمه وهي تتلوه غير مرة في سجوداتها الطويلة، وانتظرها حتى فرغت، ثم اعتنقها وانكب على يديها يقبلهما: " أماه لمَ أنت فزعة مما يخبؤه القدر في رحم الزمان؛ فالحبيب المصطفى قد بسَّط المعادلة بكل يسر: (إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له)، فعلام التوجس يا أمَّه؟ فترد الأم بشفتين وانيتين وعينين ذابلتين قد أعياهما بكاء الفرح والترح: إني لأشمُّ رائحة مصيبة ستحل قريباً من دارنا، أو تصيبنا مصيبة بما كسبت أيدينا، أو ابتلاء بعد أن أغدق علينا الكريم وابلاً من أنعمه، وتنفجر الأم في نوبة من البكاء عميقة........

جلس الولد البار بحذاء أمه ساعة من زمن يهدهد بكاءها وكفكف دميعاتها، وهو يردد: أماه إن ثمة ابتلاء فسلي الله الصبر والتثبيت، وإن كان غير ذلك، فعلام التشاؤم، وتوجس ما لم يحصل بعدُ؟

- يا أيمن، لا تنس أبد الدهر أن تشد إلى وسطك حزام الأمان، فهو أمان لك و لأهليك

- ضحك أيمن وبدا شدقاه، وقال: يا أم، لم يصبحوا أهلين بعد؛ فربى بنتنا لم تزل جنيناً تعوم في بطن أمها، ولمَّا تُولد بعد، - فتقاطعه الأم: إنهم جميعاً مسؤوليتك أنت رب العائلة، والجنين قبل أن يولد على والديه أن يوليانه الرعاية والحماية. - أقسم برب العزة إني لم أر ولم أسمع بأم تحمل بين جنباتها روحاً شفيفة مثلك، وحناناً لو قُسِّم على الأرضين السبع بمن فيهنَّ من إنس وجنٍّ وسَبُع وهوام لفاض منه خير كثير، ولكنك كثيراً ما تتناقضين! - الأم وقد شهقت شهقة عميقة: ويحك، كيف؟ - أيمن: سمعتك غير مرة تدعين لي بالشهادة حُسْن خاتمة، وكثيراً ما أصخت السمع مسترقاً دعائك الخفيض في سجود أو قنوت تتفوهين بمثل ذلكم، فعلام التخوف يا حبيبةُ؟

- هو قلب الأم كذلكم يا حبيبُ؛ مزيج من ألم وألم، خلائط من دعاء ورجاء، أمشاج من تنازع النفس البشرية بما تكنُّه من ضعف واستعلاء للإيمان الذي وقر في القلب!

كانت ليلة مقمرة رغم أن البدر لم يكتمل بعد، ولكن روح الأمومة والبنوَّة قد أشرقت في تلكم الليلة المباركة؛ فبدا القمر قمرين، والبدر بدوراً؛ (فنور) زوج أيمن تعرض على حماتها ما اشترت لربى بنتها الجنين من ملابس قبيل القدوم الميمون، وأيمن الزوج البشوش قد طلبت أمه منه غير مرة أن يخلد لنوم ولو قصير قبل أن يقفل وزوجه وابنته إلى أبو ظبي ليلاً؛ فغداً صباحاً عليه أن يكون على رأس عمله، ولا بد من الراحة قبيل سفر ساعتين في طريق تعج بالسيارات التي تنطلق بسرعة البرق على إسفلت يتراقص مثل آل بيوم لاهب، فنحن في ليلة السادس من حزيران القائظ، وربما لامست حرارة اليوم التالي الخمسين درجة مئوية، وإمَّا التمس السائق البرودة بتشغيل التكييف البارد ركبه نعاس وهو يقود؛ لذا كان دعاء الأم في تلكم الليلة: يا أيمن نم ولو قليلاً، فلا بد لا بد من قليل سبات، ولكن الابن لم يمتثل لنداءات الأم هذه المرة، وظل منهمكاً معهن، وهن يحضرن حقائب السفر إلى عمان بعد أسبوعين؛ فعمان معتدلة الجو صيفاً، فيما أوار لهيب الإمارات يفرغها من نصف سكانها صيفاً.

لم يكد ينم أيمن شطر ساعة حتى سمع النداء للفجر، فنهض ليؤدي الجماعة في مسجد عمر بن الخطاب القريب من منزل والديه بالشارقة، ولم يعرف الفتى أنه آخر جماعة له في هذا المسجد الذي درج فيه منذ نعومة أظفاره؛ فهو يصلي فيه نحواً من خمس عشرة سنة. سلَّم بعيد الفريضة على كل من عرف من عمَّار المسجد ومن لا يعرف، وبعد أن خرج من بوابته الرئيسة، رجع القهقرى بخطوات وئيدة وهو يتملَّى نظراً إلى كل ركن وزاوية في جنبات المسجد يريد يودعه؛ إذ لا شيء أحب إلى قلب الفتى الذي تعلق قلبه بالمسجد من بيوت الله. دسَّ في فتحة صندوق تبرعات المسجد مبلغاً من الدراهم لم يعده بيمناه مخفياً إياها عن شمأله.

أيقظ زوجه وابنته معاً بآن، ثم طبع على جبين الوالدة قبلة سخينة، وقبَّل يدي الوالد الكريم، وانطلق، فأوقفه صوت الرؤوم تقول: يا أيمن:

-        لا تسرع...

-        اقرأ أدعية السفر...

-        ضع حزام الأمان...

-        وأنت يا نور لا تنامي طوال الطريق، بل شاغلي زوجك بحديث حتى تصلا بغيتكما.

-         أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه..........

 .......................................

نور: ضع حزام الأمان يا أيمن، فهذه وصية أمنا نجوى.

أيمن: أشكرك يا حبيبة إذ تذكرينني بتعليمات الوالدة، فنعمت الزوجة أنت. نور: لقد وضعت الحزام من أول ما استقلينا السيارة رغم أنه يشد على بطني وجنيني معاً، ولكني سمعت من أحد المفتين يا أيمن أن الالتزام بقواعد المرور فرض شرعي للحفاظ على حياة من يركب السيارة وحياة المارة كذلكم.

أيمن: ما أحيلاك زوجةً نصوحاً! ولا تنسي وصية أمنا بألا تنامي كي تذهليني عن النعاس الذي بدأ يدب في عيني دبيباً.

نور: حسناً، ويعجبني منك تلكم الألفاظ العربية الفصيحة التي تتلفظ بها بين الفينة والأخرى.

أيمن: ههه، كيف لا وأنا ابن أبي أيمن مدرس اللغة العربية منذ أكثر من عشرين سنة.

نور: وأنا ابنة مدرس للغة العربية، ولكني لم آخذ عنه شغفه باللغة والأدب والشعر، وهل تعلم أن أبي يا أيمن مولع بنظم الشعر؟ أيمن: صحيح، ولكن أبي لم يقرض الشعر، فيم أنه واسع القراءة وعريض المطالعة في شتى حقول الأدب واللغة والعلوم عامة، وقد أفدت من علمه الغزير.... إني لأحس برغبة للوقوف في محطة الوقود التالية لقسط من الراحة، ولكي أغسل وجهي بالماء البارد. ولما رجع أيمن إلى السيارة وجد أن زوجه قد غطَّت في نوم عميق، فلم يشأ أن يوقظها، وامتطى سيارته، وانطلق كالريح المرسلة بمركبته تطوي الأرض طياً، ولكنه نسي في عجالته تلك أن يطبق وصية الوالدة؛ لبس حزام الأمان.

في إحدى مشافي أبو ظبي صَحَت نور من غيبوبتها تتلفت يمنة ويسرة مسَّائلةً: أين أنا وأين أيمن، وماذا عساه قد حلَّ بكِلينا؟! فكان الرد من شرطة المشفى أنكما قد حصل معكما حادث صدم بمركبة متوقفة على يمين الشارع السريع بين إمارتي الشارقة وأبو ظبي، وإنك الآن بخير، ونحاول أن نتفقد جنينك؛ لنبقيه على قيد الحياة، ما وسعنا إلى ذلك سبيلاً.

-        ولكن أين زوجي، أين أيمن؟

-        أيمن في العناية المركزة في حالة خطرة، فقد أثَّر المقود نتيجة الحادث على صدره وقلبه، وهو يعاني من نزيف داخلي؛ فهو لم يكن يلبس حزام الأمان، وقد أنقذكِ لبسك حزامَ الأمان بفضل الله ومنِّه.

-        أريد أن أرى أيمن الآن... الآن... أطمئن عليه... فكان لا بد أن يحقنوها إبرة مخدر لكي تغيب عن الوعي؛ إذ لا يمكن إخبارها الآن –وهي على هذه الحال السقيمة- بموت حبيبها.

 كم ذا حاول طاقم المسعفين وهم ينقلونه إلى المشفى أن يعملوا له التنفس الاصطناعي، وكذاك صدمات للقلب، وإيقاف النزيف، ولكن القلب الكبير الموصول ببيوت الله أبى إلا أن يترحل إلى الرفيق الأعلى؛ فقد كان على موعد في عليين مع من سبقوه من عمَّار المساجد والدعاة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترجل الشاب عن خمس وعشرين قضاها في فضاءات من عمل الخير والبر، ولما يذق طعم الولد، وكم ذا تمنى أن يرى ربى التي سماها من ذي قبل تفتح له باب المنزل ساعة يأتي قبيل الأصيل منهكاً بعد يوم حافل بالعطاء والتضحية وأعمال الخير، ولكن ربى كُتب له أن تعيش يتيمة في كنف أمها وجدها.

– ألو:

– نعم

–من معي؟

– أنا يمان

– وماذا يقربك أيمن؟

– أخي التوأم، فمن أنت؟

– معك شرطة أبو ظبي!!!

– لطفك مولاي، وماذا تريدون مني؟

– نريد أن نخبرك أن أخاك أيمن قد حصل معه حادث تصادم وهو في مشفى في أبو ظبي....

– تلعثم يمان كثيراً، ثم ابتلع ريقه، وقال كيف حاله الآن؟

– هو في خطر شديد، وعليكم أن تحضروا فوراً للمشفى.

– قلت لك كيف حاله؛ أعني أهو حي أم مات؟؟

قلت لك إنه في حال خطرة شديدة، ولم أتابع وضعه ، ولربما....

– ربما ماذا؟ مات توأمي، شقيق روحي، وجاري في بطن أمي.... وأفلتت سماعة الهاتف من يد يمان وجثا على ركبتيه.

دخلت الأم لكي تهدأ من روع ابنها، وكانت قد سمعت المكالمة كاملة من سماعة هاتف أخرى، وهي تهدهد ابنها وتكفكف دموعه قائلة: اصبر واحتسب أخاك يا بني عند من لا تضيع ودائعه.

ذهب يمان وأبوه لاستلام الجثة، وجلست الأم في ساعة حوار:

–ألم أطلب منك يا حبيبي أيمن أن تلبس حزام الأمان؟

– إن الحذر لا ينجي من القدر.

– ألم أقل لك نمْ وارتح قبل أن تسافر إلى أبو ظبي؛ لتأخذ حظك من النوم؟

– يا أم أيمن، كان ابنك يأخذ حظه من توديعكم، وهو الذي لم يُهد به من ذي قبل أنه يساهركم؛ فلم تك هذه السهرة معكم إلى وقت متأخر من ليل إلا وداعاً أخيراً

– يا رب فمن يعول ابنته بعده؟

– إن الله الذي فطرها قد تعهد بها منذ النطفة الأولى، وهو خالقها ورازقها، فعلام الخوف يا أم أيمن على ابنة أيمن؟

– وزوجه التي ما زالت عروساً، ولم تنعم بتمام سنة معه في حال زوجية، ما ذنبها أن تصبح أرملة؟

– وهل وُكِل لنا إدارة الكون؟ وهل نحن خلقنا الخلق حتى ندبر شؤون حياتهم ومماتهم؟

– أهٍ من الأيام، لقد كنت أستشرف الأم القادم، وكم ذا قلت في نفسي: أبعد هذه الأفراح ماذا عساه ينتظرنا من ترح؟

أستغفر الله من كل هذه الوساوس والهواجس.

– هو الذي كان يقول لي: ادعي لي الله بالشهادة بأية طريقة؛ فإن لم تك في يوم كريهة، فلأكن من شهداء الدنيا، وأنا الذي طاوعته، وكم ذا دعوت؟!

يا أم أيمن إن دعاءك جزء من القدر، ولكن الأجل محتوم عنده في سجل محفوظ، من اللحظة التي تعسرت ولادته في مشفى من مشافي حلب، أوتذكرين؟

نعم، أذكر، فقد عاش بعدها خمساً وعشرين سنة جديدة، فارب إن الصبر لا يكفيني في مصابي الجلل، فمزيداً منك تصبراً واصطباراً ومصابرة.

في مشفى أبو ظبي كان أبو عماد –صديق العائلة- يغسِّل أيمن ويكفنه بدموعه كما بالثوب الأبيض قائلاً: سلم لي يا أيمن على صغيري عماد الذي تخطفته المنون قبل أقل من عام في حادث شبيه بحادثك؛ فعماد كان يحبك، وكان يقرأ عليك القرآن في مسجد عمر بن الخطاب بالشارقة، والروح تتوق إلى شقيقتها، وروح عماد أبت أن تعيش في كنف الرحمن دونك.

كان رأي العائلة قد اجتمع على الصلاة على الفقيد في مسجد الصحابة، حيث كان المسجد المحبب إلى نفس الشهيد؛ فهو إمَّا فاتته الصلاة في مسجد عمر، كان مسجد الصحابة المعتكف الثاني، وقد صلى عليه جمع غفير شهدوا له بالصلاح وحسْن السريرة

سأل عبد الرحمن شقيقه الأصغر- وقد غاب أيمن مدة أطول من التي كان يعهدها به: أين أخي؟ فأجابت الأم: هو في سفر طويل، يرفل في حُسن عمل نبيل، ولعوده إلينا ما من سبيل. بكى عبد الرحمن كثيراً؛ فقد افتقد الأخ الذي كان يغدق عليه من عطاياه، ويخصه بالحب العميم كونه أشبه إخوته به خلْقَاً.

وسأل محمود الأخ ذي الاثني عشر ربيعاً: وكيف يكون أيمن شهيداً، وهو لم يخض حرباً، فأجابه الأب المفجوع المتصبر: نعم، يا بني إن صاحب الصدم والهدم والحريق والغريق، وغير أولئكم قد وعدهم النبي – صلى الله عليه وسلَّم – بأجر الشهيد، ونرجو أن يكون ابننا منهم، وضج جميع أفراد الأسرة بالبكاء متوسلين إليه سبحانه.

توفي الشاب أيمن في السادس من الشهر السادس لسنة ألفين ميلادية، ووري الثري في اليوم التالي.

ولدت ربى بعيد شهرين، وجعلت تتنقل في رعاية كريمة بين بيت جديها لأبيها وأمها.

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)﴾ (التوبة).

وسوم: العدد 724