باب مجر

clip_image002_79314.jpg

أسكن هذا الكفر منذ كان الصغار يلبسون أحذية بيضاء من قماش، كانت حقيبة مدرستي من بقايا ثياب العيد الزرقاء، من يومها والحكايات حلوة، فالأحلام الصغيرة تعطي للحياة معان جميلة، كثيرا ما لعبت في شوارعه ليالي رمضان كانت الجن تحبس في صندوق كبير وتوضع في باطن النهر، حاولت جاهدا أن أفتح الباب الخشبي الكبير الذي يعود إلى زمن جدي الصاوي، كنت أخاف من ارتفاعه؛ سيما وهو مغروس في كتف الجدار الحجري الذي يتكون من كتلة صماء من الصخر الأسود، على الباب أشكال غريبة: ماعز تقفز وكلاب تجري، أسماك تتراقص، شمس ترسل أشعتها الذهبية، قمر يتجلى في سماء تعلو نصف دائرة الباب، فأر يهرب من قط، نخلة تقف حزينة منزوية في ركن الباب.

فطومة جدتي حاولت كثيرا أن تشرح لي أجزاء اللوحة؛ لكن مفرداتها اكتست بغرابة عجيبة، تتحدث عن أناس لا وجود لهم في هذه الأيام، ذاكرتها حديدية إنها تعرف أدق التفاصيل، لم تكتف بهذا بل أخبرتني بحكاية النخلة التي تقف وحيدة؛ إنها غريبة جاءوا بها من "رشيد"- يوم كان النهر فيضانا - في سفينة محملة بالأسماك الوفيرة دسوا هذه الفسيلة جوار المرسى، الملاح بركات كان رجلا ماهرا، يعرف أن أرضنا ستحتضنها، غرسوها حيث النهر الذي يغمر قريتنا بالماء.

ارتفعت نخلة رشيد إلى السماء لكنها لم تنجب غير الطلح الذي تساقط في حزن.

مر جدك الصاوي بالنخلة  حيث عرف سر بكائها، الغربة والوحدة سيف يقطع شرايين القلب،ركب حماره ثم عبر الجسر ناحية "سنهور المدينة " أدرك لقاح البلح يومها توضأ وصلى لله ركعتين، وضع " الدكار" انتفخت عراجين النخلة، أثمرت فيضا من خير، فاض النهر كعادته، لعبت الماعز مع الكلاب، تزوجت كل الفتيات التي بزغت لهن أثداء رغم صغرهن بعدما جاء القرية 'الشيخ علي" وكتب في دفتره كل فتاة جوار كل فتى،لعب الرجال بالعصي، كانت تلك النخلة سعيدة إذ علاها جدك الصاوي ونثر البلح الأحمر على الجميع في جرن البحر.

عند المدخنة العلوية يربض ثعلب كريه، يتنمر في شره الذي تعود عليه، إنه ينتهز الفرصة ليلتهم دجاجات فطومة جدتي، يومها خرجت ولأن الدار أمان لم تعط خيانة، مرق الثعلب ناحية القن الطيني، تشمم رائحة الفراخ وللحم غواية تجذب كل نهم والغ في دم الصغار، الديك العجوز أصيب بحمى هذه الليلة، خرجت الأمهات  في تبذل؛ يوقعن الديوك الفتية في حبال الغواية المنصوبة عند مدخل جرن البحر، الغجريات ينفثن بشهوات حمراء.

أمسك الثعلب بالديك الكبير وضع رجليه في الحبل تركه ينزف حتى مات!

ثم تواصل حكيها في عذوبة النهر الذي فاض يوما بالطمي:

حزن جدي اغتمت فطومة جدتي، الكلب سرحان أخذ ينبح بصوت عال، كل الرجال قد ناموا في خدر تحت أقدام "غجريات دسوق" الحاملات عطرا مثيرا، ومن يومها نقشت جدتي حكاية الثعلب وقن الدجاج عند مدخل بيتها الكبير، وحدي عرفت سر اللوحة، كلما دخلت الفصل الدراسي تمثل لي تفاصيلها، لكنني ملجم بألف عين ترقبني تمنعني من السرد.

ولأن ذاكرتي بدأت تصاب بداء العته؛ أمسكت بأذن صغيري، قصصت عليه تلك الحكاية، أوصيته ألا يترك الثعالب تعبث في فناء البيت، عليه أن ينام بعين واحدة، وليترك الأخرى تسافر في ضوء القمر، تتبع قدم الثعلب حين يدب فوق رمال النهر.

وسوم: العدد 732