الرئيس الأرعن

د. أحمد محمد كنعان

أبو ظبي ذات صيف ..

انتصف الليل، وأنا وحيد في مكتبي بقسم الطوارئ؛ كانت ليلة هادئة على غير المعتاد في هذه البلاد التي تكثر فيها حوادث المرور، ولا تصمت في شوارعها أصوات  سيارات الإسعاف َ

شعرت بالملل ..

وخشيت من النعاس في هدأة الليل والمكان، فحضرت فنجاناً من القهوة أستعين به على السهر، وفتحت كتاب طبياً أطرد به الملل، لكني لم أكد أقرأ حتى وصلت سيارة إسعاف نزل منها رجل يتهادى بين اثنين، طرحاه على السرير خلف الستارة، وأقبلا إلي، فسألتهما :

-         خير ؟ ما به ؟

رد أحدهما :

-         سقط عن السرير ..

ومع أن حالة المصاب بدت لي يسيرة، وأنها مجرد سقطة عن السرير، إلا أنني وضعت الكتاب والقهوة جانباً، وأسرعت لفحصه، فوجدت حالته مستقرة كما توقعت، لكنه مصاب بعدة كدمات في الذراعين والخد الأيمن، فطلبت له صور الأشعة اللازمة، وعدت إلى مكتبي وإلى ما كنت فيه من شرب القهوة والمطالعة .

وجاءت صور الأشعة مفاجئة؛ فقد أظهرت كسرين في ذراعه الأيمن وثلاثة كسور في كفه الأيسر، لهذا عاجلت بإرساله إلى قسم العظام في الطابق الثاني ..

وجاء أحدهم يسألني عن حالته، فسألته :

-         ومن حضرتك ؟

قال :

-         أنا محمود زميل المصاب أبو عنتر ..

قلت مستغرباً :

-         زميلك الآخر أخبرني أن أبا عنتر سقط عن السرير ..

-         هذا صحيح ..

-         صحيح ؟!!

-         أجل .. يا حكيم !!؟

-         لكن .. يا محمود .. سقطة من السرير لا يمكن أن تسبب كل هذه الكسور ...

-         كسور ؟! يا لطيف !!

-         طبعاً كسور .. فأخبرني بالحقيقة قبل أن أتصل بالشرطة ؟!

-         لا .. لا .. أرجوك يا حكيم .. لا داعي للشرطة .. المسألة بسيطة !

-         بسيطة ؟! الرجل مكسور .. وتقول بسيطة ؟!!

-         نعم .. والله بسيطة .. هو مجرد خلاف بين زملائنا في العمل .. وسوف نحل المشكلة بالتراضي ...

-         كيف ؟!

-         سأقول لك كل الحكاية بالتفصيل .. بس أعطني فرصة ..

-         تفضل ..

-          الموضوع وما فيه .. يا حكيم .. أننا مجموعة من العمال السوريين نعمل في شركة للمرطبات، وقد استطاع "أبو عنتر" بخبثه ودهائه وانتهازيته أن يحصل على أغلبية الأصوات في الانتخاب الذي أجريناه بيننا لانتخاب رئيس للعمال، وبالرغم من انكشاف ألاعيبه باركنا له وفرحنا لانتخابه رئيساً وأقمنا له حفلة مطنطنة فرحين ونحن نرى رئيس عمالنا سوري منا وفينا، غير أنه سريعاً ما كشر أبو عنتر عن أنيابه، فلم يكن يحترم ديناً ولا يرعى أخلاقاً، وراح يشي بنا إلى مدير الشركة بتقارير ملفقة، مما سبب طرد عدد منا وخراب بيوت سورية كثيرة ..

-         معقول ؟!

-         والله يا حكيم .. هذا ما حصل بالحرف .. فلم يراع صاحبنا الظروف الصعبة التي نمر بها هذه الأيام نتيجة الثورة في الشام، بل راح يستغل هذه الظروف للضغط علينا، والتضييق علينا من خلال التقارير الملفقة التي راح يرفعها إلى مدير الشركة، مما أدى إلى طرد عدد منا وخراب بيوتهم ..

-         معقول ؟!!

-         أجل .. والله على ما أقول شهيد .. يا حكيم .. فقد لاقينا من هذا الأرعن الحقير ما لاقيناه من الأرعن الأكبر "بشار الأسد" الذي يعتبره أبو عنتر "تاج راسه" ورغبة منا في وضع حد لهذا الأرعن الصغير الذي راح يفعل بنا ما فشل بفعله الأرعن الأكبر بشار؛ اجتمعنا واخترنا اثنين من بيننا ذهبا إليه وطلبا منه الاستقالة والتنحي عن الرئاسة .. فقد رأينا من الحكمة ونحن كلنا أولاد بلد واحد أن نلملم الموضوع بهدوء، ورأينا أن استقالته من نفسه أشرف من أن نجري انتخابات مبكرة وننتخب رئيساً غيره، لكنه رفض الاستقالة بشدة، ومع هذا قلنا نعطيه فرصة أخرى؛ فأرسلنا إليه اثنين آخرين من زملائنا، لكنه ردهما رداً قبيحاً كما فعل في المرة الأولى، وشتمهما، وطردهما وهو يصرخ في فرعنة لا حدود لها  ( أنا الرئيس .. وسوف أبقى فوق رؤوسكم ولو استنجدتم بمجلس الأمن وكل هيئات الحقوق في العالم)

-         يا لطيف .. هذا يذكرنا بموقف بشار من الانتفاضة الشعبية التي طالبته بالإصلاح فرد عليها بالرصاص والقتل دون أن يقيم وزناً لا لمجلس الأمن ولا لحقوق الإنسان !

-         صحيح .. صح لسانك .. يا حكيم .. نفس الموقف، ونفس المنطق الأرعن .. فالمرض واحد .. يا حكيم .. لقد اكتشفنا للأسف أن بيننا فراعين ليسوا أقل وحشية وفرعنة من بشار !!

-         صدقت .. فقد كشفت ثورتنا المستور، وفضحت أمراضنا ..

-         صح لسانك .. يا حكيم .. لكن دعني أكمل لك الحكاية لو سمحت

-         تفضل ..

-         المهم .. يا حكيم .. وصلنا إلى قناعة بأنه طفح الكيل ولابد من وضع حد لهذا الفرعون .. الذي ظهر لنا بوضوح أنه لا يقل رعونة عن تاج راسه بشار، وأن الوسائل السلمية لا تنفع معه كما لم تنفع مع بشار؛ لهذا عزمنا على القيام بالمحاولة الثالثة والأخيرة.. فأرسلنا إليه اثنين منا يتصفان بالحكمة والخبرة في التفاوض، وعززناهما بثالث كان في يوم من الأيام بطلاً بالملاكمة، فكان رد أبو عنتر أسوأ من ردوده السابقة، وحين لم يصل معه الحكيمان إلى اتفاق هدداه بالقوة، فسارع إلى هاتفه يستعين بعناصر أمن الشركة، لكن ضربات الملاكم كانت أسرع، فقد أرداه على الفور بالضربة القاضية، ثم طلب الإسعاف، وجئنا إليك بالرئيس المخلوع

-         الرئيس المخلوع ؟! لا .. بل قل .. الرئيس المكسور

قلت، وانطلقنا معاً نضحك بانبساط لنهاية أبي عنتر .. الرئيس .. ونحن ندعو الله لرئيسه الأرعن المتسلط على الشام أن يصادف في يوم قريب ملاكماً متمرساً يرسله إلينا بسيارة إسعاف أو بسيارة موتى .. لا فرق !

وفاجأني محمود .. هذا العامل الطيب .. وهو يمسح الدموع عن عينيه لشدة ما ضحك، وقال لي في توسل :

-         أرجوك .. يا حكيم .. لا تبلغ الشرطة، وأنا أعدك أن نحل الخلاف الذي حصل بالتراضي !

قلت :

-         لقد كنت بالفعل عازماً على عدم طلب الشرطة .. لكن .. بعد ما حكيت لي عن هذا الأرعن الذي كفر بالخبز والملح وفعل بكم ما فعل .. أصبحت مصراً على طلب الشرطة لكي يلقوه في الشارع تمهيداً لطرده لكي يعيش تحت بسطار تاج راسه في الشام !!

ففاجأني محمود قائلاً :

-         لا .. استحلفك بالله لا تفعل .. فهو على أية حال منا وفينا !

قلت مستنكراً :

-         لا .. ليس منا من يفعل ما فعله هذا الحقير !!

فعاد محدثي يستحلفني بالله أن لا أفعل؛ فاحتضنته وقبلت رأسه على هذا الموقف الوطني الذي جعلني أرفع يدي إلى السماء شاكراً لله عز وجل على ثورتنا السورية التي كشفت معادن الرجال، وميزت الخبيث من الطيب .

وسوم: العدد 734