يوميات مرابط

خرج من خندقه الجديد يتمشى ضجرا, يستكشف المكان, سار بين حارات غادرها سكانها, ومنازل متداعية الجدران لم يعتق القصف الهمجي جديدها ولا قديمها, البرد على أشده ورأس السنة الميلادية يدنو مسرعا فوق أوراق الروزنامة, التي لم يبق منها سوى وريقات أقل عددا من أصابع اليد الواحدة.

 صوت الطائرة يهدر فوق رأسه, لاذ بجرف صخري منيع وراح يراقبها, تبدو في الفضاء كذبابة سوداء قذرة, ألقت بحمولتها من الصواريخ وراحت مبتعدة, ارتفعت سحب الدخان والغبار, تحجب ألسنة اللهب التي أضاءت بوميضها المكان, أخرج جواله من جيبه, فتح صفحته على فيسبوك وكتب: كل صاروخ وأنتم بخير.

 هرع عائدا الى موقعه يتفقد رفاقه, وجد الجميع بخير, سالمين, يتبادلون الطرائف ويضحكون, وهم يجهزون وجبة الغداء المتأخرة, والمكونة من البطاطا المقلية والخبز, أخرج جواله, فتح صفحته, وكتب : من منكم نبتت البطاطا في جوفه مثلي؟؟ أين العرب؟ أين الدول الإسلامية؟ لا نريد منكم شيئا سوى بعض حبات البندورة تعيننا على ابتلاع البطاطا.

 النهار يوشك على الرحيل, الغيوم الدكن تحجب قرص الشمس, والريح تئن موجوعة بين الأغصان الجرد, خرج مرة أخرى يتمشى مقارعا الضجر, اصاخ السمع لطرقات واهنة منتظمة, من فأس تحاول تقطيع الحطب, لحق بمصدر الصوت صامتا منتبها , تجاوز منحدرا من الأرض ثم ارتقى مرتفعا, وتوقف يغالب اختناقه بمشاعر تكونت في حينها, متشابكة مضطربة كتشابك كومة من العشب لملمتها الريح, مبللة كلها بتأنيب الضمير.

 كان هنالك رجل عجوز, تشير تجاعيد وجهه الى تجاوزه العقد السابع من سنواته برقم غير قليل, يرفع الفأس بكلل ويهوي بها على جذع يابس, محاولا تقسيمه الى قطع صغيرة يتسع لها باب المدفأة, ألقى تحيته وانتزع الفأس من يد العجوز, ليكمل عنه ما بدأه من العمل, تراجع الرجل بحركة واهنة وجلس على بعد خطوة واحدة يلتقط أنفاسا متعبة, ويدعو للشاب بطول العمر وبالنصر والعودة الى أهله سالما مظفرا, سأله الشاب: أين أولادك وأحفادك يا جدي؟ لم يتركونك تعمل وحيدا؟

 بعد لحظات من الصمت والتفكر, أجاب الرجل بأن لديه ولد واحد, ولا يدري أهو معتقل في أقبية الظلم؟ أم شهيد لاقى ربه في ساحات الجهاد, وأن أخبار ولده قد انقطعت عنه منذ شهور, أسكن هنا مع زوجتي- قالها بعد مدة من الصمت المرير- والرزاق هو الله, حاشاه أن يخلق مخلوقا ويقطع به.

 حمل الشاب الحطب المقطع بين ذراعيه وسبق الرجل الى داخل البيت, ليساعد في إشعال المدفأة, هنالك رأى الزوجة وقد أقعدها الشلل في فراشها, أدرك حينذاك السبب في تخلف هذا العجوز عن اللحاق بمن هاجروا, سأل المرأة المقعدة: من يأتيكم بالطعام يا جدة؟ أجابته أولادي, كل الثوار أولادي, كل الشرفاء هنا أولادي, لا يأكلون طعاما إلا كانت لنا حصة فيه.

 سار في النهار التالي مع رفيق له باتجاه دار العجوزين, الطريق واسع مكشوف, الطائرة المروحية تحلق مقتربة من موقعهما, ركضا بسرعة ليحتميا بجرف صخري, كلب شارد أرعبه صوت الطائرة فركض معهما يحتمي بهما, رمت الطائرة براميلها واستدارت عائدة, قال لزميله : لو أن برميلا منها أصابنا, ومتنا ثلاثتنا, نحن وهذا الكلب, في هذا المكان, من سيبحث عنا وينشرنا في الاعلام؟ هل سنحسب على جمعيات حقوق الانسان؟ أم حقوق الحيوان؟

وسوم: العدد 736