طـارت السـكرة

د. أحمد محمد كنعان

استيقظت "أم حسن" على صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، توضأت، صلت، قرأت أذكار الصباح، وقامت فجهزت عجينة الفلافل وحملت الحلة إلى الغرفة المجاورة التي حولها "أبو حسن" قبل ست سنوات إلى مطعم؛ ففتح في جدارها نافذة واسعة على "شارع الخرار" المطل على "جوبر" البلد، وأحضر علبة البخاخ الأسود التي اشتراها ليدهن دراجة حسن التي صدأت بفعل المطر والزمن، وبعد أن وضع الإطار الخشبي للنافذة خرج إلى الشارع وكتب بالبخاخ فوق النافذة "فلافل أبو حسن" وبدأت الأسرة تعتاش من هذا المطعم البسيط .

تذكرت أم حسن ذلك الحدث الذي أنقذ العائلة من التسول، ودخلت المطعم فوضعت حلة العجينة على الطاولة، وهي تتنهد حرقةً للذكرى، ورددت وقد خنقتها العبرات :

-         وينك .. يا سيد راسي ؟! طولت .. الغيبة !!

وأجهشت بالبكاء وهي تتذكر سعادته الغامرة يوم راح يوزع سندويش الفلافل مجاناً على المارة فرحاً بافتتاح المطعم الذي استدان ثمن زيته من بعض الأصدقاء !

وشهقت بدموعها .. وهي تتذكر أن فرحته لم تدم سوى يومين؛ فقد صادف افتتاح المطعم انطلاق "ربيع الشام" 2011 ، وانتشرت في كل الشوارع شعارات مكتوبة بالبخاخ على الجدران تنادي بالثورة لإسقاط "الدكتاتورية" ورحيل نظام "بشار الأسد" الذي حول البلد إلى جحيم ! فجاء عناصر الأمن في فجر اليوم التالي لافتتاح المطعم، فسحبوا أبا حسن بتهمة استخدام بخاخه الأسود في كتابة شعارات ضد النظام .. وانقطعت أخباره !

وضعت أم حسن الحلة على الطاولة ومسحت الدموع بطرف كمها، وتذكرت الدعاء الذي كان أبو حسن يردده قبل أن يشرع بالعمل، فرددت مثله :

-         يا فتاح .. يا عليم .. يا رزاق .. يا كريم ..

وأوقدت النار تحت الزيت بقلب تعتصره حسرات الذكرى، وكانت الشمس قد أشرقت واقتحم الضوء النافذة، فأبعدت أرغفة الخبز إلى الظل، وتذكرت ما كان يفعله أبو حسن مع هذه النعمة، فرفعت الخبز وقبلته شكراً لله وأعادته إلى الظل، وهي تردد في قلبها ( اللهم أدم علينا هذه النعم )

-         صباح الخير .. خالتي .. أم حسن ..

التفتت فوجدت "عدنان" ابن الجيران وأخته "زهرة" يطلبان سندويش الفلافل وهما في طريقهما إلى المدرسة، فابتسمت لهما وقالت في تودد :

-         أهلين حبيباتي .. صباح الخيرات .. تكرموا .. دقائق ويكون الطلب جاهزاً ...

أخذ عدنان وأخته الفلافل وانصرفا، لكن أم حسن استمرت تجهز المزيد من السندويش ووضعتها في كيس، ونادت ولدها، فجاء "حسن" يعتمر قبعة "الفتوة" ويزرر قميصه استعداداً للذهاب إلى الثانوية، فقدمت له الكيس، وهي تقول :

-         الله يرضى عليك .. يا ماما .. خذ هذا إلى العساكر في الحاجز عند مدخل الشارع وسلم عليهم ..

اعتكر وجه حسن لهذا الطلب، وحرن عند الباب كما اعتاد كل صباح حين تكلفه بهذه المهمة التي يراها تأييداً للنظام ضد الثورة، لكن الأم تنفحته بابتسامتها الحانية مثل كل صباح وتدعو له وتقول :

-         الله يرضى عليك ..ماما ..  خذ .. منشان خاطري !

فيقبل نحوها ويشير بإصبعه ناحية الحاجز يدعو على من فيه :

-         السم على قلوبهم .. أنهم يحاصرون أهلنا .. ويدمرون البلد .. وأنت تدلليهم بطعامنا !!؟

فترد عليه وهي تمسح على وجهه في حنان :

-         الله يرضى عليك .. هؤلاء على كل حال جيراننا .. والنبي صلى الله عليه أوصى بالجار !

فتناول الكيس حرصاً على رضاها، وانطلق يوصل الطعام لهم حباً بالنبي، وهو يتمتم مغضباً بينه وبين نفسه :

-         إلى جهنم .. هم .. وهذه الجيرة التي لم يرعوها !

وانهمكت أم حسن بتجهيز السندويش للتلاميذ والعمال الذين بدؤوا يتوافدون على النافذة، وإذا بصوت طلقات نارية يتردد صداها في الآفاق، فحدث هرج ومرج، وانصرف الزبائن ..

-         لا حول ولا قوة إلا بالله ..

رددت أم حسن وهي تنظر بحسرة إلى الطلبات التي تركها أصحابها وانصرفوا خشية من المعركة التي اعتادوا أن تشتعلكل يوم بعد إطلاق الرصاص ! وعادت أم حسن تردد :

-         لا حول ولا قوة إلا بالله ..

وجلست تنتظر عودة الزبائن، وأسندت خدها بكفها، وراحت تحدق عبر النافذة إلى السماء ضارعة لله أن تنتصر الثورة ويرحل "النظام" الذي أشعل هذه الحرب المجنونة في البلد، بدل أن يشعل الحرب ضد الذين احتلوا الجولان !

ولم تنشب المعركة في الخارج كالعادة، وخيم صمت مطبق على الدنيا، فاستغرقت أم حسن في نوم عميق، لتصحو على سماع دقات عنيفة تطرق باب الدار، فقامت فزعة تفتح الباب، وإذا بولدها حسن محمول بين الرجال بلا حراك وقد غسلته الدماء، وآثار الفلافل على صدره غارقة بالدم .. صرخت :

-         ولدي .. حسن !!

وانهارت على الأرض ..

وعندما صحت وجدت نفسها على السرير يحيط بها الطبيب والممرضات وبعض جاراتها ..

وجاء ضابط ينوء بنجوم كثيرة على كتفيه، ربت على كتفها متودداً، وجلس على الكرسي الذي قدمه له الطبيب وانصرف، وانصرف الآخرون، فالتفت الضابط نحوها بابتسامة باهتة وقال :

-         الحمد لله .. على السلامة .. يا حجة ..

أرادت أن تقوم لترد عليه التحية لكنه أشار لها أن ترتاح وتابع يقول :

-         نحن آسفون جداً يا حجة .. الحادث لم يكن مقصوداً .. بل كان قدراً وصدفة.. فقد كان الحارس غارقاً في نومه، وعندما فتح حسن باب الحاجز فوجيء به الحارس وظنه من الثوار الذين اعتادوا أن يداهموا الحاجز كل صباح، ففتح عليه النار .. وهذا ما حدث .. نحن آسفون .. آسفون جداً (واصطنع ابتسامة باردة وتابع) يا حجة .. حسن شهيد .. شهيد .. يا حجة .. الله يرحمه (ومد يده إلى جيب سترته العسكرية، وتابع ) شوفي ..

وأخرج مظروفاً سحب من داخله ورقة قدمها لها وهو يقول:

-         هذا إذن رسمي لكي تزوري أبو حسن .. متى شئت ..

خفق قلبها للخبر، فصرخت بفرح غامر :

-         الحمد لله .. الحمد لله .. ( واستحلفت الضابط ) بالله عليك .. سيد راسي حي؟!

ضحك الضابط لتعبيرها العفوي، ورد عليها في ثقة :

-         طبعاً .. طبعاً .. يا حجة .. حي .. والله حي .. وهو بخير .. وسوف ترينه بعد خروجك من المستشفى .. شدي حيلك !

ولم تكن بحاجة لمن يشجعها، فقد كان الخبر كفيلاً بالمهمة، فقامت في الصباح التالي باكراً، صلت الفجر، وجلست تتلو أورادها اليومية بانتظار الطبيب، فلما جاء طلبت تسريحها !

وفي طريقها إلى البيت بدأت تخطط للقاء سيد راسها كما اعتادت أن تناديه أمام ولدهما حسن وأمام من حضر، وقبل أن تدخل البيت عرجت على "بقالة أبو صالح" فاختارت صبغة شعر بلون الكستناء الذي يعشقه أبو حسن، وطرقت الباب على جارتها "أم حمزة" وطلبت منها مرافقتها لكي تهذب لها شعرها وتصبغه لتغطي الشيب الذي اشتعل في رأسها خلال سنوات الفراق والتعتير .

وحل يوم اللقاء ..

فقامت من الليل، اغتسلت، صلت الفجر، ورددت أورادها اليومية، وقامت فلبست ثوبها المخمل الأزرق الذي أهداه لها أبو حسن من أول غلة جمعها من المطعم، وأكملت لباسها، فوقفت على المرآة، تعطرت، ومررت أحمر الشفاه على شفتيها بلمسات خجولة، ومست رموشها مساً خففاً بالكحل، ونظرت إلى وجهها في المرآة فابتسمت وهي تتخيل دهشة "الحبيب" لحظة لقائها وقد عادت صبية في العشرين !

وجاءتها جارتها "أم حمزة" صباحاً تعرض مرافقتها، فشكرتها واعتذرت لها بحجة ملفقة قائلة إنها لا تريد لها الدخول إلى ذلك المكان الكئيب، وهي الحقيقة رفضت المرافقة لرغبتها بلقاء الحبيب على انفراد؛ لاسيما وقد جهزت نفسها للقائه كعروس تتجهز لليلة الدخلة !

وصلت المركز ..

فقدمت الإذن للحارس الذي كلف حارساً آخر أوصلها إلى مكتب المدير، فوجدت نفسها أمام ضابط عجوز، سلمت عليه فلم يرد السلام، بل راح يتأمل وجهها المشرق بعينين تبرقان بشبق آثم لم تخطئه عيناها، حتى بدا لها مثل ذئب جائع، فأوجست منه خيفة، وفكرت أن تهرب من الوحش، لكن .. كيف والمكان محاط بالحراس والأسوار والبنادق !؟

-         هل ترغبين بغرفة عادية ؟ أم غرفة الخلوة الشرعية ؟

سمعته يقول، فغضت طرفها حياء لذكر الخلوة وأجابت :

-         لا يهم .. المهم أن أرى سيد راسي ..

طمأنها الضابط :

-         سوف ترينه .. سوف ترينه .. لكن طولي بالك علينا ..

ومد يده فرفع سماعة الهاتف وتمتم بكلمات مقتضية، ووضع السماعة؛ فجاء عسكري على الفور، وقبل أن ينتهي من أداء التحية أشار له الضابط أن يقترب، فمال إلى أذنه وهمس شيئاً، وعاد يسترخي في كرسيه العريض، وتابع يقول للعسكري وهو يشير إلى أم حسن  :

-         عجلوا يا إبني .. الأخت مستعجلة ..

-         أمرك .. سيدي

أجاب العسكري، وخرج مسرعاً فغاب دقائق ثم عاد فأخبر سيده أن كل شي تمام، فقال الضابط وهو يرفع غليونه ويوقد ناره :

-         طيب .. خذ الجحة واتركوها مع .. سيد راسها .. حتى تشبع ..

-         حاضر سيدي ..

قال العسكري، وضرب الأرض بقدمه، وأدى التحية لسيده، وأشار لأم حسن لترافقه، فقامت تتبعه حتى وجدت نفسها في غرفة واسعة مفروشة بسرير وطاولة في الوسط عليها صحن شهي من الفواكه، وزجاجات عصير بألوان عديدة ..

ولما كانت مرهقة جلست على أول أريكة قرب الباب، وراحت تتأمل الغرفة التي بدت لها غرفة نوم، فخجلت من نفسها، وهي ترى نفسها في "غرفة الخلوة الشرعية" التي أشار لها الضابط، لكنها أقسمت بينها وبين نفسها أنها لن تفعلها هنا حتى ولو أرادها سيد راسها لذلك، وقطع عليها التفكير صرير الباب وهو يفتح، فقامت مطرقة رأسها رهبة من اللقاء، واستدارت لاحتضان سيد راسها، فإذا هي وجهاً لوجه أمام الضابط العجوز الذي أحس فزعها وارتباكها عندما رأته، فأشار لها أن تجلس وراح يهدئها :

-         تفضلي أختي .. تفضلي ارتاحي .. واطمئني دقائق ويأتي أبو حسن..

وتناول حبة تفاح وقضمها بشراسة، وانتبه أنها ظلت واقفة، فصرخ فيها بصوته العريض الآمر :

- اقعدي !

وعاد ينهش التفاحة بشراهة ووحشية فاكتملت في عينيها صورة الذئب، وراح هو إلى الطاولة وسط الغرفة، ففتح إحدى الزجاجات، وسكب منها القليل في الكأس، ورفعه إلى فمه وأفرغه في جوفه دفعة واحدة، وعاد يكسب جرعة أخرى، فانتشرت في المكان رائحة نفاذة، أدركت أنها رائحة المسكر، فانطلق قلبها يضرب في جنون وقد أيقنت أنها وقعت في الفخ، فعادت تخطط للهروب .. لكنها تذكرت أن  المكان محاصر بالأسوار والحراس والبنادق، فتنهدت في يأس وسلمت نفسها للمقادير، واعتصمت بالدعاء، فيما كان الذئب يواصل الشراب، فلما فرغت الزجاجة ألقاها على الطاولة، وقام فدخل الباب في الركن القصي من الغرفة، وغاب هناك لدقائق وخرج بلباس النوم .. ورأت الذئب مجسداً أمامها، فتضرعت :

-         يا رب .. يا لطيف .. دبرني !!

وأحست قلبها ينخلع من صدرها وهي ترى الفخ محكماً حولها،  وسمعت الذئب يدندن بأغنية داعرة، بصوت بدأ يتراخى بفعل الشراب؛ فأيقنت أن الكارثة حاصلة لا محالة؛ ولابد من حيلة، فأشعرته بحاجتها إلى الحمام، فأشار إلى الباب في الركن وواصل الشراب، ثم توقف فجأة وقد تذكر نسيان بدلته العسكرية ومسدسه داخل الحمام، لكن الشراب ظل يغريه، فتناول الزجاجة الثالثة وراح يكرع منها مباشرة .. فيما دوى في الركن صوت طلق ناري مكتوم .. وطارت السكرة !! 

وسوم: العدد 737