حمزة المحروق

 ما كانت يداه محروقتين, لا , ولا كان وجهه أسود, ولا كان جسده ملطخا بالكدمات الزرق, حين خرج حمزة من داره تاركا باسم ورباب يلعبان بين صفحات كتاب القراءة, الذي تركه في بيته وخرج مع أمه نازحا مشردا لا يعرف, ولا تعرف, إلى أين, يدفعه الرعب للتمسك بذيل ثوبها في دروب وعرة, هاربين من براميل الموت المتساقطة على المدن والقرى, من طائرات الجيش (الباسل), ولا دار في ذهنه أو أذهان المشردين أمثاله, أن هذا الجيش سمي بالباسل, ليكون بضباطه وأفراده, بآلياته الثقيلة والخفيفة, ملكا لشاب يحمل هذا الاسم, بعدما ملك أبوه البشر والحجر والأرض والفضاء, قضى الشاب في حادث سيارة, وظل الجيش يحمل اسمه ولاء لأبيه وأخيه من بعده, وتراثا متوارثا لأفراد عائلته.

 القصف الهمجي وصل إلى الحي الذي يقطنه حمزة, منازل تهدمت, أسر بكاملها دفنت تحت الركام, رجال ونساء وأطفال شوهتهم الشظايا, ونجوا من الموت ليكملوا حياتهم مشوهين معاقين, أخذته جدته ونزلت به الى القبو, أيام طويلة أمضياها هناك بين الظلمة والرعب والبرد, الى أن قرر من تبقى في الحي النزوح.

 أمضى الليل بطوله باكيا, تأخذه الغفوة فيصمت, الا من شهقات تطلقها رئتاه المتعبتان بين نفس وآخر, يفاجئه صوت الانفجاريات في المنام فيصحو مذعورا هلعا, يلوذ بأمه, يبحث عن الأمان في قسمات وجهها الجميل, في عينيها المكحولتين, في جدائل شعرها التي تلامس صدره, حين تنحني فوقه تقبله وتمنحه الطمأنينة, يفتح عينيه, يحدق في الوجه الباهت أمامه, يحدق في الرأس الأصلع, ثم يغمض عينيه هاربا من الوجه الكالح ويستمر في ندائه: أريد أمي...

 الصوت المتعب المبحوح صوت أمه, اللمسة الحنون لمستها, لكنها ليست هي, لابد أن أمه قد عادت من السفر لتبحث عنه, لابد أنها حزينة لفراقه كحزنه لفراقها, تحتار المرأة في سبيل إسكاته فتجلس قرب رأسه تشاركه البكاء.

 قالوا له منذ أشهر أن أمه مريضة, وأنها ستعود من السفر أكثر صحة وعافية, لكنهم يكذبون, ما كان يراها الا راضية باسمة, سافرت, وتركته وحيدا مع جدته, لماذا سافرت؟ لماذا لم تصحبه معها؟ كانت جدته تحاول تسليته بالحكايات, تقدم له الفواكه المجففة والحلوى, حمزة لا يريد شيئا سوى أمه, تأخذه جدته الى بيوت الجيران ليلعب مع أولادهم, فيجلس في ركن قصي يراقبهم عن بعد, حزينا مقهورا.

 أيقظته الجدة في الصباح الباكر تبشره بعودة أمه, ضحك وفرح وراح يقفز على السرير ذي النوابض, وحين سمع طرق الباب ركض بكل قوته ليرتمي في حضنها, بادر أبوه وخاله, فمدا ذراعيهما سورا يمنعه من الاقتراب, محذرين من لمسه لجرحها, فتراجع.....أهي مجروحة؟ من جرحها؟ ما بالها تمشي بصعوبة مستندة الى ذراعي أبيه وخاله؟ أما قالوا له أنها ستعود أكثر عافية منها حين ذهبت؟ كلهم كذبوا عليه, أمه لا تكذب أبدا, تمددت على سريرها بادية الإرهاق, فدنا منها أمسك يدها وتوقف يراقب أنفاسها المتعبة بصمت, كان الجميع يتحدث عن تفاصيل الرحلة والعمل الجراحي, وعن وصايا الأطباء, متناسين وجود طفل قضى أيامه الماضية, تتمزق روحه غربة وضياعا, يعاف الطعام والشراب, والرفاق, ولا يكاد يسكت حتى يعاود البكاء من جديد.

 مرت عدة أيام, الأم لا تغادر سريرها, والطفل واقف قربها ممسكا يدها, تحاول التخفيف عنه, تحاول تسليته, يناولها كأس الماء, يناولها الدواء, تبتسم له فيشعر بعودة الحياة, يفرح ويضحك, ثم تأتي هجمات الألم الى جسد الأم, فيقف على هامش المشهد, صامتا متخشبا وقد أسقط في يده.

 مرة أخرى لا بد من السفر لاستكمال العلاج, أوصته أمه بطاعة جدته, وعدم إزعاجها ببكائه, وبمتابعة دروسه, وعدته بهدايا كثيرة وألعاب, وبأنها ستعود صحيحة قوية كما كانت, وغادرت المنزل مثلما جاءت, بين ذراعي زوجها وأخيها, مودعة بدموع صامتة من طفلها, وعادت بعد أيام أكثر إنهاكا, وقد زاد على بؤسها سقوط شعرها بكامله, وتغير ملامح وجهها اذ غادرته الرموش والحواجب, بكى حمزة كثيرا حين رآها, صارخا أريد أمي, هذه الصلعاء ليست أمي, هذه المشغولة بالأنين, المبعدة اياه عن حضنها خشية اصطدامه بجرحها ليست أمه, يريد أمه الجميلة الحنون, المهتمة دائما بكل شؤونه.

 الجدة أصابتها شظية بينما كانت في باحة الدار تحاول إحضار ماء للشرب, الشظية طارت بجزء من رأسها وشوهت معالم وجهها, حملها الرجال حين هدأ القصف الى المقبرة القريبة, تاركين في مكانها بقعة كبيرة من الدماء, وسيقت الأم مع طفلها في موكب النزوح لتستقر في مخيم اللاجئين.

 كان حمزة يسألها طوال الليل عن دوائها, فتجيب بأنها نسيته هناك في بيتها, وأنها لا تملك نقودا تشتري بها الدواء, ولا أحد هنا يمكنه مساعدتها بشيء, سوى وجبات من الطعام المطبوخ, تأتي في مواعيد ثابتة, توزع على كل الخيام, ولا تناسب في نوعيتها ومكوناتها امرأة مريضة, جرحها لم يندمل بعد.

 فكر حمزة, هو الآن رجلها الوحيد, لا بد له من عمل شيء ليحصل منه على دواء يسكن آلامها, وأنينها الذي لم ينطفئ طوال الليل, تركها في غفوة الصباح وخرج يتمشى بين الخيام, باحثا في عقله عن وسيلة, الفجر يغمر المخيم بأنوار زرقاء باهتة, السكان نيام, الا من صلى في المسجد وعاد الى خيمته مسرعا اتقاء البرد, المكان خال مقفر يثير الرعب, تعثرت قدمه بسلك مرمي على الدرب فسقط مكبا على وجهه, فوق الأرض المحصبة, تلفت حوله, ثم نهض لينفض التراب عن ثيابه وراحتيه, جاءته فكرة, بعض أولاد الحارة كانوا يجمعون أسلاك الكهرباء المهملة, يخلصونها من أغلفتها ويبيعون نحاسها بقروش يشترون بها قطع الحلوى وبعض الألعاب, لا لزوم للحلوى هنا ولا للألعاب, ابتسم للفكرة, ها هو ذا قد وجد مصدرا للمال, ربما يستطيع به تسكين آلام أمه, عاد إلى السلك, طواه في يده وراح يبحث عن سواه, فرحا مسرورا.

 مشى ثم مشى, برد الصباح يرجف أوصاله, والحصى المدببة تثقب حذاءه وتجرح قدميه, لا بأس, فالهدف كبير, والأمل يدفعه للمزيد من السعي, سلك ثخين بدا له من البعيد, يعادل حجم ذراعه, يبتسم له بأسنان نحاسية لامعة, ركض اليه, وانكب فوقه فرحا بالغنيمة.

 ما كان ذلك الكبل غنيمة كما تمنى, بل كان الموت ينتظره في التيار الكهربائي الكامن, لمسه, فقذف بجسده في الهواء, ثم سقط على الأرض محروق الأطراف مفارقا الحياة.

 عند الضحى تجمع الرجال حول الجثة, وجاءت سيارة الإسعاف, بل جاءت سيارتان في وقت واحد, توجهت إحداهما إلى حيث ترقد جثة الطفل, والأخرى إلى حيث ترقد جثة أمه, التي سلمت الروح إلى بارئها إثر نوبة من الألم, لم تفجع بابنها, ولم يفجع بها, بل التقت روحاهما في فضاء المخيم, لتكملا الرحلة الى حيث تستقر أرواح الآلاف من أمثالهما عند رب غفور رحيم.

 من بين الخيام خرجت جنازتان, وجاءت إدارة المخيم, استلمت الخيمة بمحتوياتها, لتسلمها لأسرة جديدة نازحة, وما زالت القذائف وبراميل الموت ترفد المقابر والمخيمات, بأرقام تتجدد في كل ساعة.

وسوم: العدد 737