هوية عبرية

يبدو- والله أعلم- أن الزمن قد طال بما فيه الكفاية لأن أعيد ما أسلفته مرارا من أعمال، يسرني أن ألوك نتفا من سيرة الأجداد؛ إنهم لم يدونوا تاريخهم، بل لم يشغلهم هذا، كانوا يعرفون طرقا أخرى ليكمل أبناؤهم ما بدأوه، ثمة أشياء يصعب علي تذكرها فأنا لم أشاهد كل ملاحمهم التي تورد تاريخهم، اليوم فزعت من نومي مبكرا، لا صبر لدي لكي أتناول طعام الإفطار.

 كانت الليلة الفائتة مثيرة لدرجة الغرابة، طاف بي كابوس؛ جف نهر النيل قبالة قريتنا، رأيت الجنية الذهبية لكنها كانت حزينة مهمومة، الأسماك تنتحب جوارها، تناثرت قطع من فخار موشوم في باطن النهر، سراديب ذوات ممرات متعرجة تفضي إلى لوح كبير، تعجبت من الأشكال والرسوم التى لمعت في ضحوة الشمس، قالوا إن تلك الخرائط تشي بسر خطير؛ إن بنى الأحباش عند منبع النهر سدا أصيب بمرض عضال، ومن ثم تموت الأسماك الذهبية كما تعتل الجنية الذهبية.

ضربت أخماسا في أسداس فتجمعت لدي سلة من أرقام، حتى ظننت أنني قد امتلكت مفاتيح الكلمات الممسوسة والحكايات المروية منذ ألف الف عام، ليس هذا كل ما حدث لي، رأيت رجلا يمتطى حصانا بثلاثة أرجل ويمشى فوق صفحة قعر النهر، إنه بعين واحدة أما الأخرى فقد وضع عليها عصابة من جلد، حاولت جاهدا أن أستعيد اسمه فقد وجدت نقشا موضوعا أعلى اللوحة الحجرية، يا لها من مفارقة عجيبة، ثمة إبل وخيل في عراك مع خنزير بري، أطفال مثل نسائم الأقحوان التى كانت أمي تزرعها جوار بيتنا الحجري، لكم كان ذلك جميلا!

أصبحت مهموما بتلك اللوحة، العرافون ذهبوا ناحية تل أبيب، لقد انتهى زمن زرقاء اليمامة فهم من غلظتهم سملوا عينيها علانية، فجعت في هويتي المشتتة كل عام أجد نفس الكابوس، تتكرر الأحداث لكن بأشخاص متغايرة، ما أفزعني أن بطاقة رقم هويتي بدا أنها كتبت بحروف عبرية.

أشعر أن شجرة السنط التي كانت منتصبة فوق ضفة النهر قد توزعت حتى ملأت الوادي الذي صار ميدانا تركض فيه تلك الخنازير الغجرية، حافلة النقل العام التي خادعت محصل التذاكر فلم يعد معي مال ليكفي لأذهب إلى بيت أبي الحجري، قرب باب الشعرية صعد فتى به رواء الشباب؛ يتسول لآخر يدعيه ميتا، تلك نادرة، ففي المحروسة حيل تفوق دهشة الحلم.

 كانت طاقية صغيرة تعتمر نصف رأسه، إنه يقرب لهذا الأعمى الذى اختال يوما على شاطيء النهر، إنهم يحبون القاهرة، فالحكايات حين تصاب بتهمة الخنوع للحاكم بأمره تبدو أشد تأثيرا، يخيط طفلي ثوبه فقد أعجزه الفقر أن يشتري جديدا، أما أنا فقد حاولت تصويب الخريطة، كلما وضعت يدي بدا لي قرن الشيطان، هي مصابة كما الأشياء بمس. وحتى أتخلص من هول المشاهد، عقدت العزم أن أغلق تلك الكوة الجديدة التى انشقت في الجدار الموازي لضفة النهر.

يوجد جزء من حلم الليلة المنتهية حديثا، رفات جنود خضر حين تساقط مطر الشتاء- وقد طال حتى بلغ ست سنوات عجاف- أينعت وأزهرت أقحوانا يشبه ذلك الذي كانت أمي تزرعه، انشق النهر عن غجري أطاح باللوحة المنتصبة قهرا، إنه الآن يقهقه بصوت تسمعه الثكالى، كلما علا صوته أصابتني وخزة.

وسوم: العدد 741