طلاء باهت

مضت على هذا المبنى سنوات يذكرها جيدا، فللأشياء ذاكرة تختزن الأحداث لتتقوت بها في يوم تغيم فيه الشمس فلا تشرق، إنه يعرف كل من سكنوا حجراته أو تركوا" خربشاتهم" فوق الحوائط، يقف شاهدا رغم أن البشر دلسوا في أقوالهم، حاولت أن أجد بعض وقت لأعاود زيارته؛ ارتحلت مرغما، فقد ناوشتني النداهة سرقت عمري تلك الرغائب المرواغة، استجبت لها وها أنا اليوم منقطع في بلاد الله.

 لم أكن يوما حزينا مثلما هي حالتي اليوم، تلفت ناحية الباب الخشبي وجدته كما تركته موصدا، ثمة ثقوب في واجهته، يبدو أن الفئران رتعت فيه كثيرا، ضاع مفتاحه مثل كل أوراق هويتي التى تناثرت في بلاد الله، بالفعل صرت بلا جذر، حاولت أن أدلل على أنني أمتلك هذا البيت القديم، هزأ بي الجيران، أخذوا يضجون بالضحك، إن هذا البيت تمتلكه الجن، فبالليل تسمع أصوات الراحلين، حديث متواصل لا ينقطع، إنهم يتحاشون المرور جواره بعد صلاة العشاء، بل توجد هنا مسامرات رائعة.

حتى الحيوانات تصدر نغمات موسيقية تشبه تلك التي ترافق باليه" بحيرة البجع" في هذه اللحظة دفعتني مطامعي التي عرفت بها أن أقترب من الباب، من ثقبه الكبير الذي يميل إلى جانبه الأيمن، هالني أن وجدت القطط تجيد العزف على البيانو، حتى الفئران صارت بارعة في الرقص، حقا تلك مسامرة خيالية، هل أنا مصاب بداء انفصام الشخصية؟

يبدو هذا محتملا؛ فقد مضت على فترة طويلة وأنا منطو على كتابي وأوراقي، ولما أصيبت عيني بداء المياه البيضاء صرت أعيش في عالم الذاكرة، أقرأ الكتب مرة ثانية، أعيد ترتيب الأشياء مثلما كانت تفعل زوجتي قبل أن ترحل بعيدا حيث السماء زرقاء وجميلة، ولأنني أحتفظ برائحة بيت أبي فكان علي أن أعود إليه مجددا.

ما أتعبني أن خطواتي حتى أصل إليه صارت كثيرة، تعلمون أن الكبر عجز ووهن، كانت أمي تقول لي ستكون لك قدم ثالثة يوما ما كنت أضحك من هذا، والآن صرت كما توقعت، بدأت أكرر كلامها، حتى الطعام اللدن لا أستطيب غيره، يا لها من دهشة أن نقلد آباءنا! شيء واحد عجزت أن أعرف ما يختبيء داخله، ترى لمن تقرع الأجراس كل ليلة؟ الباب موصد كما هو، ترى كيف دخلوا؟

ربما يكون ما قصته جدتي من أن الجن ظلوا أربعين سنة بين يدي نبي الله سليمان وقد شرد منهم مارد قد سكن هذا البيت القديم، أو أنني أصبت بداء الخرف بعدما تقاعدت من عملي في دار المحفوظات، الكتابة أفضل شيء لأصحاب الذاكرة المعتلة، ربما تمثل لي الحكايات القديمة مثل تلك النداهة التي تسكن حارتنا منذ القدم.

جمعت ما تبقى من ذاكرتي قبل أن يجرفها الفيضان، انتبهت أن كل تلك خيالات نوم في ليلة الشتاء الطويلة، ما يزال الباب كما هو، الحائط مكانه، لكنني أصبت بحمى مباغتة، مع الصباح سأفتح النافذة الغربية يكون الهواء عليلا.

وسوم: العدد 741