ليلة القدر

في العشر الأواخر من  شهر رمضان  الكريم ، خلال فصل الصيف، كانت هناك طفلة صغيرة  :عشر سنوات ، تدعى ضحى ، وهي  فتاة مقعدة  ، فالمسكينة تعرضت لحادثة سير مريعة فقدت بسببها قدميها، وتوفي والدها في تلك الحادثة الفظيعة  . تقضي  أغلبية أيامها جالسة أمام المنزل  في كرسي متحرك ،تنظر إلى أطفال الجيران وهم يلعبون ويمرحون .

اليوم ست وعشرون من رمضان ،وهو يوم جد مميز لضحى فهو أول يوم تصوم فيه ،في العشية حيث أخذت أشعة الشمس تخفض من حرارتها لتستعد للغروب ، أخرجتها والدتها كالعادة إلى الخارج لتفرج عن نفسها  تنتظر آذان المغرب ، فجأة سمعت  زقزقة عصافير على هيئة انتحاب، فتحركت بكرسيها وأخذت تبحث عن مصدر  الصوت ،فوجدت عصفورين صغيرين ممددان على الأرض يصرخان من شدة الجوع والعطش ،بلطف و حنان حملتهما بكفيها الصغيرتين ثم نادت أمها لتساعدها :

أمي أمي تعالي بسرعة و أحضري الماء...

لبت الوالدة النداء،و بسرعة أتت إليها بكأس من الماء ، سألتها ضحي :كيف نروي عطشهما ؟

حملت الأم أحد العصفورين بكفيها ثم شربت من الكأس واحتفظت به داخل فمها ،بعد ذلك وضعت منقار العصفور في فمها الملي بالماء وسقته إياه ، نفس الشيء فعلته ضحى مع العصفور الثاني.

بعد ذلك دخلا إلى المنزل، حيث صنعت ضحى لهما عشا من الأعواد الرقيقة فرشته بلحاف من القطن، في حين ذهبت الأم لشراء بعض البذور، وبنفس الطريقة قامت الفتاة بإطعامهما، ثم وضعتهما بجانب نافدة غرفتها ،وبدأت  تلاعبهما ، دقائق قليلة مرت حتى نادتها والدتها  للجلوس على المائدة والاستعداد للفطور.

كانت المائدة مليئة بما  لذ وطاب من الطعام، فالليلة ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، خير من ألف شهر ... صدق الله العظيم ، أذن المؤذن : الله أكبر الله اكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله،حي على الصلاة ،حي على الفلاح ، ...

قالت الأم : الله يقبل صيامك ،عزيزتي هيا أدع الله بأن يحقق لك أمنية فدعائك  اليوم مقبول إنشاء الله.

ردت ضحى :أحقا  أمي ؟ إذن سأدعو الله عز وجل أن يعيد إلينا والدنا ويعيد قدمي أمشي بهما من جديد.

دمعت عيني الأم وبالرغم من علمها أن ذلك مستحيل، إلا أنها ردت بأمل قائلة :

آمين ، الله عز وجل قادر على فعل أي شيء ،فهو القادر ، المقتدر . وأكملت بالقول :هيا قولي باسم الله وتناولي فطورك لكي  أضع لك  الحناء في يديك الجميلتين .

بعد تناول الفطور اتجهت الأم إلى المطبخ لتحضير الحناء، فجأة دق الجرس ،فتحت الباب ، ثم رسمت ابتسامة خفيفة على ملامحها، لما لا والطارق كان أخ المرحوم زوجها السيد :كريم شاب وسيم في أوائل الثلاثينات درس بكندا الطب ويعمل  طبيبا هناك، قال بابتسامة عريضة :أهلا أختي نعيمة :رمضان مبارك كريم.

ردت بفرحة :مرحبا أخي علينا وعليك ،هيا تفضل بالدخول.

دخل كريم محملا بالهدايا لأبناء أخيه، كانت عبارة عن  ملابس تقليدية :جلباب لمحمد ،وقفطان جميل لضحى، بمناسبة  الليلة المباركة، ليس ذلك فقط، فقد كانت هناك  ملابس للعيد، لما لا فلم يتبق لعيد الفطر سوى أيام معدودة .

أكرمت السيدة نعيمة ضيفها الكريم كريم بالشاي و الحلوى ،وبعض الفواكه الجافة ،ثم فاتحها في موضوع معين ،حيث قال بخجل  :

أختي نعيمة أنا أعرفك منذ سنين طويلة، ،كنت نعم الزوجة لأخي المرحوم ، فلن أنسى أبدا موقفك وموقف المرحوم ،الذي ساعدني في بيع منزل والدي بالرغم أنه لم يكن لديه البديل، حيث  اكترى هذا المنزل لأتم دراستي بالخارج و أصبح ما أنا عليه الآن، لهذا أنا أطلب يدك الآن للزواج إن قبلت بي ،وإنشاء الله سأكون نعم الزوج لك، أما الأولاد فهما من لحمي ودمي ولن أتخلى عنهما أبدا، سواء قبلت الزواج بي  أم لم تقبلي .

ردت بخجل : لكن أنا أكبر منك بثمان سنوات ؟

على الفور  أجابها في محاولة لإقناعها :

أنا وأنت مازلنا شباب وفارق السن لا يهمني.

ابتسامة خفيفة رسمت  على شفتيها سرعان ما أخفتها  :لنأخذ  رأي الأولاد أولا ،  نادت بصوت عال :

محمد أحضر أختك وتعال إلى هنا ، أنا وعمك نريد استشارتكما في موضوع معين . دفع محمد  بأخته و اتجها إلى الصالون حيث كانا جالسين هناك.

قالت الأم : يريد عمكما  الزواج بي، هل أنتما موافقين ؟

ردت ضحى بسعادة :نعم أنا موافقة منذ وفاة أبي وأنت  تحاول ملأ الفراغ الذي تركه ، أضاف محمد بالقول :معك حق يا أختي كنت بمثابة أب لنا.

رد العم بالقول : الحمد لله  الكل موافق ،إذن عقد القران سيكون يوم عيد الفطر إنشاء الله.

انتشرت رائحة البخور في  أنحاء المنزل، أضيئت كل الغرف ،زينت المائدة بالشاي والعصائر الباردة والفواكه الجافة  ،لبس الأخوين ملابسهما الجديدة ،بمناسبة ليلة القدر ، تزينت ضحى بالكحل والسواك وفردت شعرها الطويل الناعم الأسود ،ثم  وضع عمها تاجا من الفضة  فوق رأسها الصغير، بعد ذلك شرعت  نعيمة بوضع الحناء على يديها الصغيرتين ،نصف ساعة مرت ، انتهت السيدة نعيمة من نقش الحناء، بعدها أذن المؤذن لصلاة العشاء  فاقترح العم  كريم  على محمد  مرافقته ، فوافق الأخير بكل فرح ،مباشرة بعد ذلك توضأت  استعدادا لصلاة العشاء،عندما انتهت من الصلاة دق جرس الباب كان كريم ومحمد قد عادا من المسجد، اجتمع الأربعة على مائدة العشاء، كأسرة جميلة  سعيدة،ثم شرع الجميع في تناول الكسكس اللذيذ ، نظرت ضحي بفرح إلى عمها الذي كان مشغولا في إطعام محمد ،ثم قالت في نفسها : الحمد لله  فقد استجاب لدعائي و أعاد إلينا أبانا .

بعدها عاد كريم من جديد ليتم صلاة التراويح في المسجد ، في حين خرج محمد رفقة أصدقائه إلى درب الحي  للتباهي بالملابس الجديدة ، ضحى رفضت الخروج ، واكتفت بالجلوس أمام نافدة غرفة نومها تنظر إلى فتيات الجيران وكأنهن في معرض للأزياء التقليدية، يتنافسن في عرض ملابسهن ،و التباهي  بالنقوش الجميلة الموجودة  بأيديهن وأرجلهن.

مرت ساعات وساعات حتى اقترب الفجر ، الأخوين محمد و ضحى نائمين في غرفتهما ، السيدة نعيمة مازالت  في غرفتها  تصلي التراويح و تلوا آيات قرآنية  كريمة ،بقيت على ذاك  المنوال الليل كله، حتى غلبها النعاس .فجأة وبينما كانت ضحى ممدة على سريرها غارقة في نومها ،اخترق سمعها   صوت  زقزقة العصفورين الصغيرين المتكرر، ففتحت عينيها ثم نهضت من على السرير،و اتجه نظرها مباشرة إلى السماء ،التي  تلونت باللون الذهبي ،و نور أبيض ساطع ينبعث من وسط السماء ، يتسع شيئا فشيئا ليتخذ طريقه اتجاه أ النافدة، دهشت الفتاة  لذلك المنظر الغريب ثم ابتسمت وهزت كفيها اتجاه السماء وقالت بصوت مسموع :

يا إلهي أعد لي قدمي ...

كررت  الدعاء مرات ومرات ومرات ، حتى اختفى  النور، بعد ها أذن المؤذن لصلاة الفجر.

قامت الأم  لتتوضأ ، فنادتها ضحى : امي أمي تعالي

اتجهت إلى الغرفة، فوجدت ضحى جالسة على سريرها وقدميها مغطتين بغطاء أبيض خفيف،  زفت إلى أمها الخبر السار:

استجاب الله سبحانه لدعائي و أعاد الله لي قدمي ،على الفور هزت الأم  الغطاء من على قدميها لتتأكد من صحة الخبر، وعندما شاهدت قدميها بدت  الدهشة والصدمة على محياها فقالت :

الله أكبر الله أكبر ، إنها نفس الوشمة التي كانت في قدمك اليسرى، مبارك عليك ابنتي  لقد فتحت لك السماء ،  أحمدك يالله وأشكرك .

ثم أمسكت بيد ابنتها ،هيا انهضي وتعالي معي لنتوضأ ونصلي   الفجر جماعة ونشكر الله عز وجل على هذه المعجزة.

وفي اليوم التالي أخبرت السيدة نعيمة كريم  بما حصل  ، وعندما جاء إلى المنزل ،دق الجرس، فتحت له ضحى الباب وهي واقفة على قدميها ، الدهشة بدت عليه وقف ثم تقدم إليها وقبل رأسها : إنها معجزة ياابنتي ، سأقوم بصدقة جارية لأشكر الله عز وجل.

أيام قليلة مرت  حل بعدها  عيد الفطر الذي  كان نفس يوم عقد قران السيدة نعيمة بالعم كريم ،كان يوما مميزا  و بداية ولادة أسرة سعيدة متدينة .

وسوم: العدد 742