الله.. سوريا.. حرية وبس

القصة الفائزة بالمركز الثالث مكرر في المسابقة الثالثة لمركز بحوث للدراسات 2017

 بضع ساعات فقط، كانت مدة الهدنة التي اُتفق عليها دولياً لإيقاف القصف و السماح بإجلاء الأهالي من مدينة حلب الشهباء أواخر العام 2016م .

بضع ساعات لم تكتمل حتى عاد القصف من جديد بأعنف مما كان، لم يكن هناك أي مكان نلجأ إليه. أطلقنا سيقاننا للريح، ركضنا و ركضنا،هرولنا، أتينا من هنا... من هناك، ومن كل صوب..

ما عدنا نرى شيئاً سوى تلك السماء الرمادية المكفهرة، وذاك الضباب الخانق. بيوت تتساقط، وأنقاض تئن، وأشلاء مرمية، وجثث في كل مكان.

ألمحُ يد شيخ تستنجد من تحت أنقاض بيته تحاول التشبث ببقايا الحياة، وما تلبث أن تسكن بلا حراك، معلنة قدوم الموت.

الموت  كان يطوق المكان بجناحيه، حتى الدموع تحجرت في مقلتيّ يومها.

حُشرنا هناك في حي واحد، بل في زاوية واحدة. كان المكان أشبه بفوهة بركان، و كان تجمّعنا أشبه بيوم المحشر.

مشاهد كثيرة متقطعة، ضبابية ورمادية اللون، لا تكاد تميز شيئاً، تبحث في أجندات الذاكرة فلا تجد إلا الفُتات!

                                            ****

نيسان 2011، أنهى (مصطفى) البورد العربي في مساق الجراحة العامة. شاب في الثلاثين من عمره من مدينة دمشق، كان ككثير من الشباب الذين أيدوا الثورة الشعبية ضد النظام ،على غرار ثورات الربيع العربي، وخاصة ثورتي تونس و مصر.

عمل فور تخرجه في دمشق، ثم انتقل بعد زواجه للعمل  في أحد مستشفيات شرقي حلب...

                                           ****

عندما انتقلتُ  إلى حلب وجدتها كباقي المدن السورية مؤيدة للثورة، مع أن الصراع المسلح لم يدخلها فعلياً إلا في وقت متأخر، إلا أن المظاهرات التي خرجت مطالبة بإسقاط النظام كانت قوية ولها أثرها، وخاصةً أن قاعدة انطلاقها كانت من الحرم الجامعي، مما أثرى الثورة وزادها زخماً.

كنت أعمل في أحد المستشفيات ، وما أن اندلعت الاشتباكات حتى بدأ القصف المدفعي والمروحي في العديد من الأحياء. كنا نستقبل العديد من الشهداء و الجرحى، بل العديد من حالات الاختناق.

***

لم يتوانَ النظام عن فعل كل ما يمكنه فعله لتكميم الأفواه، وإخضاع الشعب السوري الثائر، بدءاً من استهداف المدنيين العزل، وانتهاءً بقصف المدارس و المستشفيات، مستخدماً، وبلاهوادة، الطائرات المقاتلة، وبمساعدة من قوى دولية، إلى جانب استعانته بالقناصة أيضاً في بعض الأحيان.

اضطررنا  في كثير من الأحيان إلى استخدام الأقبية، لإجراء العمليات الجراحية، بسبب القصف العنيف والهمجي. حقيقةً كانت جرائم حرب لا تغتفر، كما خلفت دماراً كارثياً في المدينة.

كنا نرى يومياً مشاهد تنفطر لها القلوب. وفي أحيان كثيرة لم يكن بأيدينا الكثير لنعمله. كانت تلك اللحظات من أقسى ما يمكن أن تمر به في حياتك، أسوأ شيء في الحياة أن ينسلّ الوقت من بين يديك وأنت عاجز عن عمل شيء لإنقاذ حياة أشخاص أمّلوا الكثير فيك، بالرغم من كل ما تبذله، لكن الإمكانات المحدودة كانت دائماً ما تقف حائلاً دون عمل الكثير. ما كان يصيبني بالذهول أكثر، أن تلك الممارسات الإجرامية  لم تُثنِ الشعب عن أهدافه بل أججت الاحتجاجات أكثر، و زادت من  إرادة الشعب لمواصلة تظاهراته و الخروج إلى الشارع ،مطالبين بإسقاط النظام، و بناء دولة مدنية تكفل الحقوق و الحريات للمجتمع بكل فئاته و طبقاته المختلفة.

                                ***

أيلول 2014، شنّت قوات النظام هجوما برياً بغطاء جوي مكثف، استخدمت فيه البراميل المتفجرة و الغازات السامة...

كان يوماً مكتظاً منذ ساعات الفجر الأولى، كثيرة هي الأيام التي تسمع فيها تلك الانفجارات التي تهز المدنية، ودائماً  كان الضحية شخص بريء لم يرد سوى العيش بسلام.

كنت منهمكاً بإسعاف الحالات تارة، و إجراء العمليات الجراحية تارة أخرى، وقبيل الساعات الأخيرة من النهار، وصلنا مجموعة من الأطفال لم يتجاوز عمر أكبرهم 12 سنة، سارعنا بعمل كل ما يمكننا عمله لإنقاذهم. حقيقة كانت أغلب الحالات حرجة جداً.

كان العرق يتصبب منا ، وكأن وابل من المطر قد أصابنا. وفي وسط كل التعب و الإجهاد الذي أرهق كاهلي – خاصة أني لم أنم الليلة الماضية- كنت أحاول استجماع قواي و إبقاء تركيزي في أعلى مستوياته.

نادتني إحدى الممرضات لرؤية حالة وصلت لتوها، كانت في الممر هناك، لعدم توافر أماكن شاغرة في الغرف...

أخبرتني بأنها طفلة، عمرها يقارب ال8 سنوات، رأيتها على السرير بجانب طفل أخر، فلم يعد هناك أسرّة كافية بسبب كثرة الحالات، كنا نضطر لذلك في كثير من الأيام، وربما ترى بعضهم يفترشون الأرض أيضاً

***

اقتربت، توقفت قدماي فجأة، بل توقف الزمن من حولي، جفلت، توقفت هناك بقرب السرير، عيناي مسمرتان عليها، يداي متهدلتان إلى جانبي، للحظة من الزمن...لم أعد أرى أحداً من حولي سواها، ولم أعد أسمع شيئاً وكأني أُصبت بالصمم.

شعرت بعدها باحتضان شخص لي، نعم...سمعته يهمس في أذني، بل في أعماق رأسي "عظم الله أجرك، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار،  إنّا لله و إنّا إليه راجعون".

كانت كلماته كذلك الصوت الذي يصدرونه  في حال أرادوا إيقاظ  شخص من التنويم المغناطيسي.

صرخت فجأة وبلا شعور: (ياسمين)، كررتها مراراً، حاولوا أن يهدئوني، لكنني أحسست بالوجع يجتاحني، ينهش لحمي، وينخر عظمي...

ابنتي الوحيدة ياسمينة الشام الجميلة و البريئة، ممددة بلا حراك، مغمضة عينيها كملاك قرر الرحيل من عالم تسكنه الوحوش البشرية إلى عالم آخر تسكنه الملائكة.

أيعقل! ...أني لن أراها ثانيةً، أيعقل أني لن أسمع صوتها، وحكاياتها، وضحكتها التي تبعث فيّ الحياة؟.

لقد مزقوا قلبي، وانتشلوا روحي من أعماقها...

كانت تريد أن تزور بيتنا في دمشق القديمة، بيت الأسرة، أن تلعب في فنائه، وأن نجتمع كلنا هناك، نتناول قهوة الصباح التي تعدها أمي على تلك الطاولة الصغيرة بجانب البحرة، بينما نستمع إلى جارة القمر وعصفورة الشرق، ملكة الغناء العربي...فيروز بأغانيها التي تأخذك إلى عوالم ملائكية، تحلق بك عالياً في سماوات الحياة الوردية البهيجة، وتلك الزريعة هناك، أشجار الليمون، الريحان، الورد البلدي، الجوري، الغاردينيا، وزهر الياسمين الذي تعشقه أمي أكثر من أي شيء آخر، أتذكر مذ كنت طفلاً، والدي الذي كان يضعه في كل أرجاء المنزل لأجلها.

حب الزمن القديم، ذلك الحب النقي، الطاهر، تماماً كما علمونا كيف نحب بلدنا حباً صافياً لا تشوبه شائبة.

                                    ***

عاهدتُ نفسي كالكثير من شباب موطني بأني سأواصل العمل التطوعي، هنا في سوريا إلى أن تتحرر، إلى أن تسطع شمس الحرية وترى النور من جديد، لتظل شامخة أبية كجبل قاسيون.

لم أجد أجمل من كلمات الشاعر الكبير نزار قباني لأرسمها على سور بيتي المهدم في حلب قبل مغادرتها في أواخر 2016، ولا أجمل من أن أضع توقيعي، بل توقيع كل مواطن سوري حر أطلق صرخة الحق و الحرية في وجه كل ظالم، أسفل تلك الأبيات الرائعة.

أروع ما في حُبنا أنه

ليس له عقل ولا منطق

أجمل ما في حُبنا أنه

يمشي على الماء ولا يغرق

وسوم: العدد 752