الربيعُ العربي تحت المَجْهر 3

الحلقة الثالثة

لماذا نجَت تونس ومصر من الاحتراب؟

تضافرت العوامل التي ذكرناها في الحلقة الأولى مع بعضها لتؤدي إلى اندلاع الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والعراق والبحرين، وقد نجح النظامان البحريني والعراقي في القضاء على الثورتين هناك؛ لأنهما كانتا ثورتين طائفيتين، إذ أنها شيعية صرفة في البحرين وسُنّية بَحتة في العراق، لكن الثورات الأخرى نجحت في إسقاط حكامها باستثناء الثورة السورية التي تكالب العالم ضدها بينما تفرق أهلها كما ترقت أيدي سبأ!

وبعد أن وصل الثوار إلى الحكم في تونس ومصر تم الالتفاف على ثورة الياسمين وثورة يناير بصور وأساليب شيطانية، وحدثت نكسة للثوار ولاسيما في مصر، ومع ذلك فقد ظلت الأوضاع مستتبة ولم تحدث مواجهات بين الثوار وبين أطراف الثورة المضادة كما حدث في اليمن وليبيا وسوريا، فما الذي جعل مآل الأوضاع في تونس ومصر يتغير عما حدث في ليبيا واليمن وسوريا؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة، وذلك من خلال النقاط الآتية:

1 - قوة الدولة المركزية:

ظلت مصر تُحكم بحدودها المعروفة على الأقل من قبل نظام مركزي موحد في أغلب الفترات التأريخية منذ بضعة آلاف من السنين، وهذا الأمر لابد أنه قد أورث المصريين خبرات وحدوية وأكسبهم قدرا من الحسّ الجمعي، وجعلهم يفضلون السير وراء القوي الذي يحكم مهما كان ظلمه وجبروته، وتمتلئ الثقافة الشعبية بالأمثال التي تعزز هذا الحِسّ الجمعي والسلبية الشديدة، مثل: (من تزوّج أمّنا صار عمّنا) و(اليد اللي ما تقدر تكسرها بوسها)، و(إذا حاجتك عند الكلب قُل له يا سيدي) و(إبعد عن الشّر وغنِّ لوه) (مع اخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب)!

وتزداد خطورة هذه الطبيعة التي تصنع القابلية لثقافة القطيع في عصرنا أكثر مما سبق، وذلك عندما يمتلك القوي إعلاماً قويا يستطيع من خلاله سحرة الإعلام وخبراء النفس وصناع الرأي العام أن يعبؤوا الناس بثقافة القطيع، حتى أن كثيرا من الطيبين يقفون ضد الحرية ليس زهداً بها ولكن رغبةً في الوحدة !

وبالنسبة لتونس فإنها صغيرة المساحة وقليلة السكان، ومن ثم فإنها تتمتع بقدر كبير من التجانس بين أبنائها، مما يجعل إبقاء الدولة مصلحة كبيرة ثابت الثوابت ولو كان ذلك على حساب الحقوق والحريات، ولاسيما أن الثورة المضادة هناك لم ترفع راية العداء لثورة الياسمين بصورة مستفزة، وإنما للفصيل الذي لعب الدور الأساسي في إنجاحها وهو حركة النهضة، وحتى هذا العداء لم يكن حادا كما في الحالة المصرية فضلا عن البلدان التي دخلت دوامة الحرب والاقتتال الأهلي.

وهكذا فإن قوة الدولة المركزية حافظ على تماسك المجتمع وعدم انزلاقه إلى مستنقعات الاحتراب.

2 - استقلالية الجيش:

بسبب قوة النظامين المصري والتونسي انغرست في أوساط المجتمع أعراف عديدة، ومنها ما يتصل باستقلالية الجيشين عن الحكومة أو السلطة الحاكمة، مقارنةً بجيوش سوريا وليبيا واليمن التي كانت جيوشا عائلية في الأساس مع وجود جيوب غير راضية عن الوضع، وهذا أدى إلى انقسام الجيوش في تلك البلدان، فبينما وقفت الأجزاء الكبرى مع رؤسائه الذين كانوا أوفياء للأسر الحاكمة على حساب الأوطان، تخندقت ألوية وكتائب عديدة بجانب الشعوب الثائرة، كما حدث بالنسبة للفرقة الأولى في اليمن وعدد من الألوية والقادة العسكريين في سوريا وليبيا، وقد سهّل هذا الانقسام قرار الانخراط في الحرب، ومع حضور عوامل عديدة ومعقدة في هذذه الأثناء دخلت تلك البلدان دوامة الحرب التي حرصت أطراف عديدة أن تعطيها صورة الاقتتال الأهلي.

وهناك عامل مساعد لهذا العامل وهو توافر الأسلحة بأيدي المواطنين ولاسيما في اليمن وليبيا بكميات كبيرة، وعلى سبيل المثال كانت تقارير دولية قبثورة فبراير تقدر امتلاك المواطنين اليمنيين لستين مليون قطعة سلاح بمعدل ثلاث قطع لكل مواطن يمني. ولا شك أن امتلاك المواطنين للسلاح قد ساعد على اتخاذ قرار المواجهة، بعكس مصر وتونس حيث تحتكر الدولة السلاح وتحظر تداوله بين الناس وتجرم ذلك بقوانين صارمة، بل إن الثقافة الشعبية لا تميل إلى تقدير السلاح ولا تسمح بمظاهر التسلح كما في اليمن وليبيا، باستثناء بعض مناطق الصعيد وسيناء في مصر، وهو في هذه الحالة سلاح للزينة أو للثارات القبلية وتطهير ما تسمى بجرائم الشرف.

ومن المؤكد أن الاستقلالية النسبية للجيشين التونسي والمصري قد ساهمت بفاعلية في سرعة الحسم ونجاح الثورتين وبتضحيات قليلة؛ إذ أن الجيشين عندما رأيا الملايين تخرج إلى الشوارع من كل التيارات والأحزاب والفئات والطبقات والجهات، آثرت الانحياز إلى الناس كما في الحالة التونسية أو إحناء الرأس للعاصفة حتى تمر كما في الحالة المصرية، ومن ثم فإن الجيشين لم يستجيبا لأوامر القادة بخوض المواجهة الشاملة مع الشعب، غير أن نقطة القوة هذه سرعان ما تحولت إلى نقطة ضعف بعد استعادة النظام القديم لأنفاسه واستقباله لدعم خارجي كبير على كل الصعد وخاصة أن قادة الجيشين المصري والتونسي ينحدرون من خلفيات علمانية ولهم علاقات قوية مع الغر نتيجة تربيهم على أعين الغرب الذي خرج من هذه البلدان ولم يحمل عصاه ويرحل كما ظل يتردد بل سلم هذه العصا للجيوش التي كادت أن تصبح عصابات، مما جعل هؤلاء يقفون مع الدولة العميقة في كل بلد فيُرجِّحون كفتها ويُثقِّلون موازينها، سواء بصورة مباشرة كما في الحالة المصرية عندما انقلب الجيش تحت قيادة السيسي بصورة سافرة ضد الديمقراطية، أو بصورة غير مباشرة كما حدث في تونس، حيث وقف الجيش من وراء الكواليس مع السَّبْسي وهو مرشح الدولة العميقة ومرشح العديد من التيارات اليسارية والليبرالية التي هالها أن تكتسح حركة النهضة الانتخابات وآثرت الارتداد عن الديمقراطية عن أن ترى خصومها الاسلاميين يرتقون كراسي الحكم، ووقف خلف هؤلاء جميعاً أنظمة النفط والنفاق التي صبّت مليارات الدولارات لصالح فوز رموز الدولة العميقة، وقد حدث ذلك رغم أن حركة النهضة لم تأخذ حقها في المناصب حسب مقاعدها في البرلمان، لكن عدم صدق هذه التيارات في الانتماء للديمقراطية وعدم تجذر ثقافة الديمقراطية في أعماقها؛ دفعها للتخندق مع من يَحرم الإسلاميين من حقوقهم السياسية ويريد أن ينتزع منهم أبسط حقوق المواطنة!

3 - الوَعي النسبي:

يعد المجتمع التونسي من أكثر المجتمعات العربية تعليماً ووعيا، حتى أن الأمية الأبجدية تكاد أن تنعدم فيه، ولا شك أن هذا قد انعكس إيجابا على سائر النخب حيث جعلها أكثر ليونة في التعامل مبعضها وأمْيَل إلى الحوار في حل خلافاتها، وقلّل هذا الوعي من إمكانية تحولها إلى مطايا لتحقيق مطالب خارجية تدفع بالطرفين نحو الاصطدام، كجزء من إدخال المنطقة كلها في أتون فوضى عارمة وفي دوّامة حرب تستنزف طاقات الجميع وتفضي إلى إعادة رسم الخارطة السياسية في الداخل وإعادة تقسيم المنطقة بعد مرور قرن على تقسيم سايكس بيكو المشؤوم!

ورغم أن نسبة الأمية مرتفعة في المجتمع المصري إلا أن تجذر قيم الدولة والوحدة بجانب صرامة الحركة الإسلامية في التزام جانب السلمية قد أدى إلى عدم انزلاق البلد إلى المصير السوري أو الليبي المجاور لمصر.

4 - الدور الإيجابي للحركة الإسلامية:

في ليبيا وفي سوريا ونتيجة للحكم الديكتاتوري الذي استمر عقودا من الزمن، وبسبب اجتثاث الإسلاميين بقوة الحديد والنار، لم توجد حركة إسلامية منتشرة في أوساط المجتمع، حتى تصبح مصدر أمان للناس في الظروف الصعبة، مما سهّل انزلاقهما إلى أتون الحرب التي لم تُبق ولم تذر، وفي اليمن وُجدت حركة إسلامية قوية حافظت على تماسك المجتمع بجهاته ومذاهبه ومصالحه وتوازناته، فكانت بحق الوتد الذي استندت عليه خيمة الوطن، وحمت سلمية الثورة رغم إسالة السلطة للدم وامتلاك الشعب للسلاح، ومنعت البلد من الانزلاق نحو الهاوية طيلة أربع سنوات من الاستفزازات المتنوعة، لكن الانقلاب الحوثي على الشرعية بالتعاون مع الدولة العميقة التي قادها علي عبدالله صالح، والانقضاض على الدولة الاتحادية التي أجمع عليها اليمنيون في مؤتمر مشهور ومشهود للحوار الوطني، والذي ظلت فاعلياته تنعقد قرابة العام تحت إشراف دول الخليج والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وبرعاية الأمم المتحدة التي أرسلت مبعوثا لها طيلة فترة مؤتمر الحوار الوطني، هذا الانقلاب المصحوب بتفجير المساجد والمدارس والبيوت وانتهاك الأعراض والخصوصيات، والذهاب بالبلد نحو تغيير الهوي اليمنية والعمالة الواضحة لإيران منذ الوهلة الأولى، مع استنكار العالم كله لهذا الانقلاب المشؤوم وإعلان التحالف العربي عن التدخل العسكري، كل ذلك دفع أفراد التجمع اليمني للإصلاح للمشاركة في المقاومة المسلحة للانقلابيين بالتعاون مع كافة المكونات السياسية والاجتماعية التي انخرطت في هذا العمل الوطني.

وقبضت الحركة الإسلامية في مصر على الجَمْر وهي تتحمل كل الجرائم التي أنزلها الانقلابيون في حق أعضائها والذين لم تكن لهم من جريمة أو جريرة سوى أنهم لعبوا الدور الأكبر في إنجاح ثورة يناير وحالوا دون وقوعها في مربع العنف، ثم إنهم فازوا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت بعد الثورة وبعد فترة انتقالية، ولم تكن جريمة إحراق ساحة رابعة التي استشهد فيها أكثر من ثلاثة آلاف إلا تدشيناً لجرائم مروعة ما زالت تتواصل، ووصلت الاستفزازات إلى حد إعدام العشرات بعد محاكمات هزلية، ووُضعت الحركة في قائمة الإرهاب وقُذف ثلاثون ألفا من أعضائها في غياهب السجون، وفَرّ عشرات الآلاف بجلودهم خارج مصر يعانون آلام التغرب والبعد عن الأهل والوطن ويعانون من قهر أشباه الرجال.

لقد استفاد الإخوان المسلمون من تجاربهم السابقة في تحقيق كل هذا الصبر والانضباط، فعندما انجَرّ بعض أعضاء الجماعة أيام الحُكم الملكي لاستفزازات النقراشي باشا (رئيس الحكومة) الذي حلّ الجماعة واقتاد قادتها إلى السجون بأوامر بريطانية وعندما رَدّوا عليها باغتياله، تم اغتيال حسن البنا واقتيد الآلاف إلى السجون وعاد العمل إلى الخلف سنين عددا، ولذلك فقد صار الإخوان حسّاسين إزاء أي عمل يمكن أن تشوبه شائبة العنف!

وفي تونس تسلحت حركة النهضة بوعي أبنائها وحكمة قادتها، وقد ظهر ذلك جلياً منذ البداية عندما ارتفعت آمال الإسلاميين وصار الجميع يخطب وُدَّهم قبل أن تكتمل خيوط الثورة المضادة، حيث تخلّوا عن منصب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان واكتفوا بمنصب رئيس الحكومة وأشركوا معهم بعض الأحزاب في تكوين الحكومة، رغم أحقيتهم في مقاعد الحكومة كلها وقدرتهم على أخذ رئاستي البرلمان والجمهورية نتيجة الأصوات التي حصلوا عليها في أول انتخابات بعد ثورة الياسمين!

لقد آثر قادة النهضة منطق الحكمة على منطق الحق، لكن ذلك لم يشفع لهم عند اليساريين والليبراليين حيث ظلوا يُضيّقون عليهم السُّبل بعد نجاح الثورة المضادة في إسقاط حكومة مرسي في مصر، وبروز الالتفاف الداخلي والإقليمي على الحركة الإسلامية في اليمن وليبيا وتآمرهم على الإسلاميين في سوريا، واتضاح التوجيه الغربي لأنظمتهم ومنظماتهم بهذا الشأن، لكن ذلك لم يدفع نهضة تونس للتخلي عن منهجها السلمي والذي يعطي الأولوية لبقاء الدولة والسلم الأهلي، ويُقدم درءَ المفاسد على جلب المصالح، ونجحت حركة النهضة في اجتياز المحنة بثمن باهض لكنه ليس أسوأ مما حدث في بقية البلدان.

ولابد أن ارتفاع منسوب الوعي وسط المجتمع التونسي والذي انعكس على أداء النخب العلمانية وعلى الجيش والدولة العميقة، لابد أنه قد ساعد في تجنيب البلد ويلات ما حدث في مجتمعات أخرى، وهذا درس بالغ الأهمية للإسلاميين حيث ينبغي أن يكون توسيع مساحات الوعي هو الأولوية القصوى لهم في المرحلة القادمة، مع ما يتطلب ذلك من اعتلاء لنواصي الفكر وامتلاك لمؤسسات الثقافة ووسائل الإعلام وريادة في وسائل التواصل الاجتماعي.

وسوم: العدد 773