أهل المنطقة الرمادية !

في إطار الحملة العالمية ضد الإسلام، والتشكيك بكل ما هو مسلم أو إسلامي يدور هذه الأيام جدال عقيم حول بعض آيات القرآن الكريم التي توصف بالمتشابهات، منها على سبيل المثال لا الحصر قضية كروية الأرض التي يحتدم الجدل حولها ما بين مؤيدين يستندون في كرويتها إلى آيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ) سورة الزمر 5 ، ويعترض عليهم آخرون يزعمون مد الأرض وسطحيتها، مستندين إلى آيات من القرآن الكريم كذلك، منها قوله تعالى : ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ سورة الحجر 19 ، وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ) سورة طه 53 ،

فكان جوابي :

 السبب في هذا الجدل العقيم هو جهل هؤلاء وهؤلاء، أو تجاهلهم أن في القرآن الكريم "آيات مُحكمات" و "آيات مُتَشابهات" كما ورد في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) سورة آل عمران 7،

فـ المحكم هو النصُّ قطعيُّ الدَّلالة؛ أي ما وضح معناه، فلا يحتمل من التأويل إلا وجها واحداً، كقوله تعالى : ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ سورة الإسراء 23 . أما المتشابه فهو نقيض المحكم، أي ما كان ظَنِّيَّ الدلالة؛ يحتمل أكثر من معنى، كما في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ سورةالمائدة 6 ؛ ففي قوله تعالى : ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ فسره بعضهم باللمس العادي المعروف، وفسره آخرون بأنه كناية عن الجماع، فالنص القرآني هنا من المتشابه؛ لأنه ظنيُّ الدلالة، يحتمل أكثرَ من وجه، ما رتَّبَ عليه أكثرُ من حُكم .

 فإذا عدنا إلى الذين اختلفوا حول الأرض؛ كروية هي أم لا، نجد أنهم اعتمدوا آيات متشابهات تحتمل معاني غير التي اعتمدها كل منهم، ففي قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ) سورة الزمر 5 ، وهي الآية التي استند إليها القائلون بكروية الأرض، لا نجد في هذه الآية ذكراً للأرض أصلاً، وإنما هي تتحدث عن تعاقب اليل والنهار، وهذا التعاقب بين الليل والنهار حول الأرض قد يفهم من وصفهما بالتكوير أنه إشارة إلى كروية الأرض، فالآية إذن تحتمل أكثر من معنى فهي من المتشابه، وإذن فليس فيها دليل قطعي على كروية الأرض، وكذلك قوله تعالى : ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ سورة الحجر 19 ، التي استند إليها الرافضون لكروية الأرض، هي كذلك من المتشابه لأن مد الأرض يمكن أن يفهم منه تسطيح الأرض وعدم كرويتها، إلا أن مد الأرض، يعني كذلك أن كبرها واتساعها يوهم الماشي فوقها بتسطيحها وعدم كرويتها، فالآية إذن من المتشابه كالأولى .

فما هو التصرف في هذه الحال ؟ الجواب أن نرجع إلى قوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) سورة آل عمران 7 ، وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) سورة النساء 83 ، فالواجب أن نرد أمر المتشابه إلى الكتاب والسنة فنحاول فهم المتشابه في ضوء المحكم من الآيات أو الأحاديث التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد ضالتنا رجعنا إلى أولي الأمر من أهل العلم، وهم ليسوا علماء الشريعة وحدهم، وإنما كذلك علماء الكونيات إذا كانت القضية تتعلق بظاهرة كونية مثل كروية الأرض، فنعود فيها إلى علماء الفلك ورواد الفضاء الذين داروا حول الأرض مئات المرات ورأوا كرويتها بأم أعينهم، وهكذا هو الموقف في كل آية من المتشابه، نتعامل معها في ثلاث مراحل :

1-   نردها أولاً إلى الله ورسوله

2-   فإن لم يتبين لنا المعنى رجعنا إلى قول علماء الشريعة

3-   فإن لم نجد ضالتنا رجعنا إلى علماء الكونيات في الآيات المتعلقة بالظواهر الكونية .

 وبهذا نتجنب الجدل العقيم، وفي هذا أيضاً احترام للعقل والمنطق، وفيه حماية للدين من العبث والعابثين . وفيه قبل هذا وذاك الحماية من الوقوع تحت مغبة قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) سورة آل عمران 7 ، وما أحوجنا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ ديننا وأمتنا أن نتجنب مواطن الفتنة، والاحتراز من أدعياء العلم، المتكئين في المنطقة الرمادية، يصطادون في الماء العكر !؟

وسوم: العدد 784