داريا مأساة مدينة لا تنتهي

اشتهرت داريا قبل الثورة بوعي شبابها المتحمس للعمل المدني في تنظيم الاحتجاجات السلمية ضد الرشوة عام 2004 والقيام بأعمال مدنية راقية من مثل تنظيف المدينة وفتح مكتبات عامة وتشجيع المرأة على أخذ دورها في الحياة العامة، كل ذلك دفع نظام الأسد لاعتقال العشرات من أبنائها وزجهم بالسجون تحت حكم محكمة ميدانية قضت على مستقبل الكثير من أبنائها في تلك الفترة.

ومع بداية الثورة كانت داريا متأهبة ومؤهلة لقيادة العمل المدني بشكل مبكر بسبب هذا الوعي المتقدم، فنظمت مظاهرات سلمية خرجت بعشرات الألوف في المدينة ولعب أشخاص من مثل غياث مطر ويحيى الشربجي وإسلام الدباس ومجد خولاني ومحمد شحادة ومعتز مراد وغيرهم كثيرون لعبوا دوراً في تنظيم هذه المظاهرات وقيادتها بأسلوب حضاري يوازي ما عمله مارتن لوثر كينغ في زمن الحقوق المدنية في الستينات في الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة لا تشبه بحال من الأحوال نظام الأسد في وحشيته ودمويته، فقد كانت المظاهرات سلمية بالمطلق وتهدف إلى توزيع الورود على المتظاهرين السلميين وعلى جنود الأمن والجيش لإخبارهم أننا نريد بناء سورية جديدة خالية من العنف، بحيث يكون المستقبل للجميع وبدون استثناء.

بالطبع، لم يكن جواب نظام الأسد إلا بمزيد من إطلاق النار على المتظاهرين السلميين واعتقال العشرات منهم وتصفيتهم تحت التعذيب في سجونه، وعلى رأسهم غياث مطر، ثم فيما بعد علمنا بوفاة يحيى وأخيه معن وإسلام ومجد وغيرهم ممن كانوا رمزاً لسلمية الثورة وألقها.

فيما بعد ارتكب نظام الأسد في حينها مجزرة داريا في أغسطس 2012، حيث تم ذبح أكثر من 700 مدني، وهو ما أدى إلى زيادة التجنيد لصالح الجيش السوري الحر في المدينة.

فسيطر الجيش السوري الحر على المدينة بالكامل في عام 2014. وبسبب قربها من العاصمة دمشق، حاصرت ميليشيات الأسد داريا ووضعتها تحت حصار وحشي لسنوات دون إمكانية السماح بدخول الطعام أو الماء. أصبح المدنيون المتبقون في البلدة يعتمدون بالكامل على شبكة الأنفاق تحت الأرض لما يقرب من أربع سنوات؛ تعرضوا للقصف الكثيف، بما في ذلك البراميل المتفجرة كل يوم تقريبا. وقد وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، ستيفن أوبراين، داريا بأنها "عاصمة سوريا للبراميل المتفجرة". وفي النهاية قرر المدنيون والمسلحون الاستسلام بعد تهديدات من الحكومة في عام 2016. بحرق ما تبقى من المدينة فذهب المدنيون إلى إدلب في اتفاق يسمح لهم بالتواجد هناك.

داريا، كان عدد سكانها 250،000 قبل عام 2011، أصبحت فارغة تماما. ولمدة أربع سنوات تقريبا حرم سكانها من المساعدات الطبية والغذائية. وكانت قافلة الأمم المتحدة الوحيدة التي سمحت لها الحكومة بالدخول إلى المدينة منذ عام 2012 كانت في 10 يونيو / حزيران 2016، عندما قام وفد من مسؤولي الأمم المتحدة بتوزيع أقراص منع الحمل والخيام المقاومة للبعوض، والتي قالوا إنها ما سمحت الحكومة به دون السماح للأدوية أو أية مساعدات إغاثية بالدخول. ثم قصفت الحكومة المدينة بعشرات البراميل المتفجرة ولم تحاول الأمم المتحدة تقديم المساعدات إلى داريا مرة أخرى. بعد الانتهاء من التهجير القسري لسكان المدينة، قام الأسد بزيارة نادرة إلى المدينة الفارغة في سبتمبر 2016 وأداء صلاة عيد الأضحى في المسجد هناك. ثم أجاب الأسد عن سؤال الصحفي حول التغيرات الديموغرافية في سوريا بقوله إن الديموغرافيا في المدينة "تتغير عبر الأجيال"، مشيراً إلى أن ذلك يعتمد على مصالح المواطنين في تلك المناطق. وأضاف: "بالنسبة لسوريا، كما هو الحال في أي بلد، فإن الوضع الديموغرافي يتغير بسبب الفائدة الاقتصادية للناس، والوضع الاجتماعي والظروف السياسية تختلف. بالطبع، أنا لا أتحدث عن الريف. القرى مختلفة، لكن المدن دائمًا متنوعة، فالمدن القريبة من المدن الكبرى مثل دمشق وحلب هي مدن متنوعة لا يمكن أن تكون ذات لون واحد وشكل واحد".

عند النظر في هذه الكلمات، من الواضح أن الأسد رفض ذكر أحد العناصر الحاسمة في استراتيجيته: أن جميع المدنيين في داريا قد تم إجلاؤهم إلى إدلب ضد إرادتهم. ثم كان أولئك الذين قرروا عدم الرحيل تحت رحمة النظام وتم احتجازهم أو تعذيبهم؛ تم نقل الآخرين إلى مناطق المعارضة شمال سوريا. وهذا انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني ويمكن اعتباره علامة على التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي الذي نتج عن الصراع السوري.

تنص المادة 129 من القانون الدولي الإنساني العرفي بوضوح على أنه "لا يجوز للأطراف في نزاع مسلح غير دولي أن يأمروا بتهجير السكان المدنيين، كليًا أو جزئيًا، لأسباب تتعلق بالنزاع، ما لم يؤمن أمن المدنيين وعلاوة على ذلك، ينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه في النزاعات المسلحة غير الدولية، "يأمر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتعلق بالنزاع، يعتبر هذا الطلب جريمة حرب.

فمرت داريا تقريبا بكل ما شهدته الثورة من لحظات انتصار وفرح ومن مآسٍ لا تنتهي،

من الحصار والجوع والبراميل المتفجرة ومن ثم التشريد والتهجير القسري، ثم كان آخرها ما أخبرته السلطات للسجل المدني بوفاة أكثر من ألف معتقل تحت التعذيب كان أحبابهم يتوقعون خروجهم كل يوم، كيحيى شربجي وإسلام الدباس ومجد خولاني ومروان الحسين وغيرهم بالعشرات، نصحو يوميا على أسماء إخوة لنا وأصدقاء توفوا تحت التعذيب في أبشع ممارسة يمكن أن يشهدها العالم المعاصر اليوم، إنها مأساة مدينة لا تريد أن تنتهي لأنها اختارت الحرية والكرامة على الذل والخنوع.

وسوم: العدد 784