الاتحاد الأوربي والمواجهة مع واشنطن

الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الضامنة للاتفاق النووي تدخل مرحلة جديدة بعد مساعداتها الماليّة لإيران، حيث وصفت وزارة الخارجية الأمريكية المساعدة الماليّة التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لإيران والبالغ مقدارها واحدًا وعشرين مليون دولار على أنّها رسالة خاطئة في الزمان الخطأ، وفي الوقت ذاته أعلن بنكين أمريكيين عدم اتخاذ إجراءات من قبلهما من شأنهما عدم تمكن إيران من الوصول إلى السوق العالمي. هذه المساعدة كما قالت أحد الصحف الإيرانية لا تعادل قيمة هذه المساعدة التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لإيران قيمة شقة فاخرة في وسط لندن، إلا أنها تعبّر عن مدى الأهمية التي يوليها الغرب لإيران والتي دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى وصف هذه المساعدة بالخاطئة.

 السؤال المحوري هل يستطيع الأوروبيون نقل مبالغ النفط الإيرانية إلى أوروبا مباشرة من خلال البنك المركزي الألماني إلى البنك المركزي الإيراني؟ من الممكن بهذه الطريقة، لكن في الواقع هذه مخاطر هائلة على أوروبا؛ الخطر الأكبر هو أن حكومة الولايات المتحدة، أو البنك المركزي لألمانيا أو أي بنك مركزي آخر يريد ذلك، سيتم فرض عقوبات عليه، وهذا سيناريو غير مسبوق في تاريخ العالم الذي تتخذه أمريكا ضد بنوك دول أوروبا، وليس من الواضح هل يمكن لدول الاتحاد الأوروبي مواجهة أميركا، في تقديري أن الأوروبيين لن يفعلون ذلك لأنه يحتوي على مخاطر عالية للغاية.

 فهذا الأمر يفسر مغادرة العديد من الشركات الأوروبية الآن، وقد غادرت الخطوط الجوية الفرنسية، والخطوط الجوية البريطانية إيران الأسبوع الماضي والحبل على الجرار. ومن ناحية أخرى قَدمت أوروبا تبرعات لإيران. كيف نفسر هذا التناقض؟ الاجابة هي: فقط لإعطاء دفعة معنوية لإيران، إن الدول الأوروبية الضامنة للاتفاق النووي تفعل ما عليها، فمبلغ الدعم الأوروبي لإيران ليس كبيرًا، وبالرغم من قلته فإن ردة الفعل الأمريكية على هذا الدعم جاءت عنيفة وشديدة اللهجة. وإن موضوع إيران أكبر من هذا بكثير؛ ومساعدات مالية بحجم عشرين مليون دولار لن تحل مشكلة إيران الاقتصادية. والأمريكيون يعتبرون هذا الدعم بمثابة رسالة ضدّهم؛ ويعلمون حق العلم أن هكذا مبلغ لن يفيد إيران بشيء.

 إن الرسالة الأوروبية لأمريكا تفيد بأن الأوروبيين ليسوا مكلفين بالإذعان للسياسة الأمريكية كي يقطعوا علاقاتهم بإيران خوفا من الضغوطات الأمريكية عليها في مجال الدولار. ولهذا السبب انتقد "برايان هوك" المندوب الأمريكي الخاص لإيران الاتحاد الأوروبي بشده ما قام به الاتحاد الأوروبي على ما قام به مقابل سياسات الضغط المتزايد التي تمارسها الحكومة الأمريكية على إيران، وفي هذا الصدد يقول: إن هذه المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لإيران ستمكن النظام في إيران بغضّ الطرف عن المستلزمات التي يحتاجها الشعب الإيراني، كما أنها تحول دون قيام إيران بتغييرات سياسيّة جذريّة. وأضاف "برايان" أنّه كلما توفّرت النقود بيد الملالي في إيران كلمّا زادت الاغتيالات في المدن الأوروبيّة. إلّا أن وجهة النظر الأوروبية تختلف تمامًا عمّا يقوله "برايان"، فالاتحاد الأوروبي الذي يريد الإبقاء على الاتفاق النووي راغب في التعاون مع إيران، وفي هذا الصدد يقول وزير الخارجيّة الألماني: إن أوروبا بحاجة لنظام مالي مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذ الاتفاق النووي، وهو ما تسير إلى تفعيله ونقله إلى حيّز الوجود، ولكن هناك شكوك حول ذلك ، هذا وقد لوّح بنك "JP Morgan" وبنك "City Bank" على أنهما لن يعملا على قطع علاقات إيران بالسوق الدوليّة، وفي المقابل تتعرض شبكة "سويفت"، للضغط لتعمل على تعليق عضوية إيران فيها، يذكر أن إيران قد انضمت إيران لهذه الشبكة في عقد التسعينيات لكي تتمكن من الحصول على امتيازات من شأنها المساعدة على نمو اقتصادها، وكلمّا حدث نزاع بين أمريكا وإيران تعرضّت إيران لتهديد بسحب عضويتها من هذه الشبكة، وبينما تشرف إيران على الحزمة الثانية من العقوبات الاقتصادية التي ستبدأ في 13 من شهر نوفمبر، فقد طالب بعض الجمهورين المعارضين لإيران من الحكومات المختلفة أن تقطع العلاقات المصرفية مع البنوك الإيرانية كي تثمر العقوبات الاقتصادية على إيران. وبهذا الخصوص فقد كتب السيناتور الجمهوري "تيد كروس"، والمرشح الرئاسي هو وخمسة عشر عضوا جمهوريا، رسالة إلى حكومة "ترامب"، مطالبين فيها اتخاذ كافّة الإجراءات السريعة التي من شأنها إنجاح إستراتيجية الضغوط الأمريكية على إيران كي، وتجفيف جميع المصادر الحيويّة للنظام الإيراني بسبب سلوكه العدواني، وأنه يجب التحرك بسرعة وفاعلية، لممارسة أشد الضغوطات على إيران، لتجفيف منابع الداخل الإيرانية، ولكبح جماحها وردعها عن ممارساتها العدائية. علما بأن بقاءها عضوا في مؤسسة سويفت؛ سيقلّل من تأثيرات العقوبات عليها. إن أمريكا تتمتع بنفوذ واسع في مؤسسة سويفت، فإن تحركت باتجاه إنهاء عضوية إيران، فمن المؤكد أن تحركها سيكون مؤثرًا. ومع أن أوروبا لم تنسحب من الاتفاق النووي، وما زالت تقيم علاقات مالية مع إيران.

 من غير الممكن تجاهل التأثير الأمريكي في هذا الإطار وبالرغم من أن أمريكا انسحبت من معاهدة الملف النووي؛ إلا أنها أبقت الباب مفتوحا للتفاوض مع إيران، وهو ما بات الخيار الوحيد أمام طهران، وهو ما تفرضه الظروف والمتغيرات الحالية، لا سيما أن الدولة الإيرانية واقتصادها بات في مهبّ الريح، وهي مشغولة الآن باستجواب المتنفذين وإقالتهم وكان أخرها عزل مجلس الشورى لوزير الاقتصاد الإيراني، ومن قبله عزل نائب رئيس البنك المركزي الإيراني واعتقاله، وتهديد السلطة القضائية باعتقال المزيد بما فيهم وزراء روحاني.

 إيران الداخل تعيش مرحلة عاصفة لمكاسرة الإرادات السياسية بين الجناحين المحافظ والإصلاحي، ما جعل أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني يدخل على الخط ويوجه اتهامات خطيرة لرموز النظام الايراني بالتورط مع مافيات تجارة المخدرات، هذا عدا عن بدء محاكمة اسفند يار رحيم مشايي، مساعد الرئيس السابق نجاد وصهره بتهمة تهديد الأمن القومي الإيراني، والحبل على الجرار، لكن الشعب يدرك تماماً أن المرشد وجوقته هم المسؤولون عن تدمير إيران، والحالة التي وصلت إليها البلاد والعباد.

 بموازاة ذلك تبحث أوروبا عن وسيلة تؤمّن لها استقلالية عن الدولار، وتُمكنها من حل مشكلاتها المالية بعيدا عنه وعن تأثيراته. ربما هذا الإجراء يأتي متأخرا بالنسبة لإيران. إن الأوروبيين عادة، عندما يواجهون أزمة اقتصادية، يبدؤوا في البحث عن وسيلة للتخلص من كابوس الدولار. وهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال نظام مالي مستقل عن الدولار بالكامل، ويجب عليهم القيام بهذا العمل. وما زلنا نشاهد إشكالية في العلاقة بين أمريكا واوروبا، فالأوروبيون يبحثون عن وسيلة للإبقاء على علاقاتهم المالية مع إيران، في ظلّ الظروف الحالية لا يوجد إلا وسيلة واحدة فقط بيد أوروبا وهي الاستفادة من البنوك المركزية الأوروبية، وبالتحديد من البنك المركزي الألماني، ولكن هل بإمكانه ومن خلفه أوروبا الصمود؟ وإلى متى؟.

وسوم: العدد 787