القضية السورية و حالتا التضاد و التوافق في السياسة الدولية

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

أكثر ما كان يثير انتباهنا و الربيع العربي خبط عشواء بين المتصارعين من "داخليين و خارجيين" في الأقطار التي طالها (التغيير) أو (أنشب فيها العدوان مخالبه) رؤية البعض و هم يتعاركون على (مالهم) و (ليس لهم) تعاركا (غريزيا) ليس (شرعيا) ولا (قانونيا) فضلا عن كونه غير عقلي و لا إنساني. و على مثل ذلك قس –إن شئت- تصرفات بعض البشر تجاه بعضهم، وقد أوغلوا في الجريمة، بشكل غريزي و لم يفكروا ولو بواحدة من المئة من المعقول الذي قد يجرهم إلى جادة من الصواب!!! و القضية السورية اليوم، و هي بعض من المتعارك عليه بين الإقليمين و الدوليين نسخة طبق الأصل من ذلك. وقد جعلوا المعنى العام للحق مرادفا لمصالحهم و عملوا على تحريك الأساطيل، وسوق الجيوش من أجل الحفاظ عليها، فكانت المعارك التي توصف بالمدمرة!! وذلك هو حال القضية السورية، التي بعد سبع سنوات من العدوان، عادت إلى مربعها الأول، و كأن شيئا لم يحدث بعد.

 -وحتى نكون أكثر وضوحا- الآن على الساحة السورية (تضاد في المصالح) و توافق في (التصرفات) أكثر من لافت للنظر!! فعلى سبيل المثال:

1- المصالح (الأمريكية) و (الإيرانية) تتضاد على الساحة السورية؛ و تضادها أدى إلى الاقتتال. وضرب القوات الإيرانية العاملة في سورية من قبل التحالف الدولي، فضلا عن ضربها المتكرر من قبل إسرائيل. و التصريح الرسمي من قبل إسرائيل و أمريكا بضرورة مغادرة الأرض السورية من منطق عدواني صرف، أكبر شاهد على ذلك.

2- المصالح (الروسية) و (الأمريكية) تتضاد على الساحة السورية؛ و تضادها أدى إلى الاقتتال فيما بينها. و القصف الأمريكي للقوات الروسية في منطقة الجزيرة و البادية السورية، شاهد على ذلك.

3- مصالح (النظام) و مصالح (فسد) أو مايسمى بـ(قوات سورية الديمقراطية) تتضاد على الساحة السورية؛ و تضادها أيضا أدى إلى الاقتتال. و المعارك التي دارت بينهما شرقي و غربي الفرات في منطقة دير الزور و في الحسكة شاهد على ذلك.

 ويقابل هذا التضاد توافق في المواقف تجاه القضية السورية يغطي على التضاد و يزيد عليه. فعلى سبيل المثال:

1-  المصالح (الأمريكية و الإيرانية) تتوافق على الساحة السورية توافقا عجيبا فتطلق يد الحرس الثوري الإيراني في سورية و كذلك يد الميلشيات الشيعية المستقدمة من خارج سورية من أفغانستان و باكستان و الأوزبك و الطاجيك و العراق و إيران و يد ميلشيات حزب الله من لبنان، دون أن تجد اعتراضا من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. بل: و نكاد نزعم أن هناك غرفة عمليات مشتركة تدير أمر الجميع. و هو أمر تؤكده الملاحظات العملياتية على الساحة السورية. و هو ليس – بخاف على أحد.

2-  المصالح (الروسية و الامريكية) تتوافق فيما بينها توافقا يوحي بالضلوع في مؤامرة تصفية الثورة السورية و القضاء عليها، و القضاء على البنية الديمغرافية السورية، و على وحدة الشعب السوري التي حافظ عليها عبر مئات السنين. و الدور الروسي في سورية، و تدمير المدن السورية مدينة بعد الأخرى، و كذلك التجمعات البشرية و استعمال الأسلحة المحرمة دوليا، كل ذلك يؤكد التوافق في سياساتهم. و اجتياح الجنوب السوري، و تصفية المقاومة فيه من قبل قوات النظام و القوات الروسية و القوات الإيرانية المتجحفلة معها يثبت حقيقة مانذهب إليه من توافقات كانت و لاتزال في سياساتهم و هي تغطي على تضادهم بل و تثبت أنهم قد يضحون بمصالحهم لقاء تمرير مخططاتهم إذ أنه من المعروف تاريخيا و سياسيا أن حلم القياصرة بالوصول إلى المياه الدافئة قد تحطم قديما على صخرة التحالف الغربي الذي كان يرى في ذلك خطأ إستراتيجيا لا يمكن أن يمرّ. فسياسة التصدي للروس قصد إبعادهم عن المنطقة الشرق أوسطية هي التي كانت نافذة المفعول في ذلك الوقت؛ إلا أن تفاهماتهم الجديدة هي التي أدت بهم إلى السماح للروس بالوصول إلى المياه الدافئة و إلى محط قدم لهم على السواحل المتوسطية وهذا هو الذي حصل، و القاعدة البحرية في طرطوس و القاعدة الجوية في حميم أكبر دليل على ذلك.

3-  مصالح (النظام) و (مصالح فسد) أو مايسمى بقوات سورية الديمقراطية: الملاحظ أن الطرفين يتوافقان فيما بينهما. فالكرد بعد أن كان النظام قد أدخلهم في خانة (البدون) وبعد أن عمل على قتل بعض ناشطيهم، وبعد أن كان يسومهم سوء العذاب بسياساته العدائية وقد أصبحوا لديه مواطنين من الدرجة الثانية، مع اندلاع الثورة السورية سنة 2011م أصبحوا يدورون في فلك النظام، و لا يتجاوزون سياساته قيد أنملة بل و مثّلوا حليفا مشتركا ضد الفصائل المقاتلة. و تحالفهم في أحياء حلب الشرقية، الشيخ مقصود. و الأشرفية و بستان الباشا و في عفرين ، و الحسكة و القامشلي غيرها يشير إلى متانة العلاقة بينهما، و مع ذلك فإن تضادهم قد يكون عارضا، و انسحاب (فسد لمصلحة النظام) من بعض المناطق السورية في الشمال و في الجزيرة. يدل على سعة أفق ذلك التوافق، و على إدامته. بل و يجعلنا نقرر أن فسد تتبع عمليا للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بصرف النظر عن مصلحة الكرد – على المدى البعيد أو القريب - وهذه التبعية وللأسف الشديد؛ جعلتهم أقرب إلى خانة الأعداء منهم إلى خانة الأصدقاء، و هي مسألة سوف تثبت خطورتها عليهم أولا. و هو ما كان عليهم أن يعوه جيدا، و أن يتجنبوه قدر المستطاع.

 و الحديث عن تضادهم و توافقهم، و هو حديث ماس بالسوريين يحتم بنا العودة إلى (القضية السورية) التي دخلت في خانة (ماليء الدنيا و شاغل الناس) بعد أن اتسعت آفاق الجريمة في سورية إلى درجة غير محدودة، وبعد أن كشّر التحالف الدولي عن نابه. وقد آذن السوريين جهارا نهارا بالقتل و التهجير و بتغيير البنية الديمغرافية لسورية و بجعلها المنطقة الأكثر خطورة. وتوترا في العالم، و الأكثر مساسا بالسلم و الأمن العالميين.

 و الحقيقة أننا من واقع معرفة القضية السورية يمكن أن ننطلق إلى آفاق أكثر سعة، لنتعرف على حقيقة مايجري في سورية، و ما ينطوي عليه من مخاطر. و عبر هذه الانطلاقة يمكن أن نقرر الحقائق التالية:

 الحقيقة الأولى – أن سورية وقعت في دائرة مخطط عدواني ذي أبعاد أربعة.

 البعد الأول. ديني: وقطبا الرحى فيه إيران و السياسة الأمريكية. فكلتا الدولتين تعملان من منطلق ديني صرف؛ صليبي و صفوي؛ يضطلع به المسيحيون الجدد في الولايات المتحدة و في أوربا. و هم جميعا يتبنون مخططا مشتركا عدوانيا يستهدف العالم الإسلامي بعامة و منه سورية المبتلاة بجرائمهم، كما يضطلع به في الشرق الصفويون الجدد.حيث بتفكير شيعي رافض يلتقون بطروحاتهم ضد المسلمين السنة في سورية و في غيرها، و هو لقاء يهش له الطرف الآخر الذي يجد فيه مدخلا لحرب المسلمين بعامة.

 البعد الثاني – قومي: و بطله النظام الإيراني الذي لأغراض توسعية؛ عنصرية و شوفينية، تشمل بلاد العرب من الشام إلى اليمن و هو يستحضر في ذاته تاريخه القديم المليء بالصراعات من عهد قمبيز و كورش إلى عهد و هرز و يزدجرد. و من أجل تحقيق ذلك يصب أذاه على جيرانه و لايستثني. وقد قبل و هو يمثل دولة الولي الفقيه أن يشارك في حرب عدوانية يشنها غير المسلمين على المسلمين و أن يكون الداعم و المنفذ لذلك العدوان و شريكا لهم في قتل الشعب السوري و إبادته.

 البعد الثالث – مصلحي: وقد حتم عليهم تقاسم (الكعكة) أن يلتقوا لقاء مصالح، و أن يعملوا مشتركين من أجل مافيه مصالحهم، وذلك على حساب الشعوب الأخرى بصرف النظر عن (الحق) و (اللاحق) و بسياسة مكيافيلية تبرر فيها الوسيلة. ودليل ذلك استعمال الأسلحة المحرمة دوليا و البراميل في قصف التجمعات البشرية السورية، و كذلك استخدام الأسلحة الكيميائية، وهذا يدل على تفاهم مع بعضهم تجاه القضية السورية، و على تنسيقهم الرفيع المستوى فيما بينهم قصد إدامة الدمار الذي تعرضت له سورية و تقطيع أوصالها، و العودة بها إلى القرون الوسطى و إشاعة الفوضى فيها، و عدم السماح لها ببناء دولتها الحديثة.

 البعد الرابع – صهيوني: و مع أن هذا البعد قد يظن بعضهم أن فيه شيء من المبالغة؛ إلا أنه بمثابة الحقيقة الواقعة فمنذ أن طرح هرتزل ورقته التي تقول بـ (ضرورة أن تخضع البلاد الشرق أوسطية لتقسيم على أساس عرقي و مذهبي، وبلاد الشام بخاصة تقع في هذه الدائرة و من أجل ذلك وضعت الخطط التي يتبناها اللوبي الصهيوني، و التي تعمل من أجل تدمير شعوب هذه المنطقة. و ماحصل في سورية على وجه خاص، و ما كان من أمرهم و هم يشرقون و يغربون في أجواء سورية و على أرضها و منذ قيام الثورة السورية في 2011م بشكل عام. و موقفهم (الداعم و الرافض) معا للثورة السورية يؤكد حقيقة هذه المسألة. و السياسة ذات الوجهين أو الكيل بمكيالين وقد توليا كبر المسألة في سورية، يقيمان الدليل على السياسة الدولية – التي من منطلق عدواني بحت تريد تدمير البنى التحتية و الفوقية ليس في سورية وحدها، و إنما في الدول الشرق أوسطية بعامة.

 الحقيقة الثانية – أن سورية وقعت في أسر الطائفيين، منذ أن استولوا على الحكم سنة 1963م: وقد استطاعوا حرفها عن مسارها الوطني و القومي، و إبعادها عن دائرتها الإسلامية، و التصرف بها و كأنها مزدرعا لمخططاتهم و أهدافهم اللاوطنية و اللاقومية و اللاإسلامية. فتضاءل أمرها و ضعف إلى درجة كبيرة، وفضلا عن ذلك فقد أغرقها حلف الطائفيين و جبروتهم و غرورهم في فساد و فوضى يتساوى عندها الأبيض و الأسود، و لاتعرف سوى شخص (القائد) الذي هو فوق القيم و الاعتبارات. فكانت المجزرة الكبرى التي تطال سورية و شعبها منذ 1963م و إلى اليوم.

 الحقيقة الثالثة – أن المستوى الحضاري الذي كانت عليه سورية منذ انفصالها عن الدولة العثمانية كان شائها و مشكلا؛ وقد سادتها الامية و التخلف، و تفشى بين ظهراني أبنائها الفساد و الفوضى، وشاع بينهم ضعف الانتماء و قلة الالتزام، فضلا عن الاختلاف الشخصي و عن السفسطة و الجدل يضاف إلى ذلك ضعف الآلة، وسوء الحالة، و التخلف. و هي أمور جعلت شعبها غير قادر على حمل تبعاتها سيما تبعات الثورة السورية التي كانت و لاتزال تتطلب الرجال الأفذاذ من أجل حمل رايتها و مقارعة أعدائها بشرف و أمانة، وببعد عن الشرذمة و الفوضى، و عن الادعاء المخل الذي غرقت به.

 وفي تقديرنا أن هذه الحقائق و هي جلية وواضحة هي التي هيأت المناخ لأعداء سورية التاريخيين، أن يفعلوا مافعلوه معها – مجتمعين و منفردين – ودون أن يحسبوا حسابا لأحد. و تجاه ذلك لابد من كلمات ثلاث نتوجه بها المعنيين بالأمر:

 الأولى- تحذيرية: و هي كلمة توجه إلى الأعداء و الأصدقاء معا. فحقوق الشعوب عهدة في أعناق الرجال و سوف يأتي اليوم الذي تطلب فيه الشعوب حقوقها من غاصبيها و ظالميها و قاتلي شعبها.

 الثانية – تشجيعية. فالحرب سجال. و أن نخسر جولة أو أكثر لايعني أننا هزمنا، أو أننا تخلينا عن واجباتنا. بل كل الذي علينا أن نديم صراعنا مع عدونا و ان نتبع الربيع العربي بربيع آخر أكثر قدرة على مواجهة النظام و على استلاله من جذوره، مهما بلغت التضحيات، وقد وضعنا نصب أعيننا إحدى الحسنيين لا نحول عنها و لا نزول.

 الثالثة – تبشيرية: و الذي نريد أن نقوله: إنه إذا كانت حياة الباطل ساعة، فحياة الحق إلى أن تقوم الساعة و هو الموعود المنتظر لنا و لكل مستضعف و معتدى عليه على ظهر الأرض و فضلا عن ذلك. فإن عزاءنا اليوم أننا على حق، و أننا إليه ندعو، و أنا عقباه النصر و التمكين، أو الجنة و الرضوان هذا مانبشر به، و إن غدا لناظره قريب.أمريكيةأ

وسوم: العدد 788