إسلامٌ ملهم وأسلمةٌ مرهقة

مع ما يقال عن مؤامرات وسحق وفظائع أجهزة المخابرات في الدول القمعية وتنكيلها بالتيارات الإسلامية ولاشك أن ذلك حقيقة غالبة وشائعة ، ولكنها  ليست هي الأسباب الوحيدة لانتكاسات التيار الإسلامي، لأن كل هزيمةٍ يلامسها أسباب موضوعية وأسباب ذاتية، أما الأسباب الموضوعية فهي منظومات القمع التي ذكرنا  بل وإن ثورات الربيع العربي هبت من أجل الإطاحة بهذه المنظومات الاستبدادية الضاغطة،وأما الأسباب الذاتية فهي التي سنعرج على بعضها ، ومن أهمها ضآلة الاقتداء بالمبادئ الهادية للسلوك الحركي وعلى رأسها الحمكة والتبصر والاعتبار ، وحمل الكتاب بطريقةٍ اندفاعية هوياتية أكثر منها برهانية إقناعية وهذا يعني المواجهة ولاريب وفي كل الصعد الداخلية منها والخارجية ،  والإسلاميون بالعموم ورغم أنهم يصدرون عن مرجعية الوحي المبارك، لا يلحظ عليهم التروي عند هذه القيم الهادية وإنما تتعرض لاختزال من معانيها أو تحييد لآثارها، والاكتفاء بمنظومة مقتبسة ومجتزأة من سياقها وتحويلها لمشروع حزبي يسمى مشروع تطبيق الشريعة، وهذا ما أسميه الأسلمة المرهقة، فهو محاولة للزج بالتصور الإسلامي بصيغة موحدة وغير قابلة للتدرج أو التجزئة وبدون النظر للظروف المحيطة والشروط المناسبة، 

فما من حركة مهما قل عدد شبابها ولو كانوا عصبةً صغيرة وبمجرد حصولهم على حزمة بنادق وبعض صناديق الذخائر، إلا وطرحوا مشروع القتال من أجل تحكيم الشريعة، والتجارب المرة البارزة تغني عن تكرار ذكرها،

وما من حزب ينطلق للنضال السياسي ومهما قل مناصروه أو ضعفت إمكانياته إلا وأول مشروع يطرحه هو تطبيق الشريعة ، وتأتي هذه الهدية الثمينة جاهزة وعلى طبق من ذهب  للدولة العميقة ، فتطوف بها على المرأة وتقول لها أنت نصف المجتمع وسيحرمك الإسلاميون من حقك بالولاية ، وتطوف على الأقليات وتقول لهم إن الإسلاميين سيطبقون عليكم عقد الذمة ، وتطوف على أصحاب المصالح المالية وتقول لهم إن الإسلاميين سيطبقون عليكم عقوبة مانع الزكاة ، وتطوف على العلمانيين وتقول لهم إن الإسلاميين سيطبقون عليكم حد الردة ، وهكذا وبشيطنة إعلامية بسيطة تستطيع الدولة العميقة الالتفاف على مشاعر الجماهير وجذب الكتل الانتخابية لصالحهم هذا عدا عن قيام أجهزة المخابرات التابعة لهم بعمليات تزوير الإرادة الشعبية ، هذا اذا كانت المعركة انتخابية فمابلك إن كانت عسكرية ، 

والسؤال المطروح: من الذي يلزم الإسلاميين بهذا العناء الدائم ومن هو الذي كلفهم بتطبيق الشريعة وهم مستضعفون في الأرض وبالكاد يستطيعون التحصل على حق الحياة أو الكلام، هذا عدا عن الغموض والتردد في طرح المشروع الإسلامي كمشروع برامجي قابل للتداول، وإنما فقط حزمة من الشعارات الدينية التي لا تنعكس في كثيرٍ من الأحيان حتى على سلوك حامليها حامليها المؤسسين فضلاً عن المدعوين لحملها 

إن إصرار الإسلاميين على تقديم التصور الإسلامي ككتلة واحدة غير قابلٍ للتجزئة وإما ان يقبل المجتمع بها كلها أو يرفضها كلها، أرهق هذا الدمج عضد الجماعات الإسلامية بل وسرى ذلك للحاضنة الشعبية التي طالما دفعت الضريبة من حسابها، 

يقول الدكتور بشير نافع: (إن أس المشكلة في الحركية الإسلامية هي إصرار الحركات الإسلامية على اقتباس صورة نمطية تتصورها في مخيلتها مرت بمرحلة تاريخية سابقة، وتريد أن تعيدها مستبعدة ما مر من تغيير هائل على الحياة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي منذ ظهور التنظيمات القومية في القرن التاسع عشر)، ا.ه 

وهذا ما نراه عندما تبني الحركة الإسلامية مشروعها منطلقةً من أنها ستحصد التأييد الاجتماعي باعتبار أن الشعوب مسلمة، ولكنها لا تقيس مدى هذا التأييد وجودته وصلابته، فلقد رأينا أن الكثير من التأييد الإعلامي والجماهيري محكوم بالوقتية والمحدودية سرعان ما يرجع الناس لبيوتهم، تحت الاغترار بالوعود المزيفة أو وطأة آلات القمع والتنكيل، وعليه فلأجبني مستدام على مؤقت، 

ومن هنا يقتضي الانتباه لضرورة عدم تحميل الحاضنة مالاتتصور تبعاته،  وما لاتطيق تحمله ، وخرط الناس المتدينين بدلاً من ذلك مثل غيرهم في البرامج الانتخابية والهموم السياسية ومحاولة تنمية وعيهم بعالم المشاريع وليس الاقتصار فقط على عالم الأفكار والدعوة ،

إن الاسلام من آدم لرسول الله عليهم الصلاة والسلام دين موحد العمق الاعتقادي والقيمي ولكنه متنوع  الشرائع والشعائروالأدوات وخاصة في مجال التعاطي السياسي 

والذي يميل قلبي إليه في الأمر السياسي أن الإسلام لايؤسس لنظرة مسبقة وجاهزة عن نظام الحكم وإدارة السلطة وإنما يدفع بقيمه وأخلاقه لفعل الأصلح للبشرية 

وأن الاسلام دين هداية وتوجيه وليس دين مباشرة وتنفيذ ، وأن الاسلام إصلاحي إجتماعي يراكم التجارب ويعطي وزناً لأبعادها ومستوى نضجها وليس سياسي إنقلابي يفرض رؤيته الجاهزة  

إن مقاصد الاسلام ليس معنية أساساً بمزاحمة النظم البشرية ، ولكن الإسلام عندما يمتزج مع الواقع فإنما يفعل ذلك ضمن قواعد التعاقد أو الاشتباك الممكنة دون نظرة كاملة مسبقة ، فعندما يقول المسيح :( فردوا مال قيصر لقيصر) هي تعاطي ضمن الممكن  وعندما يقول يوسف عليه السلام : (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) في حكومة وثنية هو تعاطي ضمن الممكن ، وعندما يقول سليمان عليه السلام : (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) هو تعاطي ضمن الممكن وكل هذا إسلام ولاشك وبتوقيع أنبياء الله ، 

فالإسلام بمفهوم الممكن السياسي  يشارك ويواجه وينازل ويصبر ويؤسس ويقبل ويرفض مثله مثل غيره من الكتل البشرية دون أن يكون له مشروعا مستقلاً ، وهذا دليل كمال،  ويعني أنه دين منفتح لا يكره الناس على أسبقيات أوقبليات وإنما يسير معهم وفق قواعد التغيير الاجتماعي الطبيعية.

وسوم: العدد 808