استدراك (حول مقالة المواطنة)

كالعادة، وقعت مقالتي عن المواطنة في الحكم الإسلامي بين مطرقة العلمانيين وسندان المتشددين، فالمتشددون فزعوا لمقولتي أن الدولة في الإسلام ليست دولة دينية وكأنني لم أضع قيد (بمرجعية إسلامية)، حيث أصابتهم تلك الهستيريا التي تداهمهم كلما طالعوا شيئًا يخرج عن ما ألفوه.

وأما العلمانيون فقالوا: بل الدولة في الإسلام دولة دينية كهنوتية ليس فيها للمواطنة مكان، وبناء على ذلك يرون أن كلامي يحمل مغالطات كبيرة، وبالتالي فالحل أن تكون الدولة علمانية تفصل الدين عن الدولة وشؤون الحياة.

ابتداءً هناك فرق واضح جلي بين الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، وبين أن تكون الدولة دينية على غرار الحكم الثيوقراطي الكنسي في أوروبا.

الدولة في الإسلام مدنية مثل جميع النظم المدنية، إلا أن مرجعيتها إسلامية، فهي مدنية باعتبار أن الأمة تختار حاكمها عن طريق الصفوة المسماة بأهل الحل والعقد الذين يمثلون شرائح المجتمع من العلماء والأعيان والتجار وغيرهم، وتكون هناك بيعة من الأمة، كما تقوم الدولة على مبدأ الشورى وحق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته وفق القنوات الشرعية، وفي الدولة ليست هناك قداسة وعصمة للحاكم، والأمر بطاعته فيما هو طاعة لله بل تجب مخالفته فيما هو معصية لله.

لقد كان الحكام والمحكومون مدركين لهذه الحقائق، وها هو الخليفة الأول أبو بكر، يقول في خطبته الأولى "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، ومن بعده الخليفة عمر يقول: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني"، وهكذا جرى العمل.

غير أن مدنية الدولة لا يعني بها حرية التشريع المطلق للأمة، بل هناك مرجعية عليا، وهو أمر منطقي، فإن التشريعات البشرية تشرع لصالح فئات معينة لا ريب، لا يمكنها استيعاب مصالح الجميع، والمرجعية العليا لدولة في الإسلام هي الشريعة باعتبارها تمثل هوية الأغلبية، ولو أن دولة من دول الغرب صاغت دستورها وفق دين الأغلبية لما وجدت من علمانيي العرب من يصرخ معترضًا، بل عندما هوجم الحجاب رسميا في فرنسا وجدتهم يقولون هي قوانين للدول يجب احترامها، ولم يتكلم ساعتها عن المواطنة المهدورة في فرنسا.

وأما الدولة الدينية الكهنوتية على غرار ما كان في ظل الحكم الكنسي في أوروبا، فهي دولة يحكمها السدنة، يشرعون للناس ويتحكمون في مصائرهم باسم الرب باعتبارهم مخولين من قبله، فما من أحد يراقبهم أو يحاسبهم، فطاعتهم مطلقة، والخروج عن آرائهم حتى في المسائل العلمية التجريبية هرطقة، بينما الدولة في الإسلام ليست خاضعة لما يعرف برجال الدين، وإنما يحكمها من يتمتع بمؤهلات القوة والأمانة ولها تفصيلات ليس هذا مجال ذكرها، وليس بالضرورة أن أكثر المسلمين علمًا بالشريعة تتوفر فيه هذه الصفات.

ويأتي العلمانيون وأذنابهم لينفوا حق المواطنة في الدولة، ويقولون: لو كان هناك حق المواطنة في الدولة لسمحتم بأن يتولى الحكم رجل من غير المسلمين.

وأقول لهؤلاء: هل رأيتم في النظم المدنية الغربية التي تمجدونها رجلا مسلما حكم تلك البلاد، هل رأيتم شيوعيا حكم أمريكا؟ هل تسمح حتى دولة الاحتلال بأن يكون رجل من عرب 48 رئيسا للدولة؟

المواطنة لابد من لها من إطار عام يحكمها وإلا كانت الفوضى، والإطار العام لكل دولة مستمد من الهوية الثقافية للغالبية العظمى، على أن هذا الإطار في الدولة الإسلامية يحمي ويرعى كل الأقليات.

يقول العلماني: تتكلمون عن حق المواطنة وأنتم ترون أن الذمي في النظام الإسلامي يدفع الجزية؟

وأقول: ضربتم الطبول حول ضريبة يدفعها أهل الكتاب، وتجاهلتم أن المسلمين وحدهم مطالبون بدفع الزكاة في المال والزروع والماشية والتجارة، وفي الوقت نفسه يتوجب على المسلمين حماية أهل الكتاب ضد أي اعتداء بينما الكتابيون ليسوا ملزمين بالدفاع عن الدولة وحمايتها، إضافة إلى أن هذه الجزية تسقط عن المسنين من أهل الكتاب الذين لا يجدون مصدرا للتكسب.

وتجاهل العلمانيون أن الإسلام ترك لغير المسلمين التحاكم وفق شرائعهم فيما يتعلق بأمور الخاصة كعبادتهم وتعاملاتهم وأنكحتهم وما يستحلونه من طعم وشراب ولباس ونحوه، بينما جعل التحاكم إلى الإسلام في الأمور المتعلقة بنظام الدولة العام.

وعلى كل حال، أنا لا أكتب لأرضي الأذواق، بل أطرح ما أتيقن أنه الحق، ولا يحجبني عن طرق هذه القضايا كونها أمورًا نظرية في الوقت الحالي، فالوعي يتشكل أيضًا بحسم القضايا العالقة ومحلات النزاع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 808