الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات

30 سنة مرت على تجربة "الحوار" في واشنطن (منذ ربيع العام 1989)، بداية من خلال مجلة شهرية باللغتين العربية والانجليزية، ثمّ بتأسيس "مركز الحوار العربي" في منطقة العاصمة الأميركية (خريف العام 1994)، حيث أقام المركز في هذه السنوات ال 25 الماضية 1050 ندوة، إضافة إلى العشرات من الأمسيات الأسبوعية المهمة على شبكة الأنترنت ومن النشرات والمقالات الألكترونية شبه اليومية. وقد نجحت هذه التجربة العربية الثقافية الفريدة في خدمة القضايا العربية على الساحة الأميركية، وفي تعزيز الدور الإيجابي للعرب داخل المجتمع الأميركي.

ويواصل "مركز الحوار العربي" أنشطته الدورية، محافظاً على منطلقه كملتقى فكري ثقافي عربي مستقل لا يميز على أساس خصوصيات وطنية أو دينية أو إثنية، وعلى أسلوبه كمنتدى حواري عربي تتفاعل فيه الآراء وتختلف دون خلاف بين الأشخاص، وعلى هدفه المتجسد في تعزيز الثقافة العربية ومضمونها الحضاري، ومن اجل  تحسين المشاركة العربية - فكراً وأسلوباً- داخل المجتمع الأميركي.

ان "مركز الحوار العربي" حقق ويحقق الكثير من الفوائد العامة لكل من يتفاعل معه، وللعمل الثقافي العربي، وللقضايا العربية بشكل عام. ورغم ضعف الأمكانات المالية، يستمر المركز في عمله وأنشطته، ونأمل أيضاً أن يستمر عطاء ودعم المتفاعلين معه وتوسيع دائرة المشتركين فيه.

30 سنة مضت، وكان أبرز ثمار هذه التجربة هو تأسيس "مركز الحوار العربي" ليكون منتدىً عربياً هاماً، يجمع بين الفكر والعمل، بين الأنشطة الثقافية والقضايا العربية العامة، بين تحسين الفكر والأداء الحواري لدى العرب وبين تصحيح الصورة المشوّهة عنهم وعن قضاياهم لدى غير العرب، بين أنشطة ومطبوعات باللغة الانجليزية موجّهة لعموم الأميركيين، وأخرى باللغة العربية تهتمّ بالشأن العربي في كلّ مكان.

أيضاً، وجود "تجربة الحوار" على مدار 30 سنة كان تلبيةً لحاجة الجالية العربية في أميركا إلى مؤسسات ومنابر ثقافية تعزّز دورها في المجتمع الأميركي وتصون هويتها الثقافية وجذورها الحضارية.

ورغم أنّ "تجربة الحوار" ليست بجمعية حركية سياسية بل تأسّست كمنبر فكري وثقافي عربي في منطقة واشنطن، رغم ذلك، فإنّها كانت دائماً في مقدّمة المؤسسات والجمعيات العربية الأميركية التي تعمل وتنشط دفاعاً عن قضايا عربية هامّة داخل المجتمع الأميركي. وقامت "الحوار" بهذه الأنشطة الفكرية والثقافية والإعلامية من خلال مطبوعات وندوات أسبوعية ( 1050 ندوة حتى الآن)، وموقع على الإنترنت (منذ العام 1996)، ثمّ من خلال حملات الرسائل الإلكترونية شبه اليومية باللغتين الانجليزية والعربية.

ولم تكن الصعوبات المادية هي وحدها التحدّي الكبير أمام استمرار هذه التجربة على مدار 30 سنة، أولاً كمجلة شهرية ثمّ لاحقاً كمنتدى ثقافي، بل كان أيضاً تحدّي إثبات أهمّية مبرّر الوجود وجدوى فاعلية الأنشطة، هو الهمّ المعنوي الملازم للهمّ المادّي المتواصل. فكثيرٌ من العرب الذين سمعوا عن تجربة "مركز الحوار العربي" حين تأسيسها في العام 1994، لم يتفاعلوا معها مباشرة لفترة من الزمن، حيث طرحوا أسئلة مشروعة تتعلّق بالفائدة أصلاً من الاهتمام بالأمور الفكرية، فهي بالنسبة لهم، مسألة هامشية، أو حينما تساءلوا عن جدوى أسلوب الحوار حيث هو بنظرهم "مجرّد كلام بكلام" ولا يغيّر شيئاً!.

لكن هذه التساؤلات السابق ذكرها أكّدت عن غير قصد أهمّية وجود تجربة "مركز الحوار" وما يماثلها الآن من تجارب عربية فكرية وثقافية، لإزالة هذا "الاستخفاف" بالفكر عموماً وبجدوى الحوار المنشود بين العرب في كلّ مكان.

إنّ غياب الرؤى الفكرية السليمة لما هو واقعٌ مرفوض ولما هو مستقبلٌ منشود، يعني دعوةً للآخرين إلى التحكّم بمصائر الواقع والمستقبل معاً. لذلك كانت بداية تجربة "الحوار" قائمةً على دعوةٍ مفادها: "الأمَّة التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء".

إنّ الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوب أدوات فتن، وتتحوّل الأوطان إلى بؤر صراعات تؤجّحها القوى التي تملك "أفكارا" لتنفيذها هنا وهناك.

وكيف يمكن مخاطبة "الآخر" غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا ولا يجد لديه أي التزام تجاهها؟! وهل يمكن بناء جالية عربية واحدة في أي مجتمع غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية؟!

صحيحٌ أنّ على العرب في الغرب مسؤولية "إصلاح الصورة" المشوّهة عنهم في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها الآن، لكنّ ذلك لا يهمّش ضرورة "إصلاح الأصل أولاً"، والعمل على بناء الذات العربية بشكلٍ سليم.

إنّ الإنسان العربي في المهجر هو إنسان محظوظ إذا أحسن الجمع بين أصوله الثقافية الحضارية وبين التفاعل مع حضارة وثقافات أخرى، فهذا الجمع هو إغناء فكري وثقافي وعملي لمن يقدر عليه، بينما الذوبان الكامل في ثقافة الآخر، أو العزلة في ثقافة الأصل، هو الذي يولّد الأزمات مع النفس ومع الآخر . إنّ هذا التفاعل الخلاق بين الثقافات والحضارات هو الذي يوسّع مكامن المعرفة ويفتح الآفاق الجديدة أمام الأفراد والجماعات.

فلا تناقض بين "هويّة" مذهبية أو طائفية أو وطنية مع "الهويّة الثقافية العربية"، ثمّ لا تعارض بين كلّ هذه "الهُويّات" التي يحملها معه المهاجر العربي، وبين "هويّة وطنه الجديد" الذي هاجر إليه. فالمهم هو كيفيّة فهمه لمسألة "الهُويّة" وعدم جعلها سدّاً منيعاً أمام التفاعل المطلوب مع محيطه المشترك أو "هُوياته الأخرى".

وحينما تسود الرؤية السليمة لمشكلة "الهويّة" يتّضح حتماً مفهوم "الدور" وكيفيّة تحقيقه بالوسائل السليمة أيضاً. ولعل "تجربة الحوار" ساهمت في أميركا، ولو بقدر بسيط، في الإجابة الفكرية والعملية عن السؤال التقليدي: "من نحن وماذا نريد".

إنّ "الحوار" في واشنطن، وُجدت على أرضٍ أميركية، لكنّها زرعت في هذه الأرض نبتة جديدة تحتاجها المنطقة العربية والعرب أينما كانوا، وهي نبتة أهمّية أسلوب الحوار بين العرب وضرورة التسليم بحقّ "الرأي الآخر" بالوجود وبالتعبير عن نفسه، وليكون ذلك مساهماً في بناء مجتمعاتٍ عربية ديمقراطية سليمة. وقد حملت "الحوار" منذ تأسيسها دعوة عربية توحيدية تدعو للتكامل بين العرب بدلاً من التفرّق، وإلى صون التراث الحضاري والاعتزاز بالانتماء العروبي بدلاً من الفراغ والضياع الثقافي والروحي.. وهذه الدعوة أحدثت على مرِّ السنوات الماضية تأثيراً ايجابياً واضحاً في أكثر من مجال ومع أكثر من شخص ومؤسسة..

ألا تستحق هذه التجربة الثقافية العربية دعم العرب أينما كانوا للحفاظ على استمراريتها وتطويرها لتبقى مصدر إشعاعٍ لنورٍ يساهم - ولو بشكل محدود - في عدم الأكتفاء بلعن الظلام؟!

وسوم: العدد 815