القرآن… والشباب

أ. د. أحمد حسن فرحات

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، وسار على نهجه، واقتفى أثره، وتمسك بسنته إلى يوم الدين وبعد:

 فلقد سبق لي أن قمت بدراسات عديدة حول القرآن الكريم تناولت كثيراً من جوانبه، ولقد غلب على هذه الدراسات طابع التخصص الدقيق الذي ربما يستفيد منه العلماء المتخصصون أكثر مما يستفيد منه الجمهور وعامة المثقفين..

وقد لاحظ ذلك عليَّ بعض إخواني المقربين، فقد قال لي مرة في الكويت أخونا الأستاذ المستشار عبد اللَّه عقيل: وأين حظ الشباب من كتاباتك، إننا نريد أن تكتب للشباب كما تكتب للكبار... والحقيقة أنني منذ بدأت بالدراسات العليا استهوتني القضايا العلمية الدقيقة التي شغلت علماء الأمة قديماً، ووجدت عندي صدىً، مما دفعني إلى المشاركة فيها، علماً بأنني كنت في مطلع الشباب ومقتبل العمر أميل إلى الكتابة للشباب...

الحاجة الماسة للكتابة للشباب:

واليوم أشعر بالحاجة الماسة للكتابة للشباب، وبخاصة بعد أن أمضيت في تدريس القرآن وعلومه أكثر من أربعين سنة، ولاحظت من خلال ذلك مدى حاجة الشباب لتفهم القرآن بالأسلوب الذي يقرب معانيه إليهم، ويقربهم إليه... ومما أكد ذلك لي الكثرة الكاثرة من طلابي وزملائي، وآخر من سمعت منه مثل هذا الكلام سعادة الأستاذ الدكتور سعيد حارب نائب مدير جامعة الإمارات لشؤون المجتمع، حيث رغب إليَّ في تأليف كتاب حول القرآن يكون في مستوى جمهور الشباب المثقف لتعم الفائدة منه، وليكون سُلَّما يرتقي به الشباب نحو معاني القرآن الدقيقة..

 ولكن هل يستطيع هذا القلم الذي سار شوطاً بعيداً في الكتابة للكبار، وتأثر بأساليبهم..أن يعود مرة أخرى فيكتب للشباب من جديد..؟! إنها محاولة لابد من السير فيها، ذلك أن الشعور بضخامة المسؤولية يؤكد ضرورة السير في هذا الاتجاه , تعويضاً عما فات... ولعل اللَّه يوفق، فيكتب لهذه المحاولة النجاح، والأمر أولاً و آخراً مرهون بتوفيق اللَّه وعنايته..

أسلوب الحوار:

 ولعل مما يقرب معاني القرآن إلى الشباب أن تكون بأسلوب الحوار، وعلى طريقة السؤال والجواب، وقد سئل ابن عباس t قديماً كيف تأتّى لك تحصيل هذا العلم؟ فقال:

 «إن ربي وهب لي لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً».

 يريد بذلك: أنه يسأل عما لا يعلم، فإذا سمع الجواب وعاه وعقله.. وليس هذا بِدعاً، فكثيراً ما نرى أسلوب القرآن يعتمد الحوار في الأمثال والقصص وغيرها.

 كذلك نجد النبي r يلجأ إلى هذا الأسلوب مع أصحابه، حين يفجأهم بالأسئلة قبل أن يجيبهم عليها كأن يقول:

 «أتدرون من المفلس؟ »

 فيقولون: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار.

 فيقول: لكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام... ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا... فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته.. حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ( 2 ) .

ومثال هذا الأسلوب نجده في حديث جبريل u الذي يرويه عمر بن الخطاب t والذي يقول فيه:

 «بينا نحن جلوس عند رسول اللَّه r إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي r وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإيمان...»( 3 ).

 وهكذا نجد لهذا الأسلوب وقعاً في النفس وتحفزاً واستعداداً لاستماع الجواب، مما يضفي على الموقف حيوية وحركة،لا نجدها في الأسلوب المباشر...

إنني أكتب هذه المقدمة في صبيحة 23 / 5 / 1424 هـ الموافق 22 / 7 / 2003 م، حيث استيقظت قبل الفجر بساعتين في مدينة أَدَلاَيد بأستراليا، وألحَّ عليَّ هذا الموضوع، وأنا بعيد عن مكتبتي وكتبي، وليس عندي من المصادر والمراجع إلا كتاب اللَّه، ومن ثم فسيكون هو المرجع الأول بالإضافة إلى ما حفظته الذاكرة، مما سبق العلم به على مر السنين..على أنني لابد لي من أن أعيد النظر في ما كتبت في ضوء المصادر المعتمدة بعد رجوعي إلى مكتبتي – إن شاء اللَّه -.

ومن اللَّه وحده نستمد العون والتوفيق.. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

شبابية القرآن:

 - ما المراد بـ«شبابية القرآن؟

- «شبابية القرآن» مصطلح أطلقه العلامة بديع الزمان النورسي( 1 ) في القرن الرابع عشر الهجري الموافق للقرن العشرين الميلادي أي قبل نحو من سبعين سنة، وهو يريد بذلك أن معاني القرآن فتية شابة متجددة دائماً وأبداً، لا يصيبها الهرم، فهي قادرة دائماً على العطاء بحسب الحاجات المتجددة، والعصور المتوالية، ذلك أن معاني القرآن غير محدودة، وإن كان القرآن محدوداً بألفاظه وحروفه....

- ولكن ما الدليل على صحة ما قاله بديع الزمان عن شبابية القرآن؟

- الدليل ما ورد في بعض الأحاديث من وصف القرآن بأنه:

«لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد»( 2 ) يراد بذلك أن ما فيه من معان عجيبة أمر متواصل لا ينقضي حتى تنقضي الحياة الدنيا، وأنه على كثرة قراءته وترديده والاستنباط من معانيه وتوجيهاته، لا يخلق ولا يهترىء كما تخلق الثياب وتهترىء من كثرة اللبس، وإنما هو جديد دائماً بما يفيض من المعاني، وبما يعطي من التوجيهات، وبما يستجيب للمواقف المتجددة يوماً بعد يوم.. فهو معين لا ينضب..

- ولكن هل هناك دليل على ذلك من القرآن ذاته؟

نعم يقول القرآن في وصف كلمات اللَّه:

ﭽ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ [الكهف: ١٠٩].

ويقول في آية أخرى:

ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭼ [لقمان: ٢٧].

والقرآن من كلمات اللَّه، وكلمات القرآن محدودة، فلا بد أن يكون المراد «معاني كلمات اللَّه» أي معاني القرآن فهي غير المحدودة، ويلاحظ أن مبنى الآية على التكثير، فلم يقل: «ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام»؛ لأنه لو قال ذلك لأفاد أن كل شجرة صارت قلماً، ولكن قال: «ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام»، وهذا يفيد أن كل شجرة صارت أقلاماً كثيرة لا قلماً واحداً.. ولك أن تتخيل كم في الأرض من الغابات، وكم في كل غابة من الأشجار، وكم يمكن أن يكون من كل شجرة أقلام، ثم تتخيل سبعة أبحر من المداد والحبر تكتب بها تلك الأقلام معاني كلمات اللَّه، لتجد أن المداد ينتهي ولا تنتهي معاني كلمات اللَّه...

_ ولكن هل في الواقع ما يدل على ذلك؟

_ نعم إن القرآن منذ نزل قبل أربعة عشر قرناً، وهو يفسَّر من قبل العلماء، ونجد كل جيل يضيف من المعاني ما يفي بحاجاته في مواجهة تحديات عصره، ومن ثمَّ تعددت التفاسير وكثر المفسرون في كل عصر والمكتبة القرآنية غنية بالتفاسير الكثيرة والدراسات القرآنية العديدة، وما طبع منها قليل بالنسبة لما هو مخطوط أو مفقود..

_ ولكن يثور _ هنا _ سؤال آخر:

_ ألا يكفينا ما أثر عن النبي r وأصحابه من معاني القرآن؟

_ والجواب على ذلك: إن معاني القرآن غير محدودة _ كما سبقت الإشارة إلى ذلك _ ومن ثمَّ فقد بين الرسول r من القرآن ما يتوقف فهمه على هذا البيان، وهو ما يعرف عند العلماء ببيان المجمل كبيان أوقات الصلوات، وأعداد الركعات، وما تجب فيه الزكاة من الأموال، وما يتصل بالحج، والصيام، والجهاد، وغيرها من التكاليف الشرعية من تفصيلات كثيرة أغفلها القرآن، وطلب إلى النبي rأن يبينها للناس بقوله تعالى:

ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ [النحل: ٤٤].

ومثل هذا البيان لهذه التكاليف لا يمكن أن يعرف إلا عن طريق النبي r، حيث لا يمكن معرفته عن طريق التأمل والتفكر والتدبر... كذلك ما أشكل على الصحابة من بعض المعاني فقد بينه النبي r...

 ويمكن أن يلحق بذلك ما ورد عن الصحابة مما لا مجال للاجتهاد فيه، كالحديث عن أسباب نزول القرآن، وما صاحب هذا النزول من أحداث ووقائع، مما له أثر في فهم معاني القرآن.

 فهذا كله طريق معرفته النقل الصحيح عن النبي r وأصحابه.. ولا مجال لإدراكه عن طريق التفكر والتدبر. أما ما وراء ذلك فقد ترك للاجتهاد والتأمل والتفكر والتدبر، وذلك مستفاد من قوله تعالى:

ﭽ ﭭ ﭮ ﭼ - في ختام الآية المستشهد بها -:

ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ [النحل: ٤٤].

ومن هنا فقد بين الصحابة من معاني القرآن ما شعروا أن الناس بحاجة إليه في وقتهم، وسكتوا عما لا حاجة للناس إلى بيانه...

 ولكن الحاجة إلى البيان تزداد كلما ابتعد الناس عن عصر النزول، وكلما بعدوا عن إتقان العربية - لغة القرآن- ومن ثم نجد تضخم التفسير بعد عصر الصحابة والتابعين وخلال القرون حتى عصرنا الحاضر، وهو يدل على شدة حاجة الناس إلى ذلك أكثر من دلالته على سعة العلم عند المفسرين المتأخرين..

- وما الحكمة في ترك جزء كبير من القرآن يفهم عن طريق التفكر والتدبر؟ وألم يكن من الأيسر أن يبين النبي r كل ذلك ويريح الأمة من عناء التفكر والتدبر والاستنباط؟ وما قد يترتب على ذلك من اختلاف في الفهم والاجتهاد والاستنباط؟

-إن عملية التدبر والاستنباط أمر أكد عليه القرآن في كثير من آياته:

ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [ص: ٢٩].

ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [محمد: ٢٤].

ﭽ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ [النساء: ٨٢].َ

بناء الفكر المنهجي:

وليست فائدة التدبر والتفكر محصورة في فهم النص واستنباط الأحكام والتوجيهات الشرعية فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى عملية بناء الفكر المنهجي المنضبط بقواعد صارمة، من أصول الفقه وأصول التأويل والنظر، الأمر الذي يعيد تشكيل العقل الإسلامي بحيث يكون قادراً على مواجهة الأحداث، وفهم تداخلاتها، ويميز بين ما هو أصل، وما هو فرع، ويرتب الأولويات بحسب أهميتها..

 وهذا ما يفسر لنا تلك النقلة الهائلة التي نقلها القرآن للعرب بعد أن كانوا أمة أمية، لا يأبه بها أحد إلى أمة علمية قادرة على استيعاب ما واجهته الفتوحات الإسلامية من حضارات سابقة، والاستفادة مما هو جدير بالاقتباس، والإعراض عما لا يفيد.

 إن هذه القدرة على التمييز، مع الاحتفاظ بالشخصية والأصالة، وحسن المحاكمة والموازنة، هو الذي جعل الأمة تمسك بزمام القيادة العالمية عدة قرون... وهو ما تحتاج أن تؤكده في حاضرها الراهن، في علاقتها مع الحضارة الغربية، بحيث تحتفظ بتوازنها، وتتأبى على الذوبان في طوفان العولمة، لتنطلق من جديد في قيادة رشيدة للعالم، تحمل إليه الهدى، وتشيع فيه الخير، كما أراد اللَّه لها أن تكون

ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [آل عمران: ١١٠].

- بعد أن عرفنا أن شبابية القرآن تعني أن يبقى غضاً طرياً كما أنزل، غنيا بالمعاني التي لا تحد، قادراً على الاستجابة لكل جديد، وأننا مأمورون بكثرة التلاوة بحثاً عن كنوزه الدفينة طيّ الحروف والكلمات، وتوجيهاته الرشيدة خلال السطور وثنايا الآيات،

- نريد أن نطمئن لصحة هذا المسلك، وأننا في ذلك على الجادة، وأننا لم نكن في هذا الاتجاه مبتدعين، وإنما كنا مسترشدين بمن سبقنا من السلف الصالح، ومن سار على نهجهم وطريقهم من علماء الأمة خلال العصور. فهل هناك ما يمكن أن يزيدنا اطمئناناً لمثل هذا التوجه؟

_ والجواب على مثل هذا التساؤل:

_ لقد سئل الإمام علي- كرم اللَّه وجهه-:

«هل ترك رسول اللَّه r عندكم شيئاً من الوحي لم يبلغه؟ فقال:

«لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه اللَّه عبداً في كتابه »( 1 )

 فأنت ترى من خلال هذا القول المأثور عن الإمام علي t، إلى أن الفهم الذي يؤتيه اللَّه عبداً في كتابه –هنا- لم يبلغه النبي r بمعنى أنه لم يبينه لأصحابه، ولكنه مضمن في نص الكتاب، وإنما استطاع هذا العبد من إدراكه نتيجة تأمله وتدبره، وتوفيق اللَّه له في ذلك. ومثل هذا القول يفتح الباب على مصراعيه للتدبر والتأمل للوصول إلى تلك المعاني التي يوفق اللَّه عباده لها.

دعاء النبي لابن عباس - فتى الكهول -:

_ ثم إن النبي r حينما دعا لابن عباس قال:

«اللَّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»( 1 ).

ومن هنا اشتهر ابن عباس بين الصحابة بـ«ترجمان القرآن» و«حبر الأمة»، وأنه ينظر إلى الوحي من ستر رقيق، وقد تميز بذلك على كثير من كبار الصحابة، على الرغم أنه كان من أصغرهم سناً -فتى الكهول- وهذه الميزة هي التي جعلت عمر t يصطحبه معه ويدخله مع كبار الصحابة، والذين ربما وجدوا في أنفسهم شيئاً من مسلك عمر t وربما صرح بعضهم بما في نفسه، كأن يقول:

كيف يكون معنا ولنا أولاد مثله؟

 ولكن عمرt أحب أن يبين لهم فضل ابن عباس، ولماذا يحرص على اصطحابه معهم، فسألهم ذات يوم هذا السؤال:

- ماتقولون في قوله تعالى:

ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [النصر: ١ – ٣].

كلهم قالوا: أمرنا بالتسبيح والاستغفار عند النصر.

 قال عمر: فما تقول فيها يا ابن عباس؟

 قال: هي أجل رسول اللَّه r.

 قال له عمر: ما فهمت منها إلا ما فهمت يا ابن عباس.

 ذلك أن ابن عباس فهم من مجيء النصر، ودخول الناس في دين اللَّه أفواجا انتهاء مهمة النبي r، وانتهاء المهمة يعني اقتراب الأجل، وهو معنى يلزم من المعنى الأول، وابن عباس وعمر ^ تجاوزا ذلك إلى المعنى الثاني خلف المعنى الأول..

 وبمثل هذا يكون التفاوت بين الناس في إدراك المعاني وإدراك معاني المعاني – على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني-.

وهكذا نرى شبابية القرآن تظهر هنا لذلك الفتى الشاب من الصحابة على حين يغيب هذا المعنى على كثير من الكهول، ذلك أن هذاالمعنى لم يرد عن النبي r، وإنما ألهمه اللَّه لابن عباس فتى الكهول.. t

والسؤال الأهم في كل ذلك:

_ كيف تسنى للقرآن أن تكون شبابيته دائمة متجددة، لا يصيبها الهرم على توالي العصور ومر الدهور؟

- ويجاب على ذلك بما يلي:

إن القرآن كلام اللَّه تعالى، وهو رسالته إلى العالمين، وشريعته إلى الناس أجمعين، ومن ثم فقد جمع اللَّه فيه كل ما يحتاجه الخلق من صنوف الهداية، وضروب التوجيه، ومقاصد التشريع، وغيرها من الثوابت التي لا تتغير بتغر الزمان. كما أودعه من الإشارات والمعاني الخفية التي تظهر في مواجهة المستجدات والتطورات... ومن ثم فقد جاء كتاباً محكماً مفصلاً، كما وصفه اللَّه تعالى بقوله:

ﭽ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ [هود: ١].

 فكما أودع اللَّه الكون من الأسراروالقوانين، التي لا تتكشف للإنسان مرة واحدة وإنما تتكشف يوما بعد يوم لتلبي احتياجات الإنسان المادية - خلال العصور - كذلك أودع القرآن كل ما يحتاجه الإنسان في حياته السلوكية من أنواع الهدايات التي لا تتكشف للإنسان مرة واحدة. ومن هنا كان البحث في استنباط الهدايات والتوجيهات القرآنية يشبه البحث في الكون وأسراره واستنباط قوانينه التي تحكم المادة..

وبتعبير آخر هما كتابان، كتاب اللَّه المنظور، وهو الكون بكل ما فيه. وكتاب اللَّه المسطور, وهو القرآن بكل ما يحتويه من أسرار، وقد جعل القرآن ما يكتشفه الإنسان من أسرار الكون، دليلاً على صدق القرآن فيما جاء به، كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى:

ﭽ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ [فصلت: ٥٣].

وذلك لأن البحث في الكون يؤدي إلى اكتشاف الحقائق الكامنة فيه، فإذا ما وصل الإنسان إلى هذه الحقائق، وجد صداها ومصداقها في كتاب اللَّه المقروء.

وهنا يثور سؤال آخر:

-لماذا لا يكتشف أهل القرآن هذه الحقائق العلمية الكونية قبل غيرهم؟

ويجاب على ذلك بما يلي:

إن القرآن كتاب هداية أولاً وأخيراً، وهو يتضمن إشارات كونية وإنسانية في معرض الحديث عن خالق هذا الكون، وبيان عظمته وصفاته التي تميزه عن خلقه، وليس كتاب علوم تفصيلية، وقد جعل اكتشاف هذه الآيات الكونية العلمية في الآفاق والأنفس دليلاً على صحة ما جاء في الكتاب، وهذا يعني أن تلك الإشارات الواردة في القرآن لا تتكشف معانيها الدقيقة للإنسان إلا بعد مقدمات كثيرة وتجارب عديدة.

 ومن ثم فلا يمكن اكتشافها من مثل النص القرآني إلا إذا كان الدارس للنص معنياً بمثل تلك الدراسات العلمية فقديفيده النص في مثل هذه الحالة، وقد يسدد خطاه أو يسرع بها نحو النتائج المطلوبة.. ونرى مصداق ذلك في اكتشاف المسلمين للمنهج التجريبي في البحث، وللسبق الذي سجلته الحضارة الإسلامية أيام ازدهارها في عدد من العلوم..

 ثم إن هذا القرآن يعرض تلك الإشارات الكونية بأسلوب عجيب يستوعب كل مراحل التطور العلمي الذي يمكن أن يمر فيه الباحث، بحيث لا تتعارض المعاني القرآنية لتلك الإشارات مع أية مرحلة من مراحل البحث، ولكن كلما اقترب الإنسان من اكتشاف الحقيقة، تظهر له دقة أكبر في المعاني القرآنية، حتى إذا وصل الإنسان إلى الحقيقة العلمية كان التطابق الكامل بين الكتابين..

 وحينما سأل بعض الناس في زمن النبي r عن «الأهلة» كيف تبدأ صغيرة ثم تصيربدراً ثم تعود كالعرجون القديم؟

كان هذا سؤالاً علمياً، ولكن لما كان السائلون لا يملكون المقدمات العلمية التي تؤهلهم لفهم هذه الظاهرة جاء الجواب بالطريقة التالية:

ﭽ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [البقرة: ١٨٩].

ويلاحظ هنا أنه تجاهل طبيعة سؤالهم، وأجابهم بالحكمة المترتبة على تغير الأهلة التي هي مواقيت للناس والحج، ذلك أن الإجابة عن السؤال تتطلب علماً مسبقاً لا وجود له لديهم.. ومثل ذلك سؤال المشركين عن الروح حيث أجاب:

ﭽﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭼ [الإسراء: ٨٥].

 كأنه يقول لهم: إن ما عندكم من العلم القليل، لايؤهلكم لفهم الجواب العلمي لهذه الحقيقة، ويكفيكم أن تعرفوا الجواب الإجمالى، وهو أن الروح من أمر اللَّه..

_ يلاحظ أن الكلام فيما سبق، انصب على التوافق بين ما يكتشفه الأنسان من آيات الآفاق والأنفس، وما يتضمنه القرآن من إ شارات علمية سبق إليها القرآن. وهذا جزء واحد من أجزاء كثيرة تضمنها القرآن.

 فكيف يمكن أن يكون القرآن ملبياً لكل هداية يحتاج إليها الإنسان في خط سيره الطويل؟

_ ويجاب على ذلك، بأن كل ماذكره القرآن:

 إنما كان نماذج لما وقع، ولما يمكن أن يقع في المستقبل، ولو أخذنا على سبيل المثال القصص القرآني، فإننا نجده جاء مغفلاً- في كثير من الأحيان- أسماء الأشخاص- أبطال القصة- مغفلاً تحديد الزمان والمكان، وذلك ليدخل تحت هذاالقصص: كل ما كان مشابهاً له، وبذلك تكون القصة أنموذجاً يحتذى، في حال الهدى والاقتداء. وأنموذجا يتجافى، في حال الضلال والابتعاد.

قصة أصحاب الكهف:

ويمكن أن نمثل لذلك بقصة أصحاب الكهف، حيث جاءت القصة مغفلة من أسماء أبطالها، وكذلك لم يحدد مكانها، ولا زمانها. والقصة في مضمونها نموذج للمستضعفين في الأرض من المؤمنين الذين يضطرهم مشركو قومهم، إلى ترك بلدهم واللجوء إلى كهف في الجبل، يتحصنون فيه من أذى قومهم.

 وهذه القصة ضاربة في شعاب الماضي، ولكنها تتنزل على النبي r قبيل الهجرة النبوية إلى المدينة، وذلك تمهيداً للهجرة بعد أن بلغ أذى المشركين للنبي r مداه، وحاولوا قتله.

 ويلاحظ أن النبي r خلال هجرته لجأ إلى الكهف «غار ثور» كما لجأ أصحاب الكهف إلى كهفهم، وكما شعر أصحاب الكهف برحمة اللَّه ينشرها خلال كهفهم، كذلك كان يشعر النبي r برحمة اللَّه تحيط به على الرغم من وصول المشركين إلى الغار

ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [التوبة: ٤٠].

ثم إن هذا النموذج نموذج المستضعفين المؤمنين من قبل المشركين، نموذج متكرر خلال التاريخ، يمكن أن يحتذى في أية مرحلة من المراحل، وفي أي زمن من الأزمان..

 وهكذا نجد أمثال هذه الهدايات تستلهم دائماً وأبداً، ويمكن أن تكون زاداً للمؤمنين، يتزودون به لمواجهة مقتضيات مراحل الدعوة والصراع، خلال الأزمان المتعاقبة، والأجيال المتتابعة..

القرآن.. والشباب:

- عرفنا شيئا فيما سبق عن شبابية القرآن.

 و نريد أن نعرف مدى صلة القرآن بالشباب، وعن مكانتهم لديه واحتفاله بهم؟

_ وجواباً على هذا السؤال نقول:

 إن الشباب يعني: القوة والفتوة والحيوية.والدعوات الكبرى تتطلب جهداًونضالاً، وصبراً طويلاً، ولا يطيق تحمل تبعات ذلك كله: إلا أولو العزم من الشباب، ومن هنا كان أتباع الأنبياء والمستجيبون لدعواتهم معظمهم من الشباب، كما نجد أن الشيوخ في غالبيتهم العظمى: مردوا على عادات وتقاليد، يصعب عليهم تركها وراءهم، وشعارهم في ذلك:

ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ [ص: ٦- ٧].

 ومن هنا كان معظم المستجيبين لدعوة النبي r من الشباب، حيث بعث النبي r في الأربعين، وكان أول المستجيبين له من الرجال صديقه أبو بكر -وسنه قريب من سن النبي r -، وكان أول المستجيبين له من الفتيان اليافعين علي t.. وهكذا فمعظم الذين استجابوا للنبي r كانوا من الشباب، على حين نجد شيوخ قريش، حملوا لواء الهجوم على الدعوة الوليدة، وعلى شبابها ونبيها...

وهذه الحقيقة هي التي أكدها أبو حمزة الشاري في خطبته المشهورة مخاطبا أهل مكة:

يا أهل مكة: تعيروني بأصحابي تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول اللَّه r وسلم إلا شباباً؟

 نعم الشباب: عمية عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر اللَّه إليهم في آناء الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة: بكى شوقاً إليها، وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار: شهق شهقة، كأن زفير جهنم في أذنيه.

وفي خطبة أخرى له يقول:

ألا وان للَّه بقايا من عباده، لم يتحروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبهها، مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، ركبوا منهج السبيل، وقاموا على العلَم الأعظم، هم خصماء الشيطان الرجيم، بهم يصلح اللَّه البلاد، ويدفع عن العباد. طوبى لهم وللمستصبحين بنورهم، وأسأل اللَّه أن يجعلنا منهم

وهكذا فشبابية القرآن يستجيب لها غالباً: الفتيان والشباب، الذين يتمتعون بالمرونة والحيوية، ويطمحون إلى التغيير، وبناء المستقبل... فهناك إذن قربى ونسب، وصداقة بين الشباب، وشبابية القرآن..

_ وهل نجد في القرآن إشارات إلى هذه المعاني التي ذكرتها؟ وأين؟

_ وجواباً على ذلك نقول:

  إن قصة أصحاب الكهف التي ذكرها القرآن،وأشاد بأبطالها، إنما هي قصة:

«فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى»:

ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞﭼ [الكهف: ١٣].

 وهؤلاء الفتية هم الذين وقفوا في وجه الملأ المشركين من قومهم، بعد أن ربط اللَّه على قلوبهم، فصدعوا بدعوة التوحيد، واستنكروا ما عليه قومهم من الشرك، الذي لا يستند إلى دليل أو برهان، و إنما هو افتراء وكذب و تقولٌ على الحقيقة بما لا يعرفون:

ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ [الكهف: ١٤ – ١٥].  

وأمام هذه المواجهة وهذا الصدام، لم يبق أمام الفتية، إلا أن يعتزلوا هؤلاء القوم، بعد أن وصلت الأمور معهم إلى طريق مسدود، وأن يضحوا بكل ما يملكون، وأن يهجروا بلدهم وقومهم ليعيشوا في كهف في الجبل، يجدون في ضيقه رحمة اللَّه الواسعة، بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بسبب مضايقة قومهم المشركين:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭼ [الكهف: ١٦].

- ولكن كيف استفاد الصحابة من قصة أصحاب الكهف؟

موقف أصحاب النبي:

- إن هذا الموقف الشبابي لهؤلاء الفتية، هوالموقف الذي وقفه أصحاب النبي r من قومهم المشركين، حيث اضطروا إلى الهجرة مرتين:

 مرة إلى الحبشة، ومرة إلى يثرب.

 وكان على رأس المهاجرين إلى الحبشة شاب مؤمن هوجعفربن أبي طالب t

 كما كان الشاب مصعب بن عمير t، هو الذي مهد لهجرة المؤمنين إلى المدينة، وكان لنشاطه في المدينة أثر كبير في انتشار الإسلام فيها. فكان بحق الرائد الذي شق الطريق أمام المستضعفين في مكة، ليجدوا ملاذاً آمناً في المدينة، ولتكون المدينة حصن الدعوة الجديدة، بعد أن تكونت القاعدة الصلبة للدعوة من المهاجرين والأنصار..

_ وهل تعتبر قصة أصحاب الكهف هي القصة الوحيدة في هذا المجال؟

_ لا ليست هي القصة الوحيدة، فهناك أمثلة كثيرة، ونماذج متعددة يمكن أن نجد فيها تأكيداً لما قلناه:

قصة يوسف:

_ إن قصة يوسف u بدأت منذ أن كان غلاماً يافعاً:

ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ [يوسف: ١٢].

ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮦ ﭼ [يوسف: ١٩].

وهذا الغلام هو الذي بيع بدراهم معدودة، وقد اشتراه العزيز في مصر وطلب إلى امرأته أن تكرم مثواه وإقامته، وقد عاش في بيت العزيز عبداً إلى أن اكتمل شبابه، وعاش بعيداً عن أهله ووطنه، ولكنه بقي محافظاً على نفسه، معتزاً بالقيم التي نشأ عليها في بيت النبوة، وهاهو يتعرض لمراودة امرأة العزيز عن نفسه، وهي سيدته وهو غلامها، وهاهي تهيء لذلك كل ما تستطيع، لإغرائه و إغوائه، ولكن عناية اللَّه تحيط به، ويرى برهان ربه فيعصمه اللَّه من السوء والفحشاء:

ﭽ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭼ [يوسف: ٢٤].

 ثم يتعرض للإغراء والإغواء ليس من امرأة العزيز وحدها، ولكن من النسوة اللاتي لمنها على فعلها الأول بعد أن دعتهن:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ [يوسف:٣١ -32].

 ومن ثم يلجأ يوسف إلى اللَّه ليحميه من هذا المجتمع وهذا الكيد:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [يوسف: ٣٣].

ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﭼ [يوسف: ٣٤].

ولكن الأمر شاع في المدينة وأصبح حد يث الناس، فكان لابد من إيداعه السجن حتى ينسى المجتمع تلك الحادثة:

ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ [يوسف: ٣٥].

ويدخل يوسف السجن، و يدخل معه فتيان:

ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [يوسف: ٣٦].

ويعلن يوسف استعداده لتأويل الرؤى لصاحبي السجن، ناسبا الفضل في ذلك الى اللَّه - الذي علمه من تأويل الأحاديث - ولا ينسى في نفس الوقت، أن يذكرهما بنبذه لملة الشرك، واتباعه لملة التوحيد، مبينا لهم فضل التوحيد على الشرك مرغبا لهم فيه:

ﭽ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [يوسف: ٣٧ – ٤٠].

وبعد هذه الدعوة إلى عبادة اللَّه الواحد، وإلى الدين القيم – والتي جاءت في الوقت المناسب – يقول يوسف لصاحبي السجن:

ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [يوسف: ٤١ – ٤٢].

ويرى الملك رؤياه، ويطلب تعبيرها، ويعتذر الناس عن تأويلها لعدم علمهم بذلك:

ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭼ [يوسف: ٤٣ – ٤٤].

وهنا يتذ كر الذي نجا من صاحبي السجن يوسف u ويطلب الذهاب إليه:

ﭽ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ [يوسف: ٤٥ – ٤٦].

وهنا تظهر عبقرية يوسف u ليس في تعبير الرؤيا فقط، وإنما في وضع الحل للمشكلة التي تشير إليها الرؤيا:

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﭼ [يوسف: ٤٧ – ٤٩].

لقد وضع لهم خطة سبعية جادة للزراعة، لاتهاون فيها ولاتكاسل:

ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭼ

وبين لهم طريقة تخزين المنتج بإبقائه في سنبله، حتى لايتعرض للتلف:

ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﭼ

كما بين لهم ضرورة تقليل الاستهلاك في مثل هذه الأحوال:

ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ

ثم بين لهم أن هذا المخزون يستهلك في السنوات السبع الشداد:

ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ

ولم ينس أن يبين لهم ضرورة إبقاء مايكفي من البذور، لإعادة الاستثمار:

ﭽ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ

ثم تتوالى أحداث القصة المعروفة، وينتهي الأمر بيوسف u ليكون المسؤول الأول في مصرعن شؤون الاقتصاد، وربما تجاوز ذلك إلى المشاركة في الملك:

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ [يوسف: ٥٦].

ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [يوسف: ١٠١].

 ثم يتم اللَّه نعمته عليه فيأتي إليه أهله، وتكتمل بذلك رؤياه:

ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﭼ [يوسف: ١٠٠].

 إن قصة يوسف u نموذج للشاب المؤمن المهاجر الذي يحرص على عقيدته وأخلاقه، فتحميه هذه العقيدة والأخلاق، في مجتمع لا يصمد أمامه إلا مثل هذا الشاب الذي نشأ في طاعة اللَّه..

وذلك على الرغم من كل ما جرى له من كيد إخوته، وإيداعه غيابة الجب، وبيعه للقافلة بدراهم معدودة، ليصبح عبداً بعد أن كان حراً، ثم ليتنقل إلى بلد غير بلده، ويرى وجوهاً لم يألفها، وعادات وتقاليد لا عهد له بها. ومع ذلك يبقى محافظاً على توازنه، منيباً إلى ربه، يحسن التفكير والتدبير، يغتنم الفرص المناسبة، ليدافع عن نفسه. فلا يتلعثم أمام العزيز:

ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ [يوسف: ٢٦].

وحين أتيحت له فرصة الخروج من السجن أبى أن يخرج قبل أن تثبت براءته:

ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [يوسف: ٥٠].

وهنا تقول امرأة العزيز:

ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ [يوسف: ٥١].

والاعتراف سيد الأدلة ومن قبل شهد شاهد من أهلها... وهنا يقول العزيز:

ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ [يوسف: ٥٤].

فيقول يوسف u مغتنماً الفرصة بعد ظهور البراءة:

ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ [يوسف: ٥٥].

 هكذا يقولها في الوقت المناسب، لتقع موقعها فتكون معها الموافقة والإجابة..

إنه نموذج الفتى الذكي الألمعي الذي لا يخدع، والذي يحسن اغتنام الفرص، ويحسن التقدير والتدبير، كما يحسن الإداررة والاقتصاد، دون أن ينسى مهمته الأ ساسية في التزامه بقيم الدين الحق، ودعوته إلى توحيداللَّه وعبادته.

- وهل هناك من إضافة أخرى يمكن أن تفيد الدعوة الإسلامية؟

- إنها البشارة بالنصر والتمكين للنبي - r وأصحابه-

 بل للمؤمنين الملتزمين في كل زمان ومكان - كما مكن اللَّه ليوسف u:

 ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙﭼ [يوسف: ٥٦ – ٥٧].

-عرفنا نموذج يوسف u فهل لك أن تضيف لنا نموذجاًآخر؟

نموذج ابراهيم u:

- نعم إنه إبراهيم u ذلك الفتى الذي آتاه اللَّه رشده، فوقف ينكر على أبيه وقومه ما هم عليه من عبادة الأصنام:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ [الأنعام: ٧٤].

ولم يكتف إبراهيم بمجرد الإنكار، وإنما يريد أن يقيم عليهم الحجة. ومن ثم يتطلع إلى ملكوت السوات والأرض:

ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ [الأنعام: ٧٥].

ولما كان قومه يعبدون الكواكب والنجوم، فقد سلك طريقة عجيبة في محاجتهم، حيث كان يسلم لهم مقولتهم أولا، ليستقيم له إبطالها بعد ذلك:

ﭽ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﭼ [الأنعام: ٧٦ – ٧٩].

ولما لم يجد من قومه الاستجابة التي كان يأملها فكر أن يقيم عليهم الحجة

بطريقة أخرى:

ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ[الأنبياء: 52 – ٥٤].

هكذا بكل صراحة ووضوح، فلا مجال للمجاملة والمداهنة في قضية كهذه، ثم يبين لهم الإله الحق الجدير بأن تتوجه إليه أنظارهم وعبادتهم، إنه الخالق الفاطر:

ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭼ [الأنبياء: ٥٦ -57].

وهكذا كان. فلقد أراد إبراهيم u الذي عرف بطبيعته الحليمة الوديعة المسالمة التي أشار إليها القرآن بقوله:

ﭽ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﭼ [التوبة: ١١٤].

 أن يقوم بعمل عنيف – مخالفاً بذلك ما اشتهر به من الحلم والأناة - ليجعل هؤلاء السادرين في غيهم يفيقون مما هم فيه، ويتبينون ضعف هذه الآ لهة العاجزة عن الدفاع عن نفسها. فوجه إليهم صدمة عنيفة بما فعل في أصنامهم:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ [الأنبياء: ٥٨ ].

وما أن رأوا أصنامهم وقد سويت بالأرض حتى « قالوا:

ﭽ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ  [الأنبياء: ٥٩ – ٦١].

هكذا إذن...

ﭽ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ

إنها محاكمة علنية أمام الملأ:

ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ [الأنبياء: ٦٢ – ٦٣].

 ومن يستطيع أن ينال من الآلهة إلا كبيرهم، ويطلب إليهم أن يسألوهم، وذلك توبيخاً لهم وإقامة للحجة عليهم.

ﭽ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ [الأنبياء: ٦٤].

 ولكن عزَّ عليهم أن يعترفوا بالحقيقة، ثم نكسوا على رؤوسهم وأبوا أن يسلموا لإبراهيم بالهزيمة فعادوا ليقولوا:

ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ[الأنبياء: ٦٥].

.. وهذا الذي كان إبراهيم يهدفُ الوصولَ إليه، ليقيم عليهم الحجة، ومن ثم يقول لهم:

ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ [الأنبياء: ٦٦ – ٦٧].

 وهنا تأخذهم العزة بالإثم، فتدفعهم إلى الانتقام من إبراهيم u:

ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [الأنبياء: ٦٨].

وهكذا ألقوه في النار، ولكن رب إبراهيم يقف إلى جانبه يدافع عنه:

ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ [الأنبياء: ٦٩ – ٧١].

 إنه موقف عظيم يقفه الفتى الشجاع إبراهيم، في وجه أولئك العتاة المشركين، حيث يجبههم بالحقيقة في شجاعة نادرة، وهو يعلم أنه وحيد في مقابل كثرتهم، ولكنه يعلم في الوقت نفسه أن اللَّه معه، ولن يسلمه إليهم.. وهكذا كان..

 إن إبراهيم u حينما وقف هذا الموقف كان فتى في مقتبل العمر:

 ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ [الأنبياء: 60].

وهكذا فهو نموذج للفتيان والشباب، الذين يحرصون على دعوة الحق فينوعون الأساليب، ويقيمون الحجج، ويقفون في وجه الباطل، لا يخافون في اللَّه لومة لائم.. إنهم جند اللَّه في كل زمان ومكان:

ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭼ [المدثر: ٣١].

-يلاحظ أن جميع النماذج الشبابية التي ذكرتها لنا كانت فتياناً.

 والسؤال: ألا يوجد نماذج من الفتيات؟

_ والجواب على هذا السؤال:

 إن القرآن الكريم قد ذكر نماذج متعددة من الفتيات، اللاتي استجبن لدعوة الحق، والتزمن بأوامر اللَّه وشرعه، كما أن السيرة النبوية، وسير السلف الصالح فيها الكثير الكثير من المواقف التي تصلح للاقتداء في هذا المجال،

 ولما كان الحديث عن القرآن هو المراد هنا، فسنقتصر على بعض النماذج التي وردت في القرآن:

قصة أخت موسى :u

_ يذكر القرآن الكريم قصة أخت موسىu التي كلفت من والدتها، بتتبع التابوت الذي وضع فيه موسى u، حينما كان وليداً،

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﯙ ﭼ [القصص: ١١].

حتى إذا وصل إلى قريب من قصر فرعون، يلتقطه آل فرعون، وتتدخل امرأة فرعون لحمايته من القتل:

ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﭼ [القصص: ٩].

ثم هاهم يعرضونه على المرضعات فيأبى أن يرضع منهن:

ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯫ ﭼ [القصص: ١٢].

 وأخته تراقب ذلك عن بعد:

ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [القصص: ١١].

وهنا تتدخل في الوقت المناسب لتنقذ أخاها وتعيده إلى أمه:

 ﭽ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ [القصص:١٢].

ﭽ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭼ [القصص: ١٣].

 إن المهمة التي قامت بها هذه الفتاة في غيبة الرجال، مهمة عظيمة، وقد أظهرت فيها من الذكاء وحسن التصرف، ما جعلها تصل إلى النتائج المرجوة، فلقد حافظت على السر في شأن أخيها، وأظهرت شجاعة نادرة في تحملها مسؤولية متابعة التابوت، على الرغم من اقتراب التابوت من قصر فرعون، والتقاط آل فرعون له، وهي تراقب ذلك بكل حذر، وإن أي خطأ في الحركة أو التصرف، يمكن أن يكشف السر، ويهدد مصيرها ومصير أخيها و أمها، ولكنها بقيت رابطة الجأش، ولم تقم بأي عمل يمكن أن يثير الريبة والشك في أمرها، ومن ثم اختارت الوقت المناسب للتدخل، وأحسنت العرض للحل، بعد أن يئس القوم من أن يجدوا مرضعاً لهذا الطفل.

 ومن ثم كانت الاستجابة للحل، وعاد الطفل إلى أمه في كفالة فرعون ورعايته... إنها نموذج للفتاة الذكية الشجاعة التي، تحسن أداء المهمات الصعبة في غيبة الرجال..

موقف الفتاتين:

-ويمكن أن نذكر أيضاً نموذجاً لما نحن فيه موقف الفتاتين اللتين وجدهما موسى على ماء مدين بعد أن خرج من مصر خائفاً يترقب:

ﭽ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭻ ﭼ [القصص: ٢٣].

 إنهما فتاتان تذودان – تدفعان - أغنامهما عن مورد الماء مخافة مزاحمة الناس، الذين يسقون أغنامهم من ذلك المورد...

_ ويشعر موسى u بحرج موقف الفتاتين وعدم رغبتهما في المزاحمة، وإيثارهما التريث والانتظار.. ويشفق موسى u على الفتاتين من هذا الموقف ويتقدم إليهما سائلاً:

ﭽ ﭭ ﭮ ﭯﭼ ﭰ؟

_ وتجيبان:

ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [القصص:  ٢٣].

-إنهما تنتظران انتهاء الرعاة، من سقي أغنامهم، ومن ثم تتقدمان لسقي أغنامهما،

وتعتذران عن مجيئهما لمثل هذا العمل، الذي هو في الأصل من وظيفة الرجال،

لأن أباهما لا يستطيع أن يأتي لمثل هذه المهمة، لأنه شيخ كبير، لا يقوى على ذلك..

 ويساعدهما موسى u:

ﭽ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ [القصص: ٢٤].

.. ثم تأتي إحدى الفتاتين لدعوته إلى منزل والدهما:

ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮨ ﭼ [القصص: ٢٥].

ويصل موسى u إلى المنزل، ويقص ما حدث له على ذلك الشيخ الكبير الذي يقول له:

ﭽﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﭼ [القصص: ٢٥].

 وهنا تتدخل إحدى الفتاتين قائلة لوالدها:

ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [القصص: ٢٦].

 ويفهم الوالد الذكي رغبة ابنته في الزواج، و من ثم يقول لموسى u:

ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [القصص: ٢٧].

وإننا لنجد في موقف الفتاتين نموذجاً رائعاً للسلوك الاجتماعي المسؤول.

ويتجلى ذلك في إجابتهما لموسى u حينما سألهما عن شأنهما. فأجابتا إجابة مختصرة مهذبة، بلا زيادة ولا نقصان:

 ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

إنه جواب مختصر مفيد، لا يمكن أن يكون أوجز من ذلك، وليس فيه مجال للكلام الذي لا ضرورة له، والذي تسعى بعض الفتيات من خلاله للخضوع بالقول.. الذي يُطْمِعُ الرجالَ فيهن

ويتجلى أيضا في سلوك تلك الفتاة ومشيتها:

ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮨ ﭼ [القصص: ٢٥].

فالاستحياء متمكن فيها وهي متمكنة منه فطرة وطبعا.

ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﭼ

 انه كلام محسوب بقدر.. وهكذا ينبغي أن يكون سلوك الفتاة المسلمة حينما تضطرها الظروف للتعامل مع الرجال...

ويتجلى أيضا في مشاركتها الرأي لوالدها، بل في مبادرتها الطلب إليه أن يستأجر موسى u، وهي تحتج لذلك بقوته وأمانته - ولا حاجة لذكر ما ذكرته بعض الأخبار، بأنه أظهر قوته حينما سقى لهما، وأن أمانته ظهرت بجعله الفتاة تمشي خلفه وتدله على الطريق... وما إلى ذلك من الروايات التي لا نعلم مدى صحتها - فإن الفراسة والذكاء في كثير من الأحيان يغنيان عن مثل هذه الروايات..

 ثم.. إن هذا الكلام الذي قالته فيه إشارة إلى الرغبة في الزواج تلميحاً، وهوما يليق بسلوك الفتاة وحيائها، والوالد الذكي، أدرك ذلك ببديهته.

وهكذا نرى:

- مهمة المرأة الأم تتجلى واضحة صارخة في قوله تعالى:

 ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ [القصص: ٧].

-    ومهمة الفتاة الأخت المكلفة بتتبع شأن أخيها في قول الأم لها:

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ[القصص: ١١].

-ومهمة المرأة المناصرة للحق في الدفاع عن موسى والمحافظة على حياته:

ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﭼ [القصص: ٩].

-وطموح الفتاة المعجبة بالرجولة الحقة، المتمثلة بالقوة والأمانة، لأن تكون زوجا تقف إلى جانب زوجها، تشد من أزره، بقولها لأبيها:

ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [القصص: ٢٦].

-مما تقدم يتبين لنا أن المرأة هي الظاهرة، في شأن موسى u منذ ولادته وإلى ذهابه إلى فرعون، الأمر الذي يثير تساؤلا مهما عن غيبة الرجال وعدم ظهورهم في هذه القصة؟

-وللإجابة عن ذلك نقول:

-لقد أشار القرآن في مطلع القصة، إلى حالة الاستبداد والاستعباد، التي أحاط بها فرعون وهامان وجنودهما بني إسرائيل، حذرا من أن يأتي من ينقذ المستضعفين أويسلبهما سلطانهما بقوله تعالى:

ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ[القصص:٤- ٦].

وواضح من قوله تعالى:

ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ

مقدار الخطر الذي كان يحيط بالرجال والأبناء، والذي يستهدف حياتهم أولاً وأخيراً، الأمر الذي جعلهم يغيبون عن الشهود، ولا يظهرون. مما ألقى على النساء، مهمة مضاعفة – كما ظهر ذلك في ما تقدم – حيث قامت المرأة بهذه المهمة خير قيام.

ومثل هذا الأمر قابل لأن يتكرر كثيرا في حياة البشر.

وهكذا يضرب القرآن لنا النماذج التي تصلح للاقتداء والتأسي في سلوك الشباب والشابات جميعا..

نماذج أُخَر:

_ ومن الأمثلة التي يمكن أن نشير إليها:

- نموذج امرأة فرعون:

 التي ضربها اللَّه مثلاً للذين آمنوا، والتي كان لها موقف شجاع في المحافظة على حياة موسى u:

ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﭼ [القصص: ٩].

إنها نموذج للمؤمنة الصالحة التي تفرض عليها الظروف أن تكون في بيئة فاسدة، فتتعالى عليها، وتتطلع إلى ما عند اللَّه:

ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﭼ [التحريم: ١١].

لقد زهدت في زينة الحياة الدنيا، التي كان فرعون يحيطها بها، فلم تأبه لملكه وسلطانه، وقصوره وأنهاره، التي كان يزهو بها على ملئه وقومه:

ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [الزخرف: ٥١].

لقد كان تطلعها إلى بيت في الجنة، في جوار الملأ الأعلى، بعيداً عن فرعون وجرائر مظالمه وأعماله، وكأنها كانت تدرك بقلبها الكبير وحسها البصير، نهايته القريبة، ومصائرأملاكه وجنانه وزروعه:

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [الدخان: ٢٥ – ٢٩].

إن سلوك امرأة فرعون لم يكن أمراً عادياً، وموقفها تجاه ميحطها لم يكن مألوفا، إذ من المعلوم أن المرأة تنشأ في الحلية، وتتطلع إلى الزينة، وتتأثر بزوجها، وتغريها زخارف الحياة ومباهجها. لكن امرأة فرعون آثرت ماعند اللَّه، على ما عند الناس، فاستحقت بجدارة أن تكون مثلاً للذين آمنوا.

-نموذج مريم ابنة عمران:

ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ [التحريم: ١٢].

إنها - مريم ابنة عمران - المثل الثاني الذي ضربه اللَّه للذين آمنوا، والتي أحصنت فرجها، وكانت نموذجا للعفة والصلاح والصديقية والقنوت، فجعلها اللَّه وابنها آية للعالمين، لقد ذكرها القرآن في سورة آل عمران،

وتحدث عن أمها التي نذرت ما في بطنها خالصا لخدمة المعبد الإسرائيلي:

ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭼ [آل عمران: ٣٥ – ٣٧].

لقد نشأت مريم نشأة صالحة، وأنبتها اللَّه نباتا حسنا، في كفالة زكريا،فاستحقت أن يصطفيهااللَّه وأن يطهرها، وأن يصطفيهاعلى نساء العالمين، وقد أخبرتها الملائكة بهذا الاصطفاء، وطلبت إليها أن تزداد قربامن اللَّه با لقنوت والسجود والركوع:

ﭽ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [آل عمران: ٤٢ – ٤٣].

- من المعلوم أن ذكر مريم لم يقتصر على ما جاء في سورة آل عمران، وإنما سمى القرآن سورة باسمها. فهل لك أن تذكر لنا ما أضافته هذه السورة إلى قصتها؟

نعم إن سورة مريم، أشارت إلى المرحلة الثانية من حياتها، التي تلت مرحلة النشأة، إنها المرحلة الصعبة التي واجهت فيها موقفا غير متو قع، فها هي تحتجب عن أهلها متجهة إلى جهة الشرق لشأن من شؤونها:

ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ [مريم: ١٦ – ١٧].

وإذا بالملك جبريل يفجؤها في عزلتها، ويقف أمامها شاخصا، فلا تملك إلا أن تستعيذ بالرحمن منه إن كان تقيا، فكأنها تستثيرقيمة التقوى في نفسه إن كان من أهلها:

ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [مريم: ١٨].

غير أن جبريل u يصارحها بالمهمة التي أوكلها اللَّه إليه:

ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﭼ [مريم: ١٩].

وتتساءل مريم مستنكرة ومستبعدة وقوع ذلك، لعدم وجود أسبابه، فهي ليست امرأة متزوجة، وليست امرأة زا نية، والغلام لا يكون إلامن أحد هذين الطريقين؟

ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﭼ [مريم: ٢٠].

ويأتي الجواب من جبريل u بأن هذا الأمر هين على اللَّه، وأنه سيكون آية للناس ورحمة من اللَّه:

ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ [مريم: ٢١].

لقد قضي الأمر، وتم الحمل، وها هي تسيربه مكاناً بعيداً، وها هي آلام المخاض تلجئها إلى جذع النخلة، وهي تتمنى أنها لوخطفتها يد المنون قبل أن تصل إلى هذا الموقف:

ﭽ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ [مريم: ٢٢ – ٢٣].

غير أن هذ الغلام الذي ولد، يمسح على جراح أمه، ويدعوها إلى عدم الحزن، ويطلب إليها أن تأكل من الرطب الجني، وأن تشرب الماء من السري، وأن تقر عينها بما صارت إليه، كما يدلها على حجتها في مواجهة الناس، بأنها نذرت للرحمن صوماً عن الكلام، وأنه هو الذي سيتولى المرافعة والدفاع عنها:

ﭽ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [مريم: ٢٤ – ٣٣].

لقد برأ اللَّه مريم من قالة السوء، وجعلها رمزا للطهر والعفاف، وأحاطها بواسع كرمه ولطفه.

إنها نموذج للمراة التقية الصديقة، التي أنبتها اللَّه نباتا حسنا، وجعلها وابنها آية للعالمين

-ونموذج يحيى u - الذي أوتي الفهم صبيا - وطلب اليه أن يأخذ الكتاب بجد وقوة:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ [مريم: ١٢].

ونموذج إسماعيل u:

 الذي رفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم، والذي استجاب لأمر اللَّه حينما قال له والده:

ﭽﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﭼ [الصافات: ١٠٢].

ﭽ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭼ [الصافات: ١٠٢].

وهكذا صدق إبراهيم رؤياه وفدى اللَّه إسماعيل بذبح عظيم.. بعد أن استخرج من إبراهيم وإسماعيل التسليم لأمره والرضا بقضائه.

ونموذج مؤمن آل فرعون:

 الذي دعاقومه – أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين -:

ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ

فلم يكن من قومه إلا أن عاجلوه بالقتل. فذهب إلى جنة ربه شهيدا متمنيا أن يعلم قومه ما انتهى إليه أمره من المغفرة والإكرام:

ﭽ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭼ يس: 26 – ٢٧

 نماذج سيئة:

وفي الضفة الأخرى نجد نماذج سيئة أشار إليها القرآن:

 نموذج ابن نوح u:

لقد كان والده حريصا على نجاته من الغرق بالطوفان، فدعاه لركوب سفينة النجاة، ولكن الفتى المغرور:

ﭽ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯩ ﭼ [هود: ٤٣].

 ولكن الوالد المفجوع بولده يقول:

ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ [هود: ٤٣].

 وهنا يضرع نوح إلى ربه بعد أن استحوذت عليه عاطفة الأبوة:

ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭼ [هود: ٤٥].

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ [هود: ٤٦].

يريد بذلك انه ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنني وعدتك بنجاة الصالحين:

ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ [هود: ٤٠].

 فالذين نجوا من أهل نوح u إنما نجوا لصلاحهم، والذين سبق عليهم القول من أهله هم غير الناجين لعدم صلاحهم. ومنهم هذا الشاب الذي وصفه القرآن بأنه:

 «عمل غير صالح» وفي قراءة «عمل غير صالح».

فأين موقف هذاالولد العاق لوالده النبي، الذي يدعوه لنجاته والمحافظة على حياته، من موقف اسماعيل u الذي يدعوه والده لذبحه فيطيع ويقول:

ﭽ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭼ [الصافات: ١٠٢].

نموذج أصحاب الجنة:

ومن النماذج السيئة: نموذج أصحاب الجنة – وهم أبناء وررثوا عن أبيهم الصالح بستانا- وكان أبوهم الصالح يحرص دائما على أن يكون حق الفقراء محفوظا من ثمارهذا البستان – فلننظر كيف تصرف هؤلاء الأبناء في حق الفقراء بعد أن صار البستان إليهم:

ﭽ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [القلم: ١٧ – ٣٣].

لقد أقسم هؤلاء الأبناء أن يقطفوا ثمار بستانهم في الصباح الباكر دون أن يستثنوا للفقراء نصيبهم:

ﭽ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ

لقد بيتوا نيتهم على حرمان الفقراء نصيبهم، وأسلموا عيونهم لنوم واعد بتحقيق أمنيتهم. ولكن ها هي الريح الباردة، تجتاح ثمارهم، فتجعلها كالحة السواد، وربما بدت كالمقطوعة الثمار:

ﭽ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ

وهاهم يستيقظون مبكرين، وينادي بعضهم بعضا بضرورة المضي إلى قطف الثمار:

ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭼ

لقد انطلقوا إلى هدفهم، فرحين بعدم دخول المساكين، وقدرتهم على منعهم حقهم، وهم يتهامسون:

 ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﭼ

فلما وصلوا إلى بستانهم، كانت المفاجأة غير المتوقعة:

إنه ليس بستاننا، إن بستاننا مليء بالثمار. وهذا لاثمار فيه. ويبدوأننا قد ضللنا الطريق وبعد أخذ ورد تأكدوا أنه بستانهم، وأن اللَّه قد حرمهم ثماره:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ

وهنا يحضهم أعدلهم رأيا على تسبيح اللَّه، فتنطلق ألسنتهم بالتسبيح معترفين بالظلم الذي وقع منهم:

ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﭼ [القلم: ٢٨ – ٢٩].

ومع هذالاعتراف، كان لابد لكل واحد منهم من أن يلقي باللائمة على غيره. ثم لا بد لهم جميعا، أن يقروا بطغيانهم وتجاوزهم، آملين أن يبدلهم اللَّه خيراً منها، راغبين إليه آيبين.

ﭽ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [القلم: ٣٠ – ٣٢].

وهكذا يكون الجزاء العادل، حرمانا لمن أرادوا الحرمان لغيرهم في الحياة الدنيا. أما عقوبة الآخرة فهي أشد وأكبر.

ﭽ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [القلم: ٣٣].

نماذج نسائية سيئة:

امرأة نوح وامرأة لوط:

ﭽ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﭼ [التحريم: ١٠ ].

إنهما مثلان للذين كفروا، مقابلان لمثلي الذين آمنوا- امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران-

لقد كانت امرأة نوح، وامرأة لوط، زوجتين لنبيين من أنبياء اللَّه، وكان المفترض أن تكونا منسجمتين مع تعاليم زوجيهما النبيين، و لكنهما خانتا هما في الصلاح. فهما نموذج للنبات السيء في المنبت الحسن

وهكذا نجد نماذج إنسانية متعددة للمؤمنين وغير المؤمنين، للشباب وللكهول في حال القوة وفي حال الضعف، وفي كل حالة من الحالات التي تحتاج البشرية إليها في مسيرتها التاريخية الطويلة...

وهذا غيض من فيض.. وما لم نذكره يقاس على ما ذكرناه..

فليحرص الشباب على النماذج الصالحة..

وليباعدوا بينهم وبين النماذج التي تنكبت سبيل الهدى،وركبت طريق الردى، وآثرت الحياة الدنيا على الحياة الآخرة.

علوم العربية..وتدبر القرآن

_ عرفنا من خلال ما سبق أننا مأمورون بتدبر القرآن، وأن هذا التدبر هو الذي يكشف لنا عن كنوزه وأسراره، والسؤال الذي يطرح نفسه:

 كيف نستعد لتدبر القرآن؟

_ وإجابة على هذا السؤال نقول:

إن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ومن الطبيعي لمن يريد فهم القرآن وتدبر آياته أن يكون على معرفة كافية بالعربية – لغة القرآن - وبدون هذه المعرفة سيكون من الصعوبة بمكان، الوصول إلى الهدف المحدد باكتشاف الذخائر والأسرار..

ومن ثم نجد خلال التاريخ أن كثيراً من المسلمين من غير العرب، حرصواعلى تعلم العربية، ليجيدوا قراءة القرآن، وليفهمواعن اللَّه كلامه.

 بل إن كثيراً من العلماء غير العرب، تفقهوا في العربية، وبرعوا في علومها، حتى إننا نجد كثيراً من أمهات كتب العربية في النحو والبلاغة، كتبها هؤلاء العلماء الأفذاذ، من غير العرب، ذلك أنهم رأوا عظمة القرآن، وأنه لا يمكن لهم أن يتعمقوا في فهم آياته، واكتشاف ينابيعه الثرة بغير العربية، ولم يعتمدوا في ذلك على الترجمة، لأن ترجمة القرآن مستحيلة.. والممكن هو ترجمة بعض معاني القرآن، كما هي في كتب التفسير.

غير أن معاني القرآن ليست محدودة، وإنما هي غزيرة ثرة يكتشفها الإنسان يوما بعد يوم، وجيلاً بعد جيل. ومن هنا كان لا بد من إتقان العربية، ليستطيع المسلم أن يغوص على كنوز القرآن وأسراره..

_ ولكن أنى لنا الوصول إلى المستوى المطلوب في علوم العربية مع صعوبتها؟

_ والجواب على ذلك:

 إن علوم العربية ليست بالصعوبة الكبيرة، وإننا نشاهد الطلبة غير العرب الذين يدرسون في الجامعات العربية، والذين تعلموا العربية في بلادهم، قبل مجيئهم إلى بلاد العرب للدراسة في جامعاتها، نجد هؤلاء الطلبة معظمهم يتفوقون على الطلبة العرب، في علوم العربية وفي قراءة القرآن وتجويده، ذلك أن اللَّه I يقول:

ﭽ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ [القمر: ١٧].

وتيسير القرآن يقتضي تيسير لغته، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. وذلك التيسير يحتاج إلى صحة النية، وصدق التوجه، والمبادرة الجادة في العمل، مع العزم والتصميم. وهنا يسهِّل اللَّه الصعب..

وإنك ترى بأم عينك عجائز المسلمين من غير العرب، كيف تقرأ القرآن بالعربية، مع أنها في كثير من الأحيان لا تجيد قراءة أي كتاب آخر في العربية..

وأذكر أنني كنت مرة في إسلام بول، وقد احتاجت ابنة صاحب البيت الذي كنت أقيم فيه أن أكتب لها دعاءاً بالعربية، فكتبت لها ذلك بالخط العادي - خط الرقعة - وفوجئت بعدم قدرتها على قراءته، وطلبت إلي أن اكتب لها ذلك بخط القرآن، تريد - خط النسخ - لأنه هو الخط الذي اعتادت أن تقرأ به القرآن..

ومما يسهل على طلبتنا دراسة العربية وعلومها، أن يعاد النظر في مناهج التعليم، وطرق التدريس وبخاصة في المراحل الأولى: – الحضانة- الابتدائي – الإعدادي – الثانوي - وأن يحرص على الجانب العملي والمهارات المكتسبة،كما هو الشأن في تعليم اللغات الأخرى.

- ولكن ماهي علوم العربية التي لابد لنا منها لفهم القرآن؟

_ من المعلوم أن اللغة تتكون من حروف وكلمات وجمل، ولابد لنا أن نخص كلاً من الحروف، والكلمات، والجمل بشيء من البيان.

_ ولكن من المعلوم أن الحروف تكوِّن الكلمات، والكلمات تكوِّن الجمل.. وهذا يعني أن الحروف موجودة ضمن الكلمات والجمل. فكيف إذن يمكن إفرادُ الحروفَ بالكلام، على حين هي موجودة في الكلمات والجمل؟

حروف المعاني

-المقصود بالحروف - هنا ليست الحروف المكوِّنة للكلمات والتي تسمى حروف المباني، وإنما الحروف التي تكون روابط بين الكلمات، والتي يسميها علماء النحو بحروف الجر، أو يسمونها «حروف المعاني » ذلك أن هذه الحروف ليست كحروف الهجاء التي تشكل الكلمات، وإنما هي حروف لها معانٍ كثيرةٍ، تؤثر في معنى الكلمة، ومعنى الجملة..وقد ألَّفَ بعضُ العلماء كتباً خاصة في هذه الحروف، كما تكلم علماء العربية عنها في عدد من الكتب الأمهات..

النيابة في الحروف:

والأصل في هذه الحروف أن يكون لكل منها معنى، غير معنى غيره، ولكن التجوز في الاستعمال، جعل بعض العلماء وبخاصة الكوفيين منهم يقولون بإمكانية أن ينوب حرف عن حرف آخر، فيكون بمعناه، فيقولون مثلا:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [الإنسان: ٦].

الباء في «بها » بمعنى «من » أي: يشرب منها عباد اللَّه.

 ويقولون في قوله تعالى:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ [الأنبياء: ٧٧].

 «من القوم»: بمعنى: «على القوم». أي: و نصرناه على القوم..

– وعلى ذلك أمثلة كثيرة -..

أما البصريون من علماء العربية فلا يقولون بنيابة الحروف بعضها عن بعض، لأن ذلك في رأيهم خلاف الأصل، إذ الأصل أن كل حرف ينفرد بمعناه أو معانيه.. ومن ثم فقد ذهبوا في شأن هذه الحروف مذهباً آخر عبروا عنه بـ «التضمين».

التضمين في الأفعال:

و«التضمين» عند البصريين يراد به أن نُضَمِّن فعلاً معنى فعل آخر، ثم نُعدِّيه تعديةَ ذلك الفعل الآخر، وحجتهم في ذلك أن التجوز في الفعل أسهل من التجوز في الحرف.. وهذا يتطلب منا أن نوضح قول البصريين من خلال الأمثلة السابقة:

يقول البصريون في قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [الإنسان: ٦].

 ضَمَّنَّا فعل «يشرب» معنى فعل «يرتوي» وفعل يرتوي يتعدى بالباء بينما فعل «يشرب» يتعدى بنفسه، ولا يتعدى بالباء، لكن لما ضَمَّنَّا فعل «يشرب» معنى فعل «يرتوي» صار بإمكاننا أن نعدي فعل «يشرب» بالباء وذلك لأن الفعلين صارا بمعنى واحد.. فيكون معنى:

 ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ «عينا يرتوي بها عباد اللَّه».

ويقولون في قوله تعالى:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ [الأنبياء: ٧٧].

 ضَمَّنَّا فعل «نصرنا» معنى فعل «نجينا» ولما كان فعل «نجينا» يتعدى بـ«من»، وفعل «نصر» في الأصل لا يتعدى بـ«من» إلا أنه بعد التضمين صار بمعنى فعل «نجينا» فعديناه بـ«من» لأنه صار بنفس المعنى، فيكون بناء على ذلك معنى آية

 ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ: ونجيناه من القوم..

ومثل هذا التجوز في الحروف، أو في الفعل الذي ذهب إليه كل من الكوفيين والبصريين، يوردون عليه الأمثلة والشواهد من الشعر العربي، ولما كان القرآن نزل بلسان عربي مبين، فلم يكن هناك ما يمنع أن يكون فيه من التجوز ما وجد في كلام العرب..

_ وهنا يثور سؤال لا بد من الإجابة عليه:

_ معلوم أن الشعر في الأصل موطن الضرورات، وقد يجوز للشاعر من التجوز ما لا يجوز لغيره.

فهل ينبغي لنا أن نحمل القرآن على مثل هذه التجوزات، علما أنه ليس من الشعر في شيء؟

خصوصية أسلوب القرآن:

لا شك أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وهذا يعني أنه لا يخرج في قواعده وأساليبه على ما عرفته العربية..

 ولكن إلى جانب ذلك فللقرآن العربي خصوصيته، ذلك أنه كلام اللَّه تعالى. ومن هذا الجانب قد يلتزم القرآن في أسلوبه وطريقة بيانه، ما لم يلتزم به الشعراء والكتاب.

 ويمكن أن نمثل لذلك بكلمة «عين» التي ترد بمعنى العين الباصرة، أو ترد بمعنى «عين الماء» والتي تجمع على «عيون»، و«أعين» فيمكن أن نجمع «عين الماء» على «عيون» وعلى «أعين» وكذلك العين الباصرة..

ولكننا نجد القرآن يلتزم جمع «عيون» لعين الماء:

ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ [القمر: ١٢].

ويلتزم جمع «أعين» للعين الباصرة:

ﭽ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭼ [الأعراف: ١٩٥].

وهكذا فللقرآن خصوصيته في استعمال الكلمات، كما له خصوصيته في أسلوبه وطريقة تعبيره، والتي لا يمكن مجاراتها..

المعاني الخفية:

وبناء على ذلك نرى أن أي عدول في التعبير القرآني عن المألوف من ظواهر العربية، إنما هو لمعان خفية جديرة بالاستنباط، وبذل الجهد في الوصول إليها.. ذلك أن الحكمة القرآنية والإعجاز لا يمكن أن يعاملا معاملة الكلام البشري في تَجَوُّزَاتِه وتَجَاوزَاتِهِ...

 ومن هنا يتساءل البعض: إذا قلنا إن الباء في قوله تعالى:

 ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ

بمعنى «من» -على مذهب الكوفيين- فلماذا لم تأت «من» بدلاً منها؟

وإذا كان فعل «يشرب» يُضَمَّن معنى فعل «يرتوي» -على مذهب    البصريين- فلماذا لم يأت فعل «يرتوي» بدلاً من فعل يشرب؟

_ وإذا ما لجأنا إلى فكرة «المعاني الخفية» الجديرة بالاستنباط –   يمكن أن نجد الإجابة على المثالين السابقين كما يلي:

_ يقول تعالى:

ﭽ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [الإنسان: ٥ – ٦].

ويلاحظ أنا وضعنا الآية في سياقها لأن ذلك يساعدنا على الفهم والاستنباط، حيث يخبر اللَّه عن نعيم الأبرار في الجنة، وأنهم يشربون من كأس خمر الجنة، ممزوجة بالكافور. ولكن من أين يؤتى بالكافور لتمزج به الكأس...

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭼ

إن الكافور عين، فعينا- في الآية- بدل من الكافور، والأبرار: هم الذين يفجرون هذه العين، ويمزجون كأس خمر الجنة بكافورها.

وعلى هذا فالباء في قوله: «يشرب بها» تفيد المزج المنصوص عليه بقوله:

ﭽ ﰇ ﰈ ﰉ ﭼ

وذلك كما تقول: شربت الشاي بالحليب، أي ممزوجا به..

 وهذا المعنى الخفي يضيع إذا قلنا بالنيابة في الحروف، أوقلنا بالتضمين في الأفعال، ذلك أن من تمام النعيم للأبرار، أن يضيفوا إلى متعة الشرب، متعة التفجير، ومتعة المزج.. وفي ذلك زيادة تمتع

 كما نجد ذلك في الثمار حيث يضاف إلى متعة الأكل:

ﭽ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯡ ﭼ [الأنعام: ١٤١].

 متعة النظرفي قوله تعالى:

ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ الأنعام: ٩٩

 ومثله متعة القطاف في قوله تعالى:

ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ [الحاقة: ٢٣].

 بحيث يتناولها صاحب الجنة بلا تكلف ولا صعوبة..

_ وفي المثال الثاني يقول اللَّه تعالى عن نوح u:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ [الأنبياء: ٧٧].

 حيث يجعل الكوفيون «من» بمعنى «على».

 ويجعل البصريون فعل «نصرناه» بمعنى فعل «نجيناه».

والبحث عن المعنى الخفي في هذه الآية، يتطلب منا أن نستقريء فعل    «نصر» في القرآن: متى يعدَّى بـ«على»؟ ومتى يعدَّى بـ«من»؟

ولو فعلنا ذلك لتوصلنا إلى النتيجة التالية:

إن القرآن يعدى فعل «نصر» بـ«على» حينما يكون هناك معركة بين المؤمنين و المشركين، ينتصر فيها المؤمنون على المشركين.

ويعدى فعل «نصر» بـ«من» حينما يكون النصر من اللَّه، بلا تدخل من المؤمنين، ونجد مصداق ذلك في قوله تعالى:

ﭽ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮪ ﭼ [محمد: ٤].

ومعلوم أن نوحاً u لم يدخل معركة مع قومه المشركين لينتصرفيها عليهم، وإنما كان يشعر بأنه لو خاض مثل تلك المعركة مع من آمن معه -«و ما آمن معه إلا قليل»- لن تكون له الغلبة ومن ثم جأر بالدعاء إلى اللَّه:

ﭽ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [القمر: ١٠].

أي فانتصر أنت لدينك،

وهكذا كان الطوفان:

ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ [القمر: ١١ - ١٤].

ومثل هذا المعنى الخفي الذي دل عليه استقراء فعل «نصر» في القرآن، لا يهتدى إليه إذا ماقلنا بالنيابة في الحرف، أو التضمين في الفعل.

كثرة معاني الحرف:

_ ولكن هل يمكن أن يكون لحروف المعاني أكثر من معنى؟

_ نعم إن بعض حروف المعاني لها معان كثيرة، فهي تشبه اللفظ المشترك، الذي يحتمل أكثر من معنى. وفي هذه الحالة فإن سياق الكلام هو الذي يساعدنا في تبين معنى الحرف.

_ و هل هناك أمثلة لذلك؟

_ يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [النحل: ٣٢].

ويقول الرسول r:

«لن يدخل أحد الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه. قال: و لا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته».

فهنا نرى تعارضا ظاهريا بين الآية والحديث.

ويزول هذا التعارض إذا ما عرفنا معنى «الباء» في كل من الآية والحديث:

 فالباء في الآية تفيد السببية، فيكون معنى الآية: «ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون».

 بينما الباء في الحديث تفيد العوض، كأن تقول:

«هذه السلعة بعشرة دراهم» تريد بذلك قيمتها وعوضها.

 وهكذا يكون معنى الحديث الشريف:

أن ثواب الجنة لا يعادله العمل الصالح للإنسان، مهما كان هذا العمل. فثواب الجنة أكبر من عمل الإنسان - وإن كان عمل الإنسان شرطا لدخول الجنة - ومن ثم كان هذا الثواب بفضل اللَّه ورحمته، وليس العمل مكافئاً له - و إن كان العمل شرطا لابد منه، لتحصيل هذا الثواب-.

- وهل يمكن أن يكون للحرف الواحد أكثر من معنى في آية واحدة؟

_ نعم يمكن ذلك، ونرى مثالاً لذلك في معنى «الباء» في قوله تعالى في آية الوضوء:

 ﭽ ﭝ ﭞ ﮑ ﭼ [المائدة: ٦].

 حيث اختلف الفقهاء في مقدار الممسوح من الرأس بناء على اختلافهم في معنى «الباء»:

_ فذهب الشافعية إلى أن «الباء» في قوله: «برؤوسكم» تفيد التبعيض،

وعلى هذا فالواجب مسح بعض الرأس.

_ وذهب المالكية إلى أن «الباء» زائدة تفيد التوكيد، ويكون المطلوب مسح الرأس كله، كأنه قال: «وامسحوا رؤوسكم كلها».

_ وذهب الحنفية إلى أن «الباء» تفيد الإلصاق، ويكون المراد إلصاق الأيدي بالرؤوس، وإذا ألصقت اليد بالرأس، فهي تساوي ربع الرأس، ومن هنا قالوا إن الواجب مسح ربع الرأس.

_ ويرى ابن تيمية أن «الباء» في آية الوضوء كالباء في آية التيمم:

ﭽ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮑ ﭼ [المائدة: ٦].

فالباء في التيمم تفيد مسح الوجوه بالصعيد الطيب، والباء في الوضوء تفيد مسح الرؤوس بالماء، ذلك أن المسح قد يكون بمجرد إمرار اليد على الممسوح، من دون تراب أو ماء. لكن مع وجود الباء تفيد أن ثم ما يمسح به، وهو التراب أو الماء.

 وهذا هو سر وجود الباء في آية التيمم والوضوء. فلولم تكن الباء لكان مجرد وضع اليد على الرأس أوالوجه يعتبر مسحا بحسب المعنى اللغوي.

حرفان أشكل معناهما:

_ ولكن هناك آيتان أشكل علي فيهما معنى الباء، وأريد منك أن توضحهما؟

_ الآية الأولى قوله تعالى:

ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ [القصص: ١٠].

 يقول الكوفيون في الآية:إن فعل «تبدي» يتعدى بنفسه، ولا يحتاج أن نعديه بالباء ومن ثم فالباء عندهم زائدة تفيد التوكيد.

ويقول البصريون: إننا نضمن فعل «تبدي» معنى فعل «تصرح» وفعل «تصرح» يتعدى بالباء ولما صار فعل «تبدي» بمعنى «تصرح» فيمكن أن يتعدى بالباء ويكون معنى «لتبدي به» أي: لتصرح به، والضمير في «به» يعود على موسى u.

 وأما المعنى الخفي الذي نلمحه في الآية فيعتمد على أن تكون «الباء» تفيد السببية، و الضمير في «به» يعود على «الفراغ» المستفاد من قوله:

ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ [القصص: ١٠].

 ويكون المعنى: وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي بسبب فراغ فؤادها، ماخفي من شأن موسى لولا أن ربطنا على قلبها.

وهكذا فالربط على القلب هو الذي منع فؤاد أم موسى- الذي أصبح فارغاً من شدة خوفها على ابنها- أن يبدي ما خفي من شأن موسى u.

_ وأما الآية الثانية: فهي قوله تعالى:

ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭼ [الكهف: ٤٥].

الناظر في هذه الآية للوهلة الأولى يقف عند قوله تعالى:

«فاختلط به نبات الأرض» حيث يتساءل: كيف يمكن أن يختلط نبات الأرض بماء المطر، وربما فهم البعض، أن ماء المطر هو الذي يختلط بالنبات، وهو خلاف المعنى الأول، الذي يجعل «نبات الأرض» هو الفاعل.

والذي يحل هذا الإشكال: أن تكون الباء، تفيد السببية ويكون المعنى: فاختلط به أي بسبب نزول المطر نبات الأرض بعضه ببعض، وذلك بعد أن طالت أغصانه، وتشابكت فروعه. فالاختلاط للنبات بعضه ببعض، و ليس كما يتبادر للأذهان، وكما سبقت الإشارة إليه.

حرف «أو»:

_ هناك آيتان في سورة البقرة لم يظهر لي فيهما معنى «أو» و أريد منك توضيح ذلك؟

_ وما هما الآيتان؟

_ الأولى: قوله تعالى:

ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ [البقرة: ١١١].

مع العلم أنه يقول في الآية الأخرى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ [البقرة: ١١٣].

فالآية الأخيرة تفيد أن كلاً  من «اليهود، والنصارى» يصف الفريق الآخر، بأنه ليس على شئ من الحق، فكيف يتفق هذا مع ما ورد في الآية الأولى:

ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ. ﭼ [البقرة: ١١١].

_ وما هي الآية الثانية؟

_الآية الثانية في نفس السورة:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ [البقرة: ١٣٥].

وللإجابة على السؤالين نقول:

إن «أو» في- كلتا الآيتين- تفيد التقسيم، وبذلك يكون معنى الآية الأولى:

ﭽ ﯧ ﭼ - اليهود و النصارى-: ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ

 أي كلا الفريقين قال كذلك، و تفصيل ذلك:

_ وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً.

 _ وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى.

وهذا معنى أن «أو» تفيد التقسيم.أي: هذا الكلام الذي جاء جامعاً «لليهود و النصارى» يقسم على الفريقين، ويقدر الكلام - كما تقدم - ولا يمكن أن يكون الكلام قاله الفريقان معاً، لأن كل واحد منهما يقول بأن الآخر ليس على شئ من الحق.

و كذلك يكون معنى الآية الثانية:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭼ [البقرة: ١٣٥].

تقدير الكلام -على التقسيم -:

وقالت اليهود كونواهودا تهتدوا. وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا.

والحقيقة أن الهداية ليست عند هؤلاء، ولاعند هؤلاء. وإنما هي في ملة إبراهيم.

ﭽ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ [البقرة: ١٣٥].

_ وما دلالة «أو» في قولة تعالى من سورة يونس:

ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭼ [يونس: ٢٤].

فقد قال في هذه الآية:

ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ

واللَّه ولا شك يعلم بأنها ستأتي إما في الليل، وإما في النهار. فلماذا عبر بـ« أو» التى لا تفيد الجزم بأحد الأمرين؟

_ والجواب على ذلك:

لما كانت الأرض كروية نصفها مظلم، ونصفها منير. ففي الوقت الذي يجئ الأمر الإلهي في نصفها الأول نهاراً، يكون في نصفها الثاني ليلاً.

 فلو حدد أحدهما، لقال أصحاب القسم الآخر: لم يأتنا الأمر كما أخبر بل بخلاف ما أخبر.

 وهكذا فإن «أو» هنا تفيد التقسيم أي: أتاها أمرنا على أحد نصفيها ليلاً وعلى نصفها الآخر نهاراً.

مفردات القرآن:

_ عرفنا شيئا هاماً عن حروف المعاني وأهميتها وأثرها في فهم القرآن، ولكن ماذا تعني بضرورة فهم معاني الكلمات؟

_ الكلمات نريد بها هنا الأسماء والأفعال، ولا شك أيضاً بأن الخطوة الأولى لفهم معنى الجملة، هو فهم معنى المفردات التى تتألف منها.

وهذا يقتضينا أن نخص كلاً من الأسماء والأفعال بفقرة خاصة:

_ يرى بعض علماء العربية أن ميزة اللغة العربية في ثروتها الكبيرة من المفردات المترادفة، بحيث يستطيع الإنسان أن يستبدل الكلمة الواحدة بكثير من مترادفاتها، دون أن يؤثر ذلك في معنى الجملة، وهو ما يعطي المتكلم حرية أكبر في اختيار الكلمة التى يريدها.

_ بينما يرى فريق آخر من علماء اللغة المحققين أن الترادف بمعنى التوافق الكامل في المعنى غير موجود في العربية، وأن كل مايظن فيه الترادف، فهو محمول على التجوز و التقريب

أما التحقيق فهو أن الكلمتين المترادفتين تشتركان في جزء من المعنى وتختلفان في جزء آخر. فالذين ينظرون إلى الجزء المشترك هم القائلون بالترادف، والذين ينظرون إلى الجزء المختلف هم القائلون بالفروق اللغوية بين المترادفات....

والقضية كانت موضع أخذ ورد في دراسات السابقين....

ولعل رأى القائلين بالفروق بين المترادفات والذين ينفون الترادف الكامل إالا في حالة كون المترادفتين تعودان إلى قبيلتين مختلفتين - هو الرأى الذي نميل إليه وهوالأقرب إلى الصحة والدقة -.

- ولكن هل ينطبق هذا على القرآن؟

- هذا في العربية على العموم.

 وأما في القرآن، فإن ابن تيمية ‘، يرى أن الترادف في القرآن إما نادر وإما معدوم

الراغب يقول بالفروق:

كذلك نرى الراغب الأصفهاني صاحب كتاب «المفردات في غريب القرآن» يتبنى هذا الاتجاه، وربما عرض في كتابه لبيان الفروق بين الكلمات في بعض الأحيان..ولم يفعل ذلك في كل كلمة عرض لها، لأنه كان ينوي تأليف كتاب آخر يخصه بهذه الظاهرة، كما أشار إلى ذلك

في مقدمة كتابه «المفردات» حيث قال:

«وأتبع هذا الكتاب إن شاء اللَّه تعالى ونسأ في الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذكره:

«القلب» مرة، و«الفؤاد» مرة، و«الصدر» مرة.

ونحو ذكره تعالى في عقب قصة:

 «إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون».

وفي أخرى«لقوم يتفكرون».

 وفي أخرى «لقوم يعلمون »

 وفي أخرى «لقوم يفقهون»

وفي أخرى «لأولي الأبصار»

 وفي أخرى «لذي حجر»

 وفي أخرى «لأولي النهي»

ونحو ذلك....

مما يعده من لا يحق الحق و يبطل الباطل أنه باب واحد،

 فيقدر أنه إذا فسر: «الحمدللَّه »: بالشكرللَّه.

و«لاريب فيه »: بلا شك فيه.

 فقد فسر القرآن، ووفاه التبيان...»

C:\Users\zizan\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image001.png- ولكن هل وصلنا هذا الكتاب الهام؟

_ من المعلوم حتى الآن أن هذا الكتاب لم يصل إلينا..غير أن الراغب عرض لبعض هذه المفردات في ثنايا كتبه الأخرى، كما نجد ذلك في كتاب:

«الذريعة إلى مكارم الشريعة»

وكتاب:

 «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين».

 وكتاب:

«الاعتقادات»

 وتفسيره المخطوط.

 ويمكن أن نقتطف بعض النماذج من كتابه «الذريعة»، وتفسيره المخطوط، إذا رغبت في ذلك.

حسناً. ماذا يقول الراغب في كتاب «الذريعة»؟

نموذج من كتاب الذريعة:

يفرق الراغب في كتاب «الذريعة» بين «العقل»، و«النهى»، و«الحجر»، و«الحجا»، و«اللب» فيقول:

_ العقل:...... - في اللغة-: هو عبارة عن «قيد البعير لئلا يند » , وسمي هذا الجوهربه تشبيهاً على عادتهم في استعارة أسماء المحسوسات للمعقولات.. لكن يتصور من كونه سبباً لتقييد الإنسان به، وكونه مقيداً عن تعاطي ما لا يجمل، وكونه مقيداً به من بين الحيوان.

_ والنهي – في الأصل -: جمع «نهية» وجعل اسماً للعقل الذي انتهى من المحسوسات إلى معرفة ما فيه من المعقولات، ولهذا أحيل أربابه على تدبر معاني المحسوسات في نحو قوله تعالى:

ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [طه: ١٢٨].

 وقال:

ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼ [طه: ٥٣ – ٥٤].

 _ و«الحجر»: أصله من الحجر، أي المنع، وهذا اسم لما يمنع الإنسان من حظر الشرع والدخول في أحكامه. وعلى ذلك قوله تعالى:

ﭽ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ [الفجر: ٥].

_ و«الحجا » سمي «حجا» من «حجاه»: أي: قطعه، ومنه «الأحجية» فكأنه سمي بذلك لكونه قاطعاً للإنسان عما يقبح.

_ وأما «اللب»: فهو الذي قد خلص من عوارض الشبه، وترشح لاستفادة الحقائق من دون الفزع إلى الحواس، ولذلك علق اللَّه تعالى في كل موضع ذكره بحقائق المعقولات دون الأمور المحسوسة، نحو قوله تعالى:

ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [آل عمران: ١٩٠].

 فوصفهم بهداية اللَّه إياهم».

وهكذا نرى اختلاف أسماء العقل باختلاف منازله، وارتباط ذلك كله بمعان دقيقة دل عليها التدبر الواعي للآيات التي وردت فيها الأسماء المتعددة، مما يجعل كلا منها مختصاً بمعنى دون غيره.

-حقاً إن هذا الكلام الذي ذكره الراغب في كتاب «الذريعة » يكتب بماء الذهب.. فهل لك أن تذكر لنا شيئاً أيضاً من تفسيره المخطوط لنطلع على بعض الدقائق والأسرار المتصلة بالفروق بين ما يظن أنه من المترادف؟

نماذج من تفسير الراغب:

_ نعم سنقتطف بعض الفقرات من تفسير الراغب المخطوط:

يقول الراغب الأصفهاني عند تفسيره لقوله تعالى:

ﭽ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ [البقرة: ٣٤].

 «الخضوع»، و«الخشوع»، و«الخنوع»، و«السجود»، و«الركوع»: تتقارب وبينها فروق:

فالخضوع: ضراعة بالقلب.

 والخشوع: بالجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى:

ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ [طه: ١٠٨].

والخنوع: ضراعة لمن دونه، طمعاً لعرض في يده. ولذلك أكثر ما يجيء في الذم.

والركوع: تذلل مع التطأطؤ.

 والسجود: مع خفض الرأس».

وهكذا يبدأ تفسير الآية ببيان الفروق بين ما يظن أنه من قبيل الترادف على المعنى الواحد، فيبين اختصاص كل كلمة بمعنى تفترق به عن غيرها، وإن كانت هذه الكلمات كلها تشترك في جزء من المعنى أيضاً، وهو ما عبر عنه بالتقارب.

- لا شك بأن كلام الراغب _ هذا في غاية النفاسة. فهل لك أن تزيدنا نماذج أخرى من هذا التفسير المخطوط الذي لم يطلع عليه كثير من الناس؟

_ حباً وكرامة، و لننظر في هذه النماذج:

_ يقول الراغب عند قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ [البقرة: ٣٨].

«المجيء»، و«الإتيان»، و«الإقبال» متقاربة:

 «غير أن «المجيء» عام.

 و«الإقبال»: مجيء من ناحية القبل.

 و«الإتيان»: مجيء من بعد. ومنه قيل «الأتي» للغريب، وللسيل الجائي من بعيد». و«آتيته» أي: أعطيته – منقول عن أتيته وأتوته – وهما لغتان -.

ثم يقول الراغب:

و«الإتباع»، و«الإتلاء»، و«الاحتذاء»، و«الاقتداء»، تتقارب:

فالإتلاء: مجيء بعد آخر- بلا فاصل بينهما من جنسهما -.

والاحتذاء: منقول من «حذوالنعل بالنعل».

C:\Users\zizan\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image002.pngوالاقتداء: اتباع على قدر، أي: على قدر المتبع، بلا تجاوز ولاتأخر.

والاتباع: عام في كل ذلك، ومنه قيل: لـ«الرعية»: أتباع، وسمي

«العجل» التابع لأمه «تبيعاً».

ثم يقول الراغب:

و«الخوف»، و«الفزع»، و«الحذر»، و«الرهبة»، و«الهيبة»، و«الخشية»، و«الوجل»، و«الشفقة» تتقارب:

فـ «الخوف»: توقع مكروه عن أمارة، وذلك للمذنب، ولهذا قال أمير المؤمنين:

«لا يخافن امرؤ إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه».

و «الفزع»: اضطراب عن وهم، كمن سمع هدة فاضطرب.

و «الحذر»: خوف مع احتراز.

و «الهيبة»: رهبة مع استشعار تعظيم.

و«الشفقة»: خوف مع محبة.

ولذلك قيل: الخوف والحذر للمذنب. والرهبة للعابد. والخشية للعالم. والهيبة

للعارف..

وهكذا نرى مدى اهتمام الراغب في بيان الفروق في تفسيره، بين ما يظن أنه من المترادف، وأنه إذا انتهى من كلمة في بيان الفروق بين مترادفاتها، انتقل إلى كلمة أخرى..

 والراغب بصنيعه هذا متميز عن كل من تقدمه ومن جاء بعده. وهو بذلك يقدم لنا ثروة غنية في هذا الجانب الذي يجعل فهمنا للغة أدق، وهو بذلك يرشحنا لإدراك أسرار التعبير في الكتاب المعجز، ويجعلنا قادرين على تذوق بلاغته وسحر بيانه، واكتشاف ما انطوت عليه حروفه وكلماته من خبيء المعاني ومكنونات المعارف والعلوم.

ولكتاب الراغب خصائص وميزات أخرى عرضنا لها في بحثنا:

«معاجم مفردات القرآن: موازنات ومقترحات»

 يحسن الرجوع إليها.

- وهل يكفي كتاب الراغب لمعرفة معاني المفردات القرآنية؟

_ ذكرنا فيما سبق أهمية الكتاب، ويعتبر معظم الذين كتبوا في مفردات القرآن بعد الراغب عالة عليه، حيث أفرغوا معظم ما احتواه كتابه في كتبهم، ونذكر على سبيل المثال: السمين الحلبي في كتابه:

 «عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ»،

 وكذلك الفيروز أبادي في كتابه المسمى:

 «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز»

 حيث بدأ بتفسير المفردات القرآنية اً من أول الجزء الثاني وانتهى بنهاية المجلد الخامس »

- وهل يمكن أن نجد كتباً أخرى مهمة في هذا الباب؟

مفردات القرآن للفراهي:

_ نعم يعتبر كتاب:

 «مفردات القرآن»

 للعلامة عبد الحميد الفراهي الهندي، من الكتب الهامة في هذا الشأن، غير أن هذا الكتاب لم يذكر فيه المؤلف من الألفاظ إلا ما يقتضى بياناً وإيضاحاً: إما لبناء فهم الكلام عليه، أو لاقتضاء نظمه..

 وأما عامة الكلمات فلم يتعرض لها. وكتب اللغة والأدب كفيلة بها.

_ لقد شوقتنا إلى معرفة شيء عن كتاب الفراهي هذا. فهل من الممكن أن تزيدنا تعريفاً به؟

_ نعم يقول الفراهي في إحدى مقدماته لهذا الكتاب:

_ معرفة الألفاظ المفردة هي الخطوة الأولى في فهم الكلام. وبعض الجهل بالجزء يفضي إلى زيادة جهل بالمجموع.

_ من لم يتبين معنى الألفاظ المفردة من القرآن أغلق عليه باب التدبر، وأشكل عليه فهم الجملة، وخفي عليه نظم الآيات والسورة.

_ سوء فهم معنى الكلمة يؤدي إلى إساءة فهم الكلام وما يدل عليه من العلوم والحكم. وربما يؤدي الخطأ في معنى كلمة واحدة إلى الخطأ في تأويل السورة بأسرها...

- هل يمكن أن تذكر لنا نموذجاً واحداً مما جاء في كتاب الفراهي هذا؟

نموذج من كتاب الفراهي:

يقول الفراهي في مادة:

 «صغو»:

في جميع الألسنة – ولا سيما في لغة العرب – ألفاظ خاصة، لأفراد خاصة تحت معنى كلي. والذهول عن هذه الخصوصيات مبعد عن فهم اللسان.

مثلاً: الميل: معنى كلي. ثم تحته:

 الزيغ، والجور، والارعواء، والحيادة، والتنحي، والانحراف. كلها للميل عن الشيء.

والفيء، والتوبة، والالتفات، والصغو. كلها للميل إلى الشيء.

 فمن خبط بينهما ضل وأضل.

 فلا يخفى على العالم بلسان العرب أن «الصغو » هو: الميل إلى الشيء لا عن الشيء. ومنه صاغية الرجل لأتباعه. وصغوه معك، أي: ميله. وأصغيت إلى فلان: أي: ملت بسمعك نحوه...».

 وإنما عرض الفراهي للتفصيل الدقيق في هذه الكلمة نظراً لما سلكه أصحاب الأهواء في تحريفهم لمعنى هذه الكلمة في قوله تعالى في شأن عائشة وحفصة:

ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﭼ [التحريم: ٤].

أي: مالت نحو التوبة، لأن ذلك هو المنتظر منكما.

 وليس المراد: فقد انحرفت قلوبكما عن التوبة... وشتان شتان بين الميل إلى الشيء، والميل عن الشيء.

استعمالات الفعل:

C:\Users\zizan\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image003.png- بعد أن عرفنا شيئاً هاماً عن ضرورة علم معاني المفردات لفهم القرآن. نريد أن نعرف شيئاً عما وعدتنا به من الحديث عن الأفعال؟

_ من المعلوم أن الفعل الماضي يستعمل للإخبار عما سبق.

 والفعل المضارع يستعمل للحاضر، وقد يستعمل للمستقبل إذا ما دخلت عليه السين أو سوف.

والأمر لطلب الفعل بعد الأمر «المستقبل »

غيرأننا نجد في أسلوب القرآن استعمال الفعل الماضي ليس دائماً للحدث السابق، بل ربما يكون للمستقبل، كما نجد ذلك في قوله تعالى:

ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [النحل: ١].

والمعنى: سيأتي، بدليل قوله «فلا تستعجلوه».

 وكما في قوله تعالى:

ﭽ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭼ [الفجر: ٢٢ – ٢٣].

والمعنى سيجيء لأن الحديث عما يجري يوم القيامة.

 وإنما يستعمل الماضي في الإخبار عن المستقبل لتحقق الوقوع، وتأكيد الحدوث، حتى كأن هذا الشيء قد حدث فعلاً، وأصبح أمراً ماضياً.

وقد يستعمل القرآن الفعل المضارع للحديث عن حدث سابق، كما في قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ [البقرة: ١٢٧].

 ومعلوم أن قصة بناء البيت ورفع قواعده، إنما هو أمر ماض، ولكن القرآن يعرضه بأسلوب الفعل المضارع لكي يستحضر لنا صورة الحدث السابق حتى كأنه يعرض أمامنا الآن، ومن ثَمَّ لا يقول عن إبراهيم وإسماعيل – يقولان ربنا – وإنما يحذف هذا الفعل - لأننا نشاهد إبراهيم وإسماعيل مع رفعهما القواعد يرفعان أكفهما بهذا الدعاء..

معاني الصيغ:

- وهل للصيغ الصرفية المتعددة أثر في فهم القرآن وتفسيره؟

_ لا شك بأن لكل صيغة من الصيغ الصرفية معنىً يخصها، ومعرفة هذا المعنى تسهم إلى حد كبير في جلاء المعنى، وتكشف عن سر استعمالها له دون غيره.

- هل لك أن تذكر لنا بعض النماذج والأمثلة؟

-إن صيغة «فعَّال » تفيد تكرار الفعل، ومن ثم نجد أسماء الحرف على هذه الصيغة »:

نجَّار»، «حدَّاد»، «زجَّاج»، «خبَّاز»... وذلك لأن صاحب المهنة يكرر الفعل باستمرار..

 ونجد صيغة «فَعُول» تفيد القوة على الفعل...

 وصيغة «فِعْلَة» تفيد هيأة الفعل

 وصيغة «فَعْلَة» تفيد المرة الواحدة.

 وصيغة «فَعِيل» تفيد الصفة المشبهة باسم الفاعل كـ «عليم» بمعنى عالم.

 أو باسم المفعول كـ«جريح» بمعنى مجروح.

_ لكننا نرى في بعض الأحيان أن اسم الفاعل قد يرد بمعنى اسم المفعول، وأن اسم المفعول قد يرد بمعنى اسم الفاعل، فكيف يسوغ مثل هذا؟ وأَلاَ يؤدي ذلك إلى الالتباس؟

_ الأصل أن تستعمل كل صيغة فيما وضعت له، والذين أجازوا أن تأتي صيغة بمعنى صيغة أخرى، لم يجيزوا ذلك على الإطلاق، وإنما أجازوا ذلك في حالتي المدح والذم، فهو مقصور الاستعمال عليهما.

 فحينما نقول في قوله تعالى:

ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ [الحاقة: ٢١].

 إن «راضية» بمعنى مرضية، نجد هذا في حالة المدح.

وحينما يقول الشاعر:

 دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.

يريد بذلك «المُطْعَم المَكْسُو»

 والقصيدة للحطيئة في هجاًء الزبرقان بن بدر، ولا يمكن بذلك أن يحصل الالتباس بدليل الشطر الأول الذي يشير إلى الهجاء:

 «دع المكارم لا ترحل لبغيتها»

 ولو حملنا اسم الفاعل «الطاعم الكاسي» على أصل معناه «اسم الفاعل» لكان ذلك مُنَاقِضاً لما أراده الشاعر بالشطر الأول من البيت.

- وهل لكل الأبنية الصرفية معان خاصة بها؟

- لا شك عندي في ذلك.. وأعتقد أن هذا الموضوع لم يعط في تراثنا ما هو جدير به من العناية، ذلك أن ما وردنا في هذا الاتجاه، كان منثوراً في كتب العربية المتعددة، وقد جمع منه زميلنا الأستاذ الدكتور فاضل السامرائي كمية لا بأس بها، وقد أخبرني أنه سيضيف إليها ما عثر عليه من جديد في طبعته القادمة لكتابه: «معاني الأبنية».

- وهل هناك طريقة أخرى لاكتشاف شيء من معاني هذه الصيغ؟

- إن التأمل والتدبر في الآيات القرآنية، التي وردت فيها هذه الصيغ ومراعاة سباقها وسياقها، يمكن أن يوصلنا إلى بعض المعاني الجديدة – على الأقل في استعمال القرآن -.

- هل هناك مثال واحد لما تقول؟

- سبق لي أن نشرت بحثاً عن «الخلافة» ولفت انتباهي جمع «خلائف» و«خلفاء» وتساءلت عن سر مجيء «خلائف» في بعض الآيات، و«خلفاء» في بعض الآيات الأخرى، وبعد قراءة الآيات التي ورد فيها الجمعان رأيت: - أن القرآن يستعمل صيغة « خلائف» للقوم الذين خلفوا قوماً أهلكهم اللَّه بذنوبهم.

- ويستعمل صيغة «خلفاء» للقوم الذين خلفوا قوماً صالحين..

وهذا يقتضي من الخلائف أن يخالفوا من سبقهم، ويقتضي من الخلفاء أن يقتدوا بمن سبقهم.. ولهذا نقول «خلفاء النبي» ولا نقول «خلائف النبي».

- سمعت مرة أن المصدر ربما يأتي بمعنى اسم المفعول أو بمعنى اسم الفاعل، فهل هذا صحيح؟ وهل هناك مثال على ذلك؟

- نعم يأتي المصدر بمعنى اسم المفعول كما يأتي بمعنى اسم الفاعل وإليك المثال: يقول اللَّه تعالى في سورة الروم:

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ [الروم: ٢ – ٥].

معلوم أن هذه الآية نزلت بمناسبة انتصار الفرس المجوس على الروم الكتابيين، وأن هذا الانتصار أفرح مشركي العرب، باعتباره مقدمة لانتصارهم على المسلمين، ذلك أن مشركي العرب أقرب إلى الفرس كما أن أهل الكتاب من الروم أقرب إلى المسلمين.. وكان العرب يلهجون بذلك، ويظهرون فرحهم على المؤمنين بهذا الانتصار..

ولكن هذه الآية تبشر المؤمنين بأن المعركة القادمة بين الفرس والروم ستكون للروم على الفرس، وتجعل ذلك في بضع سنين.. وقد تحقق هذا الانتصار ووافق انتصار المسلمين في بدر، وبذلك فرح المؤمنون بنصر اللَّه.

- ولكن لم تحدثنا عن المصدر في الآية الذي جاء بمعنى اسم المفعول، أو اسم الفاعل؟

- المصدر هو قوله تعالى: «غَلَبِهم» فالغَلَب مصدر غلب يغلب غلباً، وقد قرئت الآيتان بقراءتين على معنيين:

- الأولى: غُلبت الرومُ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم – أي: مغلوبيتهم- فالمصدر هنا بمعنى اسم المفعول- سَيَغلِبُون – سيغلبون الفرس في المستقبل..وقد كان ذلك على ما تقدم. - الثانية: غَلَبت الروم في أدنى الأرض – أي غلبت الروم الفرس في أدنى الأرض- وهم من بعد غلبهم – أي من بعد غالبيتهم للفرس- سيُغْلبون- في المستقبل أمام المسلمين.. وهذا قد حصل أيضاً.

وهكذا تبين أن المصدر يكون بمعنى اسم المفعول – كما يكون بمعنى اسم الفاعل.

علم الإعراب:

- بعد أن عرفنا أثر معاني المفردات في فهم القرآن، نريد أن نعرف شيئاً عن الجمل المكونة من تلك المفردات؟

- المفردات ضمن الجمل يحكمها ما يسمى «علم النحو» أو علم الإعراب. ذلك أن «الإعراب» في اللغة يعني:

الأبانة، والمراد به في اصطلاح النحويين: «التغير الذي يلحق أواخر الكلمات من رفع ونصب وجر وجزم

 بينما يطلق مصطلح«الصرف» على التغير الذي يكون في بنية الكلمة،

 وكلا النوعين من التغير يؤثر في معنى الجملة.

 أما الحروف والكلمات التي تلازم حالة واحدة لا يعتريها التغيير، فهي تسمى في اصطلاح النحويين «البناء» في مقابل «الإعراب» أو نقول «المبني» مقابل «المعرب».

وإنما سمي «الإعراب» إعراباً، لأنه عن طريقه يتبين معنى الكلام، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى دراسة هذا العلم كمقدمة لابد منها لفهم القرآن خاصة، ولفهم الكلام العربي عامة.

- هل لك أن توضح لنا معنى الكلام السابق عن طريق النماذج والأمثلة؟

-لاشك بأن النماذج خير ما يوضح المراد، ومن ثم يمكن لنا أن نذكر فيما يلي بعض هذه النماذج:

- قوله تعالى:

ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ [فاطر: ٢٨].

هذه الآية جاء فيها لفظ الجلالة منصوباً باعتباره مفعولاً مقدماً، وجاء لفظ «العلماء» مرفوعاً باعتباره فاعلاً مؤخراً، ومعنى الآية:

 إن العلماء من العباد هم الذين يخشون اللَّه.

 ولوعكسنا الأمر فجعلنا لفظ الجلالة فاعلاً مرفوعاً، والعلماء مفعولاً منصوباً، نكون بذلك عكسنا المعنى، وأصبح المراد بالآية:

 إن اللَّه يخشى من عباده العلماء.. وهذا المعنى لا يصح بحسب ظاهر الكلام، غير أن هناك قراءة على هذا الوجه كان يقرأ بها بعض العلماء منهم أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز. وتوجيه هذه القراءة من حيث المعنى كما يلي:

إن معنى «الخشية» – كما يذكرها الراغب الأصفهاني في مفرداته -: خوف مشوب بتعظيم، وليس مجرد الخوف – كما يتبادر إلى الأذهان – ويرى الراغب أن كل كلمة معناها مكون من معنيين يجوز أن تستعمل في أحدهما، وضرب لذلك مثلاً بكلمة «المائدة»: للخوان، وللطعام،

وبكلمة «القُرء» والذي هو في الحقيقة: اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً جامعاً للأمرين: - الطهر والحيض المتعقب له – أطلق على كل واحد منهما، وليس القرء اسماً للطهر مجرداً، ولا للحيض مجرداً، بدلالة أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها ذلك...

 ومثل ذلك كلمة «القرية»: حيث تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس جميعاً.

وبناء على ما تقدم في معنى «الخشية»- وأنها خوف مشوب بتعظيم، وأنه يجوز أن تستعمل في أحد المعنيين -يكون معنى «الخشية المضافة إلى اللَّه» إنما يراد بها تعظيم العلماء وبيان مكانتهم، كما قال في آية أخرى:

ﭽ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭼ [المجادلة: ١١].

وعلى هذه القراءة فليست هي من الخوف في شيء.. وبذلك يستقيم معنى هذه القراءة على هذا التوجيه.

- ولكن ما الفائدة من تقديم المفعول – لفظ الجلالة – وتأخير الفاعل – العلماء – على القراءة الأولى -؟

- إن تقديم المفعول يفيد الاختصاص، فكأن العلماء هم المختصون بخشية اللَّه دون غيرهم من العباد، وهذا كما نقول

ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭼ [الفاتحة: ٥].

 والمعنى: لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.

- والبحث في التقديم والتأخير وما يترتب عليهما من المعاني يقودنا للحديث عن علم البلاغة والأساليب..

الإعجاز في النظم والترتيب:

- يبدو أن الحديث في الترتيب والأساليب شيق ومفيد فهل يمكن أن توضح لنا ذلك؟

_ يرى عبد القاهر الجرجاني – صاحب نظرية النظم – أن إعجاز القرآن في نظمه، وترتيب الكلمات في جملها، وأن كل تغير في الترتيب من تقديم وتأخير يترتب عليه اختلاف في المعنى..

ويرى عبد الحميد الفراهي أن الترتيب هو سر الإعجاز في كل شيء، في القرآن وفي الكون، إذ من المعلوم أن كل ما في الكون مكون من عناصر معلومة تسمى «المادة» وما زال الإنسان يكتشف هذه العناصر، وترتيب هذه العناصر، وكثافتها، هي التي تحدد نوع الكائن والمخلوق.

 وكذلك الكلام، فإنه يتكون من حروف وكلمات، وترتيب هذه الكلمات في جملها، هو الذي يميز كلاماً من كلام، فيجعل هذا بليغاً مؤثراً، وذلك ساقطاً قبيحاً..

 ومن هنا تظهر أهمية البيان التي جعلها القرآن ميزة الإنسان «علمه البيان»، ومن هنا يرى الراغب الأصفهاني، أن الإنسان كلما كان أكثر بياناً كان أكثر إنسانية..

- هذا كلام جميل لكن يحتاج إلى توضيح بالمثال؟

- يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﰃ ﭼ [الأنعام: ١٥١].

_ ويقول في آية أخرى:

ﭽ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ [الإسراء: ٣١].

فلو نظرت إلى الآية الأولى لرأيت أن الإملاق «الفقر» متحقق في الحال عند الآباء، وهو ما يمكن أن يدعو إلى قتل الأولاد بسبب فقر آبائهم، ومن ثم فقد قدّم الآباء على الأبناء في ضمان الرزق حتى لا يلجؤوا إلى قتل أبنائهم.

وفي الآية الثانية نرى أن «الإملاق» غير متحقق في الحال، ولكنه مخشي وقوعه في المستقبل بسبب حاجة الأبناء إلى الإنفاق، ومن هنا فقد قدّم الضمان لرزق الأبناء على رزق الآباء إشعاراً للآباء بأن الإملاق لن يكون بسبب الإنفاق على الأولاد، وبالتالي فلا يجوز اللجوء إلى قتل الأبناء خشية الإملاق.

وهكذا ترى كيف اختلفت المعاني باختلاف الترتيب.

أساليب القرآن:

- ذكرت فيما سبق «الأساليب » فماذا تريد بذلك؟

- ما ذكرناه من التقديم والتأخير، هو أسلوب من أساليب العربية، وأسلوب من أساليب القرآن.

_ وهناك أساليب كثيرة مثل «أسلوب الاستفهام» «أسلوب الحذف والذكر» «أسلوب الالتفات» «أسلوب التكرار» «أسلوب القصة» «أسلوب المثل» إلى غير ذلك من الأساليب الكثيرة التي لابد من الاطلاع عليها، لفهم أساليب القرآن في بيانه وإعجازه..

أسلوب الاستفهام:

- هل يمكن أن تبين لنا المراد بأسلوب الاستفهام مثلاً؟

- الاستفهام: هو طلب الفهم. وطلب الفهم في الأصل: إنما يكون لمن لا يعلم فيستفهم، و مثل هذا الأمر لا يجوز على اللَّه تعالى العالم بكل شيء.

- فلماذا إذن جاء الاستفهام في القرآن، وما فائدة مثل هذا الأسلوب؟

- والجواب على ذلك: إن الاستفهام الوارد في القرآن، قد يخرج عن معنى الاستفهام إلى معان أخر تستفاد من سياق الكلام..

وإليك بعض الأمثلة من الآيات التي جاء فيها أسلوب الاستفهام:

- يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ [التين: ٧ – ٨].

واللَّه يعلم ولا شك أنه هو أحكم الحاكمين. ومعنى هذا الاستفهام هو التقرير، أي أراد أن يقرر هذه الحقيقة بأنه أحكم الحاكمين.

- ولكن التقرير ممكن دون الحاجة إلى أسلوب الاستفهام، فما فائدة هذا الأسلوب إذن؟

- فائدته أنه يريد أن يشرك السامع في الإجابة فيقر ويعترف بالحقيقة لتقوم عليه الحجة.

- ويقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭼ [إبراهيم: ١٠].

وجواب هذا الاستفهام هو النفي: أي: ليس في اللَّه شك. إذن هو استفهام يراد به النفي.. أي يراد من المخاطب أن يشارك في النفي.

- ويقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ [ص: ٥].

 فقد خرج الاستفهام هنا عن معناه إلى معنى التعجب بدليل قوله

«إن هذا لشيء عجاب»

 فالمشركون يتعجبون من دعوة النبي r إلى الوحدانية.

_ تكفي هذه الأمثلة لأسلوب الاستفهام.

-ولكن ما المراد بأسلوب الحذف؟

أسلوب الحذف:

المعروف أن البلاغة في الإيجاز، والإيجاز نوعان: إيجاز قِصَر، وإيجاز حذف.

فإيجاز القِصَر: تقليل الكلام بدون حذف كما في قوله تعالى:

ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ [البقرة: ١٧٩].

وإيجاز الحذف: تقليل الكلام بحذف جزء منه، يمكن فهمه من الكلام المذكور، ومن ثم إذا لم يكن في الكلام المذكور دلالة على الكلام المحذوف، لا يجوز الحذف حينئذ لأنه يؤدي إلى الالتباس.

- هل لك أن تبين لنا ذلك بالمثال؟

- يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﭼ [الأنفال: ٥٨].

- هذه الآية حذف منها جمل، ولكن كلمة «خيانة» المذكورة فيها تدل على أن هناك عهداً خانه القوم.

- وهم بنو قريظة من اليهود حينما نقضوا عهدهم مع النبي r في غزوة الخندق -..

وتقدير الكلام المحذوف في الآية كما يلي:

- «وإما تخافن من قوم – بينك وبينهم عهد- خيانة –لهذا العهد – فانبذ إليهم – عهدهم وأعلمهم أنك نبذت العهد معهم لتكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد - سواء.

_ ومثل ذلك حذف جواب «لو» في كثير من الآيات القرآنية، كقوله تعالى:

ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ [الرعد: ٣١].

والجواب: لكان هذا القرآن..

_ وأحياناً يحذف الجواب ليذهب الخيال فيه كل مذهب كما في قوله تعالى:

ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ [الزمر: ٧٣].

والجواب المحذوف: أي: وجدوا من النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وهذا النوع من الحذف يجعله ابن جني من شجاعة العربية. لأنها تمتاز به على بقية اللغات.

 ويصفه الفراهي بأنه أشبه بالقفز والوثب، ومن ثم يصف العربية بأنها لغة القفزوالوثب، على حين يصف اللغات الأخرى بأنها لغات دبيب النمل.

 ويستدل الفراهي بهذه الخصيصة من خصائص العربية، على ذكاء المتكلمين بها، وأنهم يفهمون الكلام بالإشارة. على الرغم من كثرة الحذف في كلامهم، ولهذا كانوا يكرهون تطويل الكلام، لأن المطول للكلام إما أنه أحمق لا يحسن البيان، وإما أنه يُحَمِّق السامع..

_ طالما أنك ذكرت هذه الآية:

 ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ [الزمر: ٧٣].

 نموذجا لحذف الجواب - كما ذكرت - فإن لي سؤالين حول هذه الآية 73 والآية التي تقدمت عليها:

ﭽ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﭼ [الزمر: ٧١].

- والسؤال الأول: لماذا جاءت الواو في الحديث عن الجنة «وفتحت أبوابها » بينما حذفت الواو في الحديث عن النار «فتحت أبوابها»؟

_ وللاجابه عن هذا السؤال نقول:

_ إن جهنم دار عذاب وهي أشبه بالسجن والسجن مغلق لا يفتح إلا عند دخول السجين. فإذا تم دخوله أغلق حتى لا يهرب السجناء من السجن. ومن باب أولى أن تكون دار العذاب كذلك.

 ولهذا قال في الآية الأخرى:

ﭽ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭼ [الحج: ٢٢].

.وهكذا بمجرد وصول أصحاب النار، تنفتح أبوابها تلقائيا، ليدخلوها مسرعين إلى جزائهم المناسب.

_ أما الجنة فهي أشبه بالمضافة، التي تعد لاستقبال الضيوف، فإنها تزين للقادمين إليها، فتضاء أسوارها بالمصابيح والأنوار، وتفتح أبوابها قبل مجيئهم، تكريما لأهل التقوى الذين يستحقون هذا الثواب , ومن ثم قال في الآية الأخرى:

ﭽ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ [ص: ٤٩ – ٥٠].

_ وهكذا يكون معنى الآية:

حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها - قبل مجيئهم-.

_ ولكن ما هو السؤال الثاني الذي أشرت اليه فيما سبق؟

_ السؤال: هو لماذا عبر عن «المؤمنين»، و«الكافرين» بفعل واحد وهو

«وسيق»؟ وهل هذا «السوق» بمعنى واحد بالنسبة للمؤمنين والكافرين؟

-قد أجاب الزمخشري في كتابه «الكشاف» عن ذلك فقال:

- اللفظ واحد. والمعنى مختلف:

-ذلك أن السوق للذين اتقوا ربهم، إنماهو سوق لمراكبهم، وذلك تكريما لهم وكما يفعل يالوافدين إلى السلطان في الحياة الدنيا.

- أما سوق الكافرين: فهو كسوق الجناة والخارجين على السلطان، حيث يضربون على أدبارهم ويدفعون في ظهورهم.

- ولكن هذا يعني أن المؤمنين يدخلون الجنة ركبانا وأهل النار يدخلونها مشاة.

- فمن أين للزمخشري أن أهل الجنة يدخلونها ركبانا؟

لم يذكر الزمخشري في كتابه من أين استقى ذلك , ربما من بعض الأحاديث النبوية، التي تنص على أن أهل الجنة يدخلونها راكبين على النجائب – نوق الجنة -.

- ولكن هل يمكن أن نجد مستندا لهذا في بعض الآيات القرآنية؟

نعم: يقول اللَّه تعالى في سورة مريم:

ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ [مريم: ٨٥ – ٨٦].

 فالآية صريحة في حشر المتقين إلى الرحمن وفدا. والوفد – بإجماع المفسرين – إنما يراد به الركبان كما هي عادة الوفود.

أما المجرمون فهم يساقون إلى جهنم، كما تساق الأنعام إلى موارد الماء , ذلك أن جهنم يوم القيامة هي الورد الذي يسعون إليه ليشربوا الحميم والغساق، وغير ذلك من أنواع الشراب.

- إن هذا جميل ولا تؤاخذني بهذا الاستطراد فإنني أحببت أن أعرف الجواب عن هذين السؤالين قبل أن تنتقل إلى موضوع أخر.

علوم القرآن..والتدبر:

- عرفنا فيما سبق: ضرورة علوم العربية، لتدبر القرآن. وكثيراً ما نسمع بضرورة معرفة علوم القرآن، كشرط لابد منه لمن يريد التدبر. فإلى أي حد يصح هذا الكلام؟

- لاشك أن علوم القرآن: في غاية الأهمية، لمن يريد فهم القرآن والاطلاع على خفاياه وأسراره، غير أن علوم القرآن كثيرة ومتعددة، ولا مجال هنا لاستعراضها جميعا. وإنما سنكتفي منها بما كان ألصق بالفهم والتفسير. ومن أراد التوسع في الاطلاع عليها، فهناك كتب كثيرة تكلفت بذلك......

يذكر بعض علماء القرآن:

 «إعراب القرآن»

و«غريب القرآن»

 ضمن علومه وقد تحدثنا عنهما أثناء حديثنا عن علوم العربية باعتبارهما مشتركين بين علوم العربية، وعلوم القرآن...ويمكن أن نضيف إلى ما سبق أن هناك مؤلفات خاصة في إعراب القرآن، إضافة إلى علوم معاني القرآن وغريبة......

من علوم القرآن المتصلة بالتفسير:

 «علم أسباب النزول»: ويراد به الأحداث التي وقعت زمن نزول القرآن ونزلت على إثرها آيات، أوالأسئلة التي وجهت إلى النبي r ونزلت آيات في الإجابات عليها.

 وتعتبر هذه الأحداث والأسئلة بمثابة وسائل إيضاح للآيات التي نزلت بمناسبتها وقد اصطلح العلماء على تسمية ذلك:

 بـ«أسباب النزول». وربما توقف فهم بعض الآيات على معرفة سبب نزولها.

- هل يمكن أن تذكر لنا نموذجا لمثل هذه الآيات؟

- قوله تعالى:

ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭼ [النساء: ٣].

هذه الآية يشكل فيها ارتباط الخوف من عدم الإقساط في اليتامى- فعل الشرط- بجواب الشرط: ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﭼ

حيث لا تظهر مناسبة بينهما..ولكن إذاعرفنا سبب النزول ظهرت المناسبة, والسبب ما ذكرته السيدة عائشة ’ حيث قالت:

نزلت في اليتيمة تكون عند وصيها, فيعجبه مالها أو جمالها, فيؤخر زواجها ليتزوجها, أو ليزوجها أحد أبنائه, فيظلمها، ولا يعطيها حقها، فأمروا بأن يدعوا اليتيمة وشأنها وأن يتزوجوا غيرها من النساء الكثيرات مثنى و ثلاث و رباع...

_ وآية أخرى: قوله تعالى:

 ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ [البقرة: ١٨٩].

 فقد ذكر في أسباب نزولها أن المشركين كانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة ثم عرضت لهم حاجه عادوا إلى بيوتهم, و لم يدخلوا من أبوابها, وإنما يدخلون من ظهورها حتى لا يحول بينهم و بين اللَّه حائل, و كانوا يظنون أن هذا من التقوى, فنهوا عن ذلك وأخبروا أن ليس هذا من التقوى..

ولابد من بيان أنه ليس لكل آية سبب نزول, بل إن الآيات التي لها سبب نزول قليلة بالنسبة للآيات الكثيرة التي ليس لها سبب نزول. ذلك أن إطلاق «سبب النزول» على الأحداث التي رافقت نزول بعض الآيات كان من باب التجوز، وليس من باب الحقيقة. وإن سبب النزول الحقيقي للقرآن كله، هو حاجة البشرية إلى الهداية الإلهية، سواء رافق نزولها أحداث معينة, أو لم يرافقها ذلك.

علم القراءات:

بعد أن عرفنا شيئاُ عن أسباب النزول نرغب في معرفة شيء عن علم القراءات وأثره في فهم القرآن؟

من المعلوم أن القرآن نزل على سبعة أحرف على اختلاف بين العلماء في المراد بالسبعة الأحرف هذه.

ولكن من المتفق عليه أن جميع القراءات التي صحت عن النبي r كانت متولدة من هذه الأحرف، وليست هذه القراءات محصورة في السبع أو العشر أو الأربعة عشر. وإنما هي كل قراءة توافرت فيها شرائط القراءة المقبولة وهي:

- صحة السند إلى النبي r.

- وأن توافق الرسم العثماني ولو احتمالا.

- وأن يكون لها وجه في العربيه صحيح.

وإنما احتفل الناس بالقراءات السبع، والعشر، والأربعة عشر، باعتبارها أشهر القراءات.

- ولكن ما علاقة القراءات بفهم القرآن وتفسيره؟

- علم القراءات نوعان: رواية، ودراية:

فالرواية يراد بها: العناية بصحة القراءة، وأسانيدها حتى تصل إلى النبي r.

والدراية يراد بها: الحديث عن الاحتجاج للقراءة بما ورد من نصوص قرآنية تؤكدها، وتبين توجيهها وتعليلها طبقاُ لقواعد العربية.. وما يترتب على ذلك من تعدد المعاني طبقاُ لتعدد القراءات.

وقد أعتنى علماء القراءات بكلا النوعين. وألفوا في ذلك كتباٌ كثيرة. تناولوا فيها كل ما يتصل بالقراءات.

- هل لك أن تعطينا نموذجاٌ لتعدد القراءات وعلاقته بالتفسير من حيث تعدد المعاني؟

يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ [الأعراف: ٥٧].

فالرياح الندية تبشر بالغيث بعدها.

وقد قرئت كلمة «بشرى» في قراءات أخرى «نُشرا، ونُشُرا،ونَشراً »

فـ«نُشراً، ونُشُراً - لغتان بمعنى واحد - وهي بمعنى النشور والإحياء، حيث تحمل الرياح الندية الحياة إلى الأحياء، بين يدي نزول الغيث- الذي هو رحمة اللَّه لعباده -.

و«نُشراً بين يدي رحمته»: بمعنى أن اللَّه ينشرالرياح في كل اتجاه تحمل السحاب كمقدمة لنزول الغيث.

وهكذا نلاحظ تعدد المعاني وعدم تعارضها، وكيف تؤدي القراءة المعنى بدل آية مستقلة.

- وهل نطمع منك في نموذخ آخر على تعدد القراءات؟

 يقول اللَّه تعالى:                                                                          

ﭽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭼ [البقرة: ٣٧].

 – برفع آدم على أنه فاعل- ونصب «كلمات» – على أنه مفعول.

ومعنى الآية: إن آدم بعد هبوطه إلى الأرض، أنزل اللَّه عليه كلمات- أوامر ونواهي- فعمل بها، فتاب عليه بسبب طاعته له فيما أمر ونهى، بعد أن أغواه الشيطان في الجنة وعرضه للمعصية.

_ وقرئت هذة الآية:«فتلقى آدم – بنصب آدم على أنه مفعول مقدم – من ربه كلمات - برفع كلمات - على أنها فاعل مؤخر- وهي عكس القراءة الأولى.

ويكون المعني:أن آدم بعد هبوطه إلى الأرض، تلقته الكلمات التي عمل بها، وأنقذته بما أنها كانت سبب توبة اللَّه عليه.

ولابد أن نشير هنا أنه على الرغم من كثرة المؤلفات في القراءات، فإن كثيراً من كتب التفسير، اعتنت بالقراءات ووجهت المعاني طبقاً لها..

علم الناسخ و المنسوخ:

_ نسمع كثيرا بأنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في تفسير القرآن ما لم يعرف الناسخ و المنسوخ.

- فهل إلى هذه الدرجة يعتبر هذا العلم ضروريا؟

_ نعم إن علم الناسخ و المنسوخ من العلوم الهامة، التي لابد منها لمن أراد فهم القرآن أو تفسيره.

فهناك أحكام أنزلها اللَّه أولاً, ثم نسخها بأحكام أخرى نظراً لما في ذلك من مصلحة عباده.

- ولكن من المعلوم أن شريعة القرآن نسخت الشرائع السابقة, فإذا صح هذا، فكيف يمكن أن يكون نسخ في شريعة القرآن، مع أنها آخر الشرائع؟

_ كثيرًا ما يلتبس هذا الأمر على الناس, بل إن بعض العلماء وقعوا في مثل هذا اللبس, و ربما أنكر بعضهم وجود النسخ في القرآن, ذلك لأنه لم يتبين الحكمة من وراء ذلك. حيث يقولون:

إن القرآن الذي نزل صالحاً لكل زمان ومكان, وتعتبر شريعته آخر الشرائع إلى يوم القيامة... قد وسع الناس جميعا, ووسع الزمن كله , ومن الطبيعي أن يسع الفترة التي تنزل فيها القرآن وهي ثلاثة وعشرون عاما- وهي الفترة التي يمكن أن يكون فيها نسخ - إذ لا يجوز النسخ بعد وفاة النبي r وانقطاع الوحي.

والحكمة التي تبدو لنا من وجود النسخ في القرآن، خلال الثلاثة والعشرين عاما, هي أن هذه الفترة تعتبر فترة انتقال من الجاهلية إلى الإسلام , ولا يمكن أن يتم هذا الانتقال مرة واحدة, الأمر الذي يقتضي وجود أحكام مؤقتة, ليكون الانتقال تدريجياً, لا يترتب عليه عنت للناس.. ومما يؤكد هذا المعنى أن أنظمة الحكم التي تحكم بالقوانين الوضعية, إذا ما أرادت أن تغير أنظمتها من الاشتراكية إلى الرأسمالية أوالعكس, فإنها تضطر إلى فترات الانتقال هذه، حتى لا تسبب إرباكاً للأفراد والمجتمعات..

- ولكن هذا الكلام الذي ذكرته في حكمة النسخ كلام عام, وربما يحتاج الأمر إلى شئ من التفصيل؟

- نعم لو أخذنا التكاليف الشرعية لوجدناها تدور بين أمر ونهي, وبتعبير آخر هناك الحلال والحرام , فلو أخذنا جانب المأمور به لوجدنا التدرج في ذلك, فالصلاة في أول الإسلام بدأت بركعتين بالغداة وركعتين بالعشي, ثم فرضت صلاة الليل

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [المزمل: ١ – ٢].

ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء... ثم نسخت فرضية صلاة الليل بقوله تعالى في آخر المزمل:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﭼ [المزمل: ٢٠].

وبقيت صلاة الليل مطلوبة على سبيل الندب والاستحباب، بعد أن كانت مطلوبة على سبيل الفرض...

- ولكن كم هي المدة التي استمرت فيها فرضية قيام الليل؟

هناك روايات مختلفة تتراوح بين سنة و عشر سنوات, و إنني أميل إلى أن الآية الناسخة التي في آخر المزمل آيه مدنية, و هذا يعني أن المدة التي بقييت فيها صلاة الليل على سبيل الفرضية كانت بضع سنوات, وذلك بدلالة الإشارة فيها إلى القتال, والأمر بالزكاة, حيث فرضت الزكاة في المدينة وتتمة الآية:

ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮫ ﭼ  [المزمل: ٢٠].

ومما يؤكد كون الآية مدنية أنها جاءت على أسلوب القرآن المدني من حيث طولها, وهي بذلك تخالف كل آيات السورة التي جاءت على نمط القرآن المكي من حيث القصر..

_ ولكن ما الحكمة من فرضية قيام الليل أولا ثم نسخها بعد ذلك؟

- لو نظرنا فى سياق الكلام ـ كما ورد في سورة المز مل ـ لو جدناه كما يلي:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ [المزمل: ١ – ٥].

وواضح من هذا السياق أن فرضية قيام الليل، تساعد على تحمل الأعباء الثقيلة، التي ستتضمنها التكاليف الشرعية مستقبلاً، ذلك أن تقوية الصلة باللَّه هي التي تعطي للمسلم قوته الحقيقية. فعلى الرغم من أن النبي r كان يقضي سحابة نهاره في دعوة قومه إلى الإسلام:

ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [المزمل: ٧].

وأن مثل هذا العناء ربما يحتاج إلى راحة بالنوم الطويل العميق- كما هو ظاهر الحال في مقاييس الناس – إلا أن اللَّه يأمر نبيه بقيام الليل وذكراللَّه:

ﭽ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [المزمل: ٨ – ١١].

لقد كان النبي r في تلك الفترة هو ومن استجاب له من الصحابة في مرحلة تأسيس الدعوة. وعملية التأسيس تحتاج إلى جهود استثنائية غير عادية، ومن ثم ففرضية قيام الليل تؤهل المسلمين للقيام بهذه المهمة الصعبة، ولعل هذا يفسر لنا الطلب من المسلمبن أولاً أن يصمد كل واحد منهم أمام عشرة من المشركين:

ﭽ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [الأنفال: ٦٥].

ذلك أن عدد المسلمين كان قليلاً بالنسبة لأعداد المشركين.

 ومن هنا فلا بد أن يتم شحن قوة المسلم إلى حدها الأعلى، وفرضية قيام الليل هي التي ترفع هذه الطاقة إلى ذلك الحد..ولكن بعد أن زاد عدد المسلمين لم يعد هناك حاجة إلى مثل هذا الأمر الاستثنائي فخفف اللَّه هذا التكليف عن عباده بقوله:

ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [الأنفال: ٦٦].

 وهكذا نسخت فرضية الثبات أمام اثنين من المشركين فرضية الثبات أمام عشرة، حيث لم تعد الحاجة ماسة إلى ذلك بعد انقضاء فترة التأسيس.

 ويلاحظ هنا، أن النسخ لم ينصب على أصل التكليف، وإنما انصب على الفرضية فقط، ومن هنا فلو وقف المسلم أمام عشرة من المشركين، بعد أن نسخت فرضية ذلك، لكان ذلك جائزاً وربما كان مستحباً.

وبذلك يبقى المجال مفتوحاً، أمام المسلم فى أن يستفيد من هذاالتكليف، في رفع طاقته إلى حدها الأعلى، إذا رغب في ذلك وكانت هناك حاجة لمثل ذلك، وبإمكانه أن يقتصر في رفع طاقته على حدها الأدنى-حسب مقتضيات الأحوال وتطورات الظروف-.

_ ولكن يلاحظ أن نسخ فرضية قيام الليل، ونسخ فرضية الوقوف أمام عشرة من المشركين، كانا انتقالاً من التكليف الأصعب إلى التكليف الأخف، فأين التدرج في ذلك الذي أشرت إليه مسبقاً؟

قد ذكرنا فيما سبق أن فترة التأسيس تقتضى دائماً جهداً استثنائياً، ثم بعد ذلك يأتي التخفيف وهذا نوع آخر من التدرج، وليس شرطاً أن يكون التدرج دائماً من الأخف إلى الأثقل. ومن ثم يشير علماء القرآن إلى مثل هذا بقولهم:

«ومن حكمة النسخ أنه يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل. ويمثلون له بالمثالين السابقين.»

-ولكن من المعلوم أنه لا يجوز العمل بالمنسوخ، وقد قلت بأن قيام الليل يجوز العمل به، وكذلك الثبات أمام عشرة من المشركين. فكيف ساغ العمل بالمنسوخ في هذين المثالين؟

_ أشرنا فيما سبق إلى أن النسخ- في هذين المثالين - لم ينصب على أصل الفعل، وإنما انصب على الفرضية فقط

_ ومن هنا فقد انتقلت الأحكام من الفرضية إلى النافلة، وعلى هذا يجوز فعلها بل هو الأفضل.

نسخ القبلة:

- كثيراً ما يتساءل الناس عن حكمة نسخ القبلة، فهل لك أن توضح لنا ذلك؟

- إن النبي r حينما كان في مكة كان يقف خلف الكعبة باتجاه بيت المقدس فيستقبل القبلة وبيت المقدس في وقت واحد، فلما هاجر إلى المدينة تعذر عليه استقبال القبلتين معاً، فاتجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أوسبعة عشر شهراً.

- ولكن هل كان اتجاه النبي r- نحو بيت المقدس باجتهاد منه، أو بأمر من اللَّه؟

_ في المسألة قولان:

قول بأنه اتجه إلى بيت المقدس باجتهاد منه.

والقول الأخر: أنه كان بأمر من اللَّه تعالى.

ويبدو أن هذا الرأى الثاني هو الأرجح بدلالة قوله تعالى:

ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [البقرة: ١٤٣].

فقوله: «وما جعلنا القبلة التي كنت عليها» صريح بأن ذلك كان بأمر من اللَّه.

ودليل أخر: لو كان اتجاه النبي- صلي اللَّه عليه وسلم- تجاه بيت المقدس باجتهاد منه لتحول عنه حينما سمع مقالة اليهود:

«لم يعرف محمد قبلته إلا بنا»

 وإنما كان يتطلع إلى تحويلها من قبل اللَّه:

ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [البقرة: ١٤٤].

- ولكن ما زال السؤال قائماً عن حكمة هذا التحويل؟

- نعم:حينما توجه النبي r إلى الكعبة في مكة،لم يكن ذلك مستغرباً ولا منكراً، لأن العرب قد ورثوا عن ملة إبراهيم وإسماعيل تعظيم هذا البيت، ومن ثم ربما كانت استجابة التوجه إليها نتيجة هذه الوراثة التاريخية،ولم تكن لمجرد الأمر الإلهي بالتوجيه إليها.

ولهذا فلما هاجرالمسلمون إلي المدينة وأمروا بالتوجه إلى بيت المقدس أثار اليهود ضجة حول هذا الاتجاه الجديد وقالوا قولتهم المشهورة:

«لم يعرف محمد قبلته إلا بنا»

فشق ذلك على محمد r وأصحابه، وأصبح النبي r يقلب وجهه في السماء طلباً لتحويل القبلة

فلما أمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام، قال اليهود:

إن كان توجه محمد r إلى بيت المقدس على حق، فهو الآن بتوجهه إلى الكعبة على باطل. وإن المسلمين الذين صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة قد بطلت صلاتهم.       

 وكان لهذا التحويل صدى عند بعض المؤمنين، فقالوا: مرة ههنا، ومرة ههنا.؟

وقد ارتدَّ بعضهم عن الإسلام. وفي مثل هذا نزل قوله تعالى في اليهود:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭼ [البقرة: ١٤٢].

وعن الحكمة من هذا التحويل نزل قوله تعالى:

ﭽ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ [البقرة: ١٤٣].

وهذا يعني أن الذين كانوا يتجهون إلى الكعبة قبل الهجرة كان اتجاههم لما يجدون في أنفسهم من تعظيم الكعبة وراثة، فلما أمروا بالتوجه إلى بيت القدس واستجابوا لذلك كان اتجاههم خالصاً لوجه اللَّه، فلما خلص توجههم للَّه أعادهم إلى الكعبة لأن توجههم إليها هذه المرة سيكون خالصاً للَّه لاتشوبه شائبة الوراثة التاريخية. وهكذا فحكمة النسخ هنا حكمة تربوية..

التدرج في تحريم الخمر:

- عرفنا مما تقدم أن حكمة النسخ الكبرى هي تسهيل الانتقال من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي وأن ذلك يقتضي وجود أحكام مؤقتة يتم نسخها بعد ذلك. وأن ذلك يجرى في المأمورات والمنهيات، وقد عرفنا بعض الأمثلة في المأمورات.

- ونريد أن نرى بعض الأمثلة في المنهيات؟

- يعتبر التدرج في تحريم الخمر مثالاً جيداً لما نحن بصدده، ذلك أن شرب الخمر كان شائعاً في المجتمع الجاهلي إلى حد كبير، وليس من السهل استئصال مثل هذه العادة التي مرد عليها الناس مرة واحدة..

 وأول ما نزل في شأن الخمر قوله تعالى- حكاية عما كان قائماً في المجتمع الجاهلي-:

ﭽ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [النحل: ٦٧].

حيث حكت هذه الآية فعل العرب في شأن ثمرات النخيل والأعناب، وأنهم يتخذون منها شراباً يسكرون به، كما يتخذون منها رزقاً حسناً. وهذه الآية لم تحرم الخمر تحريماً قاطعاً، لكنها جعلت «السَّكر» في مقابل «الرزق الحسن» وهو ما يفيد أن السكر ليس رزقاً حسناً.

فكانت هذه اللمسة الأولى في طريق الإعداد للتحريم.. ثم نزل قوله تعالى:

ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭼ [البقرة: ٢١٩].

وهذه الآية تمهد أيضاً الطريق أمام التحريم،لأنها تشير إلى أن الإثم الكبير في الخمر والميسر أكبر من النفع المرجو بها- بغض النظر عن النفع القليل هل هو في الخمر ذاتها أو في المتاجرة بها-..

وحينما توضع القضية هكذا أمام العقل البشري، فسيحكم بأن الشيء إذا كان الضرر فيه أكبر من النفع فلا بد أن يمنع

 ومن هنا كان عمرt يقول: «اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً».

ثم نزل قوله تعالى:

ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [النساء: ٤٣].

 ومقتضى هذا الأمر الامتناع عن الصلاة حال السكر، وهذا يعني الابتعاد عن شربها في الأوقات التي تكون قريبة من وقت الصلاة.

ومن الناحية العملية أصبح الامتناع من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء لأن الأوقات متقاربة. والنهار غالباً مجال للعمل. فأصبحت الخمر مؤجلة إلى الليل بعد صلاة العشاء.

وبعد أن تم تطبيق هذا الفطام نزلت الآية الأخيرة في تحريم الخمر تحريماً باتاً قاطعاً وهي قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ [المائدة: ٩٠ – ٩١].

وبذلك تعتبر هذه الآية ناسخة لما أفادته الآية التي قبلها من حل شرب الخمر في غير أوقات الصلاة، كما تعتبر ناسخة لما فهم من الآية الأولى من احتمال الإباحة حينما حكت فعل العرب: «تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً».

فهي لم تحرم علينا السكر، ولم تبحه لنا، وإنما سكتت عنه فاحتمل أن يكون ذلك مباحاً فجاءت آية التحريم الأخيرة لتنسخ هذه الإباحة المحتملة.

- ولكن بعض الناس يتساءلون بأن هذه الآية وردت بلفظ الاجتناب، ولم ترد بلفظ التحريم، ومن ثم فهي لا تفيد التحريم؟

 -هؤلاء الذين يقولون مثل هذا الكلام معذورون في عدم فهمهم لبعدهم عن لغة العرب واستعمالات القرآن، لان كل كلمة في هذه الآية تفيد التحريم وليس لفظ «فاجتنبوه» فقط.

فالآية تبدأ بقوله «إنما» وهي تفيد الحصر في العربية وهوأن هناك عدة أمور تعطى حكماً واحداً».

فالخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام»، حصرت في كونها رجس من عمل الشيطان، والرجس: هو الشيء المستقذر.

ومعروف أن الشيطان يوسوس اللإنسان بالشر لا بالخير.

 ثم يأتي لفظ «فاجتنبوه» الذي هو أبلغ من التحريم.

ذلك أنه لو قال:«حرمت عليكم الخمر» لأفاد تحريم شربها فقط.

ولكن قوله«فاجتنبوه» تعني: فابتعدوا عنه، ولا تجلسوا بجانبه، فهي تحرم الاقتراب منه، وليس مجرد الشرب.

ومثل هذا ورد في قوله تعالى:

ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ [الحج: ٣٠].

 وهذه لا يناقش أحد في أنها لا تفيد التحريم.

ومثل ذلك ورد في تحريم الزنى فقال:

ﭽ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ [الإسراء: ٣٢].

 وقال:

ﭽﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ [الأنعام: ١٥١].

ليفيد تحريم المقدمات التي تسبق هذه الأفعال والتي تكون سبباً في اقترافها.

 ثم جعل الفلاح معلقاً على هذا الاجتناب «ﭞ ﭟ ».

 ثم أكد هذا التحريم بقوله بعد ذلك:

ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ [المائدة: ٩٠ – ٩١].

 ومعلوم أن العداوة والبغضاء بين المؤمنين أمر محرم،وكذلك الصد عن ذكر اللَّه وعن الصلاة أمر محرم.ثم ينهي الآية بهذا التهديد الشديد:

ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ

والذين يفهمون الكلام العربي «قالوا انتهينا انتهينا. وعمدوا إلى قدورهم فأكفؤها

أما من لا يفهمون العربية اليوم فندعوهم إلى دراسة لغتهم قبل أن يفتوا بما لم يعلموا..

بين النسخ والتخصيص والاستثناء:

- تختلف كتب النسخ في عدد الآيات المنسوخة فبعضهم يرى أنها لا تتجاوز بضع آيات. والبعض الآخر: يرى أنها تتجاوز المائتين فكيف يمكن فهم ذلك؟

- يعود سبب هذا الاختلاف إلى الاختلاف في مصطلح «النسخ» بين المتقدمين من العلماء والمتأخرين:

فمصطلح «النسخ»-عند السلف- أعم مما عرف عند المتأخرين، لأن السلف يجعلون التخصيص نسخا، والاستثناء نسخا، وتقييدا لمطلق نسخا. على حين نجد المتأخرين لا يطلقون النسخ إلا على زوال الحكم السابق بكليته.

- ولكن ما معنى التخصيص والاستثناء وتقييد المطلق؟

- التخصيص كما عرفه علماء الأصول هو:

«قصر العام على بعض أفراده »

يريدون بذلك أن اللفظ العام في الأصل يشمل كل أفراده، فإذا دخله التخصيص أخرج من العام بعض أفراده فلا يشملهم حكم العام.

- هل لك أن تعطينا مثالاً على ذلك؟

- نعم يقول تعالى:

ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ [البقرة: ٢٢١].

 فلفظ «المشركات » هنا:

عام يعم كل مشركة باللَّه ويدخل ضمن ذلك النصرانية التي تقول إن عيسى ابن اللَّه. واليهودية التي تقول إن عزيراً ابن اللَّه.

 وهكذا يشمل هذا الحكم كل مشركة كتابية كانت أو غير كتابية.

 لكن هذا الحكم مخصص بقوله تعالى في سورة المائدة:

ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ [المائدة: ٥].

فقوله ﭽ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭼ

 أحل زواج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية,

 فخرج إذن من حكم آية البقرة الكتابية فلم تعد مشمولة باللفظ العام في آية البقرة.

- ولكن هناك رواية عن ابن عباس t تقول:

إن آية المائدة نسخت آية البقرة فكيف يمكن أن نفهم ذلك؟

_ لا شك أن ابن عباس t من السلف الذين يجعلون مصطلح النسخ يشمل التخصيص كما سبق ان بينا. وعلى هذا يكون مراد ابن عباس بالنسخ «التخصيص».

 وعلى هذا فلا خلاف بين قول ابن عباس وقول المتأخرين الذين يسمون هذا تخصيصا.

 _وجواب آخر: إذا أردنا أن نحمل قول ابن عباس:

«إن آية البقرة منسوخة بآية المائدة» - على معنى النسخ في مصطلح المتاخرين- الذي هو إزالة الحكم السابق بكليته -

 فلا بد لنا في مثل هذه الحالة أن نجعل «المشركات» في آية البقرة يراد بها: الكتابيات. فإذا جعلناها كذلك صح أن تكون آية المائدة نسخت آية البقرة، لأن المعنى الأول كان تحريم نكاح الكتابيات، والمعنى الثاني نسخ المعنى الأول، فأحل نكاح الكتابيات.

- عرفنا معنى التخصيص فما هو معنى الاستثناء؟

- الاستثناء مثل التخصيص إلا أنه يكون بحرف الاستثناء «إلا».

 والتخصيص يكون بغير حرف الاستثناء.

- هل هناك مثال على الاستثناء؟

_ نعم قوله تعالى:

ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ [الشعراء: ٢٢٤ – ٢٢٧].

_ فلما نزلت هذه الآية جاء شعراء النبي r يبكون فسألهم عن ذلك؟

 فقالوا لقد أنزل اللَّه فينا – الشعراء - هذه الآيات فطلب إليهم أن يتلوها فلما وصلوا الى قوله تعالى «إلا الذين آمنوا وعملوا الصلحات».

قال: أنتم من الذين آمنوا وعملوا الصلحات

_ وهكذا فقد خرج من عموم الشعراء المذمومين بالآيات السابقة «الذين آمنوا وعملوا الصلحات».

 فلا يشملهم الذم الذي جاء عاما بلفظ «والشعراء».

_ هل هناك فرق آخر بين التخصيص والاستثناء غير كون الاستثناء يأتي بحرف الاستثناء «إلا»؟

_ نعم هناك شرط آخر لا بد أن يكون المستثنى متصلا بالمستثنى منه –بمعنى أنهما في سياق واحد.

 ولا يشترط في التخصيص أن يكون المخصص متصلا بالمخصص، فقد يكون كل واحد منهما في آية غير الآية، وفي سورة غير السورة.

_ وما المراد بـ«تقييد المطلق» الذي يجعله السلف مشمولاً بمصطلح النسخ؟

_ يأتي اللفظ في بعض الاحيان مطلقا غير مقيد بقيد كما في قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ[المائدة: ٣].

 فلفظ «الدم» في الآية مطلق فهو شامل لكل دم.

 ولكن جاء لفظ «الدم» مقيداً في آية اخرى وهي قوله تعالى:

ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [الأنعام: ١٤٥].

فقد قيد الدم في هذه الآية بأنه مسفوح على حين كان في الآية السابقة مطلقا من كل قيد.

 وعلى هذا يحمل المطلق على المقيد بمعنى أن نجعل الدم المحرم أكله هو المسفوح فقط والمراد بالمسفوح: الذي ينصب من الحيوان أثناء الذبح.

 وبذلك لا يدخل في الدم المحرم ماعلق باللحم من الدم لأنه ليس مسفوحا، كذلك لايدخل في الدم المحرم الكبد والطحال، لأنهما ليس مسفوحين وإن كانا في الأصل دما.

- ولكن من أين ساغ للسلف أن يجعلوا مصطلح «النسخ» شاملاً للتخصيص والاستثناء وتقييد المطلق؟

_ من المعلوم أنه لا يعمل بالعام مع وجود المخصص، ولا يعمل بالمستثنى منه مع وجود المستثنى، ولا يعمل بالمطلق مع وجود المقيد.

 وهذا كله يشبه النسخ في أنه لا يعمل بالمنسوخ مع وجود الناسخ. فلهذا الشبه أطلق السلف على هذه الاشياء مصطلح النسخ.

إذا عرفنا ذلك أمكننا أن نعرف سرالاختلاف في عدد آيات النسخ عند العلماء، فالذين جروا على اصطلاح المتأخرين جعلوا النسخ مقصوراً على ذهاب الحكم السابق بالكلية.

 والذين أدخلوا فيه التخصيص والاستثناء وتقييد المطلق. جعلوا هذه الأنواع مشمولة بلفظ النسخ مما زاد في عدد الآيات المنسوخة.

 وقديما قيل:لا مشاحة في الاصطلاح.

- ولكن ألا يمكن ان تختلف الاجتهادات في الناسخ والمنسوخ بحسب نظر العلماء؟

 _نعم يمكن ذلك....لأن النسخ لا يصار إليه إلا عندما تتعارض المعاني، بحيث لا يمكن الجمع بينها.

 أما إذا أمكن الجمع بينها، فلا يلجأ الى القول بالنسخ.

كذلك لا يمكن القول بالنسح إلا اذا أمكن معرفة المتقدم من المتأخر. لأن المتأخر هو الذي ينسخ المتقدم. وليس العكس.

 ومن ثم فالقرآن المدني ينسخ القرآن المكي وينسخ المدني الذي نزل قبله.

 كما ينسخ المكي المكي الذي نزل قبله، ولا يجوز أن ينسخ المكي المدني...

وقد تكون الآية منسوخة على معنى من المعاني. ولا تكون منسوخة على معنى آخر.

 ومن هنا يحاول منكرو النسخ أن يجعلوا الآيات التي قيل بنسخها على معان أخر.

 وكثيرا ما يتكلفون لتلك المعاني مما يجعل أقوالهم غير جديرة بالاعتبار.

- وهل يختلف العلماء في التخصيص كما يختلفون في النسخ؟

 _نعم يمكن أن تكون على بعض المعاني مخصصة عند بعض العلماء وليست مخصصة عند آخرين وذلك بحسب اجتهادات العلماء.

_ هل بالإمكان أن نرى مثالا على ذلك؟

_ نعم قوله تعالى:

ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ [البقرة: ٢٢٨].

هذه الآية عند جمهور العلماء مخصوصة بآيات سورة الطلاق، وآية سورة الاحزاب، وتوجيه هذا القول:

أن آية البقرة «والمطلقات» جاءت عامة في في كل مطلقة.

 ثم خرج من هذا العموم بآية سورة الطلاق: اليائسة من المحيض، والصغيرة التي لم تحض، والحامل.

 حيث تحسب عدة الكبيرة والصغيرة بالأشهر دون القروء، لأن القروء لا تكون في اليائسة والصغيرة.

 أما الحامل فعدتها تكون بوضع الحمل. ونص الآية كما يلي:

ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﭼ [الطلاق: ٤].

_ كذلك خصصت آية البقرة بآية سورة الأحزاب:

ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ [الأحزاب: ٤٩].

فخرج إذن من عموم آية البقرة المطلقة قبل الدخول حيث لا عدة لها أصلا، فعلى هذا القول هناك تخصيصان بآية سورة الطلاق وآية سورة الأحزاب.

_ ويرى مكي بن أبي طالب أن آية سورة البقرة ليست عامة في كل مطلقة بدليل تتمة الآية حيث جاء فيها:

 ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﭼ

 فدل ذلك على أن هذه الآية في المطلقة ذات القرء التي تم الدخول بها..

_ وبناء على هذا لا حاجة إلى القول بالتخصيص لأن كل آية تكون مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى أن تكون مخصصة...

_ هل يمكن أن ينسخ القرآن السنة وأن تنسخ السنة القرآن؟

_ أما نسخ القرآن للسنة فهو أمر موضع اتفاق.

 ولكن نسخ السنة للقرآن فيه اختلاف»:

 فالذين أجازوه قيدوه بالسنة المتواترة لأنه يشترط أن يكون الناسخ في قوة المنسوخ، والسنة الآحادية ليست في قوة القرآن المتواتر. وهذا كله من الناحية النظرية.

 أما من الناحية العملية فلا يوجد لنسخ السنة للقرآن إلا مثال واحد وهو حديث:

«لا وصية لوارث»

 الذي نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله تعالى:

ﭽ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﭼ [البقرة: ١٨٠].

 وعند التحقيق يتبين أن الناسخ لآية الوصية آيات المواريث. لأن النبي r اشار إلى آية المواريث بقوله:

«إن اللَّه قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»

-وهكذا يكون الحديث من باب التأكيد أن الناسخ هو آية المواريث وليس تشريعاً مبتدأ.

علم مناسبات الآيات والسور:

- هل هذا العلم ضروري للفهم والتدبر؟

_ نعم يعتبر هذا العلم من العلوم الضرورية لتدبر القرآن, ذلك أن معظم لطائف القرآن مودعة في ترتيب الآيات وارتباط بعضها ببعض , وفي توالي سوره, وعطف بعضها على بعض,

ومن هنا يتحدث علماء القرآن عن المناسبات بين الآيات. والمناسبات بين السور.

 ويقصدون بذلك وجه الارتباط بين الآيات المتجاورة. ووحه الارتباط بين أول السور وخواتمها. ووجه الارتباط بين آخر السورة والسورة التي تليها. ووجه الارتباط بين السور المتجاورة إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ألف فيها العلماء عدداً من الكتب كما ذكرها جمهور المفسرين في تفاسيرهم العديدة.

 ومع ذلك فإننا نجد بعض العلماء كان موقفهم سلبياً من هذه الظاهرة اعتماداً منهم على أن القرآن نزل بلغة العرب وجرى مجاريهم في الخطاب وأن العرب لم يكونوا يراعوا المناسبة في كلامهم...

_ هل يمكن أن تذكر لنا نموذجا لهؤلاء المفسرين؟

_ لعل الشوكاني صاحب كتاب فتح القدير هو أصرح من تكلم في إنكار المناسبات اعتمادا على حجج واهية قد ناقشناها في غير هذا الكتاب وبينا تهافتها، وأن الذي ألجأه إلى هذا الموقف عدم إدراكه للمناسبة بين قصة آدم في سورة البقرة وقصة بني إسرائيل بعدها مباشرة...

 علماً بأنه في غير هذا الموضع من كتابه كثيرا مايعرض للمناسبة ويبينها.

 ولما كانت المناسبة ظاهرة في بعض الأحيان وخفية في بعض الأحيان الأخرى فلو قال بها كقاعدة يقوم عليها كتاب اللَّه، لوجب عليه أن يبينها في كل موقع. وهو لا يريد أن يكد الذهن في استنباطها. واعتبر مثل هذا الكد نوعاً من التكلف الذي لا يليق أن يحمل عليه كتاب اللَّه...ولو كان موقفه الاعتراف بوجود المناسبة، ونسب القصور في عدم إدراكها إلى التقصير البشري في التأمل والاستنباط لكان أولى به وأجدر.

-هل هناك من المؤلفيين من كتب تفسيراً كاملا للقرآن على هذا الأساس؟

- نعم لقد كتب البقاعي تفسيره «نظم الدرر في تناسب الآى والسور» على أساس هذه القاعدة التي أشرنا اليها، ويعتبر كتاب البقاعي أول كتاب يقيم التفسير على هذا الأساس، من أوله الى آخره، فله بذلك قصب السبق في عرضه القرآن كاملاً، وفي تفخيم أمر المناسبات...

غير أن البقاعي لم يكن دائماً موفقا في استنباط المناسبة القوية وربما تكلف في بعض الأحيان ليصل إليها، فإذا لم يوفق ربما قنع بمناسبة ضعيفة، لكيلا يخل بأصل الفكرة والمبدأ...

وفي اعتقادي أن البقاعي اعتمد أسلوب الربط المباشر بين الآيات المتجاورة... وربما كانت بعض الآيات أشبه بالجمل المعترضة، فمن هنا تكون محاولة الربط متكلفة، لأن الارتباط قائم بين ما قبل المعترضة وما بعدها، والاعتراض لا يقطع الكلام، وإنما يؤدي معنى ضروريا لتحقيق فائدة أو تجنب محذور. وفي بعض الأحيان ربما كان الشبيه بالاعتراض جملة آيات لا آية واحدة...

- وهل هناك بعد البقاعي من تابع هذا الاتجاه؟

- نعم بعد البقاعي ظهرت دراسات تقوم على أساس وحدة السورة، وأن كل سورة تعتبر منظومة متكاملة بموضوعها ومطالبها، وأن هناك خيوطا دقيقة تربط بين مفاصلها وفقراتها، كما أن لكل سورة أسلوبها المميز وطريقة عرضها، والجو الذي يرتسم من خلال ذلك كله....ويعتبر كتاب «النبأ العظيم» للدكتور دراز نموذجا لهذا الاتجاه في عرضه سورة البقرة كاملة من أولها الى آخرها، حيث استطاع ان يقسمها الى مقدمات، وأبواب، وفصول، وخاتمة. بحيث يقيم البرهان العلمي لهذا الاتجاه...

_ كما يعتبر كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب أول كتاب يعرض القرآن كله على أساس وحدة السورة و قد وفق في ذلك أكثر بكثير من البقاعي في «نظم الدرر». ويعتبر نقلة كبيرة بعيدة المدى في هذا الاتجاه...

_ هل هناك مفسرون من غير العرب سلكوا هذا المسلك؟

_ يعتبرالعلامةعبد الحميد الفراهي الهندي أحد هؤلاء، فقد وجد أن المستشرقين طعنوا في القرآن من هذا الجانب، مدعين أن لا رابط بين آياته، و أنه مشتت النظم، فشمر عن ساعد الجد، وكتب بعض الكتب التي تشير إلى أنه يقول بـ «النظام» في القرآن، و«النظام» عنده يتجاوز المناسبات، كما يتجاوز وحدة السورة ليقول بوحدة القرآن كله آياته و سوره.

 و من ثم فقد وضع مشروع تفسير يقيمه على هذا الأساس أسماه:

 «نظام القرآن وتفسير الفرقان بالفرقان»

 و قد عرض لبعض السور المتفرقة على هذا الأساس، كما وضع تمهيدا بين يدي كل سورة يهتدي بها حين يعرض لها في تفسيره.. ولكن المنية عاجلت المؤلف عن إتمام هذا المشروع العظيم.

 غير أن معظم مؤلفاته في علوم القرآن والعربية تخدم هذا الاتجاه من ناحية من النواحي، وذلك ككتابه في:

 «مفردات القرآن»

 وكتابه: «دلائل النظام»

 وكتاب «إمعان في أقسام القرآن»

 وكتاب «أساليب القرآن»

 وكتاب «الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح»

 وكتاب «في ملكوت اللَّه»

 وكتاب «جمهرة البلاغة»

 وكتاب «التكميل في أصول التأويل»

غير أن معظم هذه الكتب كانت أشبه بمشروعات كتب وضع المؤلف أفكاراً أساسية ليقيم عليها بناء هذه الكتب، و لكن لم يتح له أن يعيد فيها النظر و يضعها في صورة كتب كاملة.

 ومن هنا فقد قام بعض تلاميذه بجمعها و تبويبها و طبعها... وهي على كل حال يمكن الاستفادة منها في خدمة الموضوع الذي نحن بصدده.

- كما يعتبر بديع الزمان النورسي واحداً من هؤلاء الأعلام وقد ترجمت معظم مؤلفاته إلى العربية ترجمة جيدة. والذي يقرأ هذه المجلدات الثمانية، يرى أفكاراً غنية ثرة تصب في هذا الاتجاه، والذي يلخصه أحياناً بالإعجاز المعنوي للقرآن، وهو يثري فعلا هذا الاتجاه ويقدم تطبيقات كثيرة في معظم الآيات القرآنية....

والملاحظة الجديرة بالاعتبار أن معظم هؤلاء الأعلام كانوا في عصر واحد، ولم يثبت أن هناك صلة كانت قائمة بينهم، كما لم يطلع بعضهم على نتاج بعض، مما يعني أن كل واحد اهتدى إلى هذا الاتجاه بنفسه، ومن ثم تلاقى هؤلاء الأعلام على فكرة واحدة أغناها كل واحد منهم بنظرته واجتهاده وتطبيقاته. وهذا الذي يؤكد صحة هذه الفكرة، وسلامة هذا الاتجاه.

وعلى الرغم من ضخامة هذا الإنجاز في القرن الرابع عشر الهجري، فإن ما توصل إليه هؤلاء الأعلام يعتبر صُوَىً هادية، و معالم على الطريق، جديرة بالمتابعة والإثراء، وهي لا تعدوا في مجملها كونها نظرات اجتهادية، قد يستدرك على بعضها، وقد يزاد عليها.

 والدارسة العلمية الجادة الناقدة ضرورية لمواصلة المسيرة، وتصحيح الخطأ.

 بل يمكننا القول إننا سنفاجأ عند الدراسة بأن وحدة السورة تتجلى بأكثر من خيط ناظم، وترسل إلينا بإشعاعات متعددة، لم نكن نراها من قبل، ولم نكن نتوقع أن يكون الارتباط بين أجزاء السورة بهذا التماسك،

وهذا التلاحم..

_ ذكرت فيما سبق أن البقاعي لم يوفق دائما للوصول إلى المناسبات القوية، وأن الطريقة التي سلكها ربما تكون هي المسؤولة عن هذه النتيجة، وهي محاولة إيجاد المناسبة بين الآيتين المتجاورتين، دون مراعاة الآيات التي هي أشبه ما تكون بالجمل المعترضة.. فإذا صح هذا.

 فما هي الطريقة الأمثل للوصول إلى المناسبة القوية أو إلى وحدة السورة؟

_ من المعلوم أن لكل سورة من السورمحوراً أساسيا تدور حوله متطلباتها ودروسها، ويسميه الفراهي عمود السورة، واكتشافه ليس سهلاً دائماً، لكن إذا وصلنا إليه، كان هو الأمر الجامع الذي يجمع بين جزئياتها، وهو الذي يضيء كل أطرافها، وبذلك ترتبط الآيات كلها بهذا المحور أو العمود، ومن ثم فلا نحتاج بعد ذلك أن نربط بين الآيتين المتجاورتين، لأن هذا الربط أصبح حاصلاً..

ويمكن أن نمثل لذلك بالشجرة ذات الأغصان الكثيرة المتعددة، فجميع هذه الأغصان تتفرع من ساق الشجرة، وساق الشجرة إذن هو الذي يجمع فروعها وأغصانها، وبذلك تترابط الأغصان فيما بينها حينما ترتبط بساق الشجرة، فلا نحتاج بعد ذلك إلى ربط خاص بين الأغصان..

وعلى هذا فساق الشجرة أشبه بمحور السورة، و أغصانها أشبه بالآيات التي تتكون منها السورة..

- هل لك أن توضح لنا هذا بالمثال؟

سورة الصف:

_ لو أخذنا مثالاً على هذا سورة الصف، فإننا نجد السورة تبدأ هكذا:

ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ [الصف: ١ – ٤].

و هنا ينتهي الكلام مع الذين آمنوا.. ثم تبدأ الإشارة إلى موسى u وبني إسرائيل:

ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [الصف: ٥].

 ثم تبدأ الإشارة إلى عيسى u:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ [الصف: ٦].

 ثم يعود الكلام إلى المشركين المكذبين بالإسلام ليقول:

ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ [الصف: ٧ – ١٣].

ثم دعوة للمؤمنين للاقتداء بالحواريين:

ﭽ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﭼ [الصف: ١٤].

من خلال قراءتنا لهذه السورة نرى أن موضوع «الجهاد » هو الذي ينتظمها، ومن ثم فهو محور السورة أو عمودها، وعنده تلتقي فقراتها وجزئياتها، وإن اسم السورة فيه أيضاً إشارة إلى ذلك «سورة الصف » والمراد به هنا صف الجهاد كما ذكر بعد:

 ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ

تبدأ السورة بالإشارة إلى أن كل ما في السماوات والأرض يسبح للَّه، وهذا يعني أن الكون بكل ما فيه في طاعة اللَّه، كما تشير إلى صفتين من صفات اللَّه «العزيز الحكيم».

 والمراد بـ «العزيز»: الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء، والذي يعز جنده، ويهزم الأحزاب وحده. وفي هذا تمهيد بين يدي الحديث عن الجهاد، غير أن صفة «العزيز» جاءت مقترنة بصفة «الحكيم» ليبين أن هذا «الإعزاز» إنما يكون بمقتضى الحكمة الإلهية وفي وقته المناسب.. ومن ثم فهو ليس على حسب طلب الناس..

 ثم ينتقل الخطاب إلى المؤمنين الذين كانوا تعهدوا بالقتال حتى الوسع فيما لو فرض عليهم هذا القتال. فلما فرض عليهم تراجعوا، وقيل حدث هذا يوم أحد – وهناك روايات أخرى في الموضوع لا تتوقف عندها لأن المضمون واحد – فينكر اللَّه عليهم هذا الموقف الذي بدت فيه كراهتهم للجهاد، بعدأن قالوا ما قالوا:

ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ

وإذا كان اللَّه يكره المتخاذلين عما تعهدوا به و التزموه في أقوالهم، فإنه في الجهة الأخرى يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً

ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ

- ولكن ما علاقة قصة موسى بموضوع الجهاد علما أن المفسرين ذكروا أقوالا متعددة في إيذاء بني إسرائيل لموسى u؟

_ هنا تظهر أهمية المناسبات، فإذا كان موسى u تعرض لإيذاءات كثيرة من بني إسرائيل، فلا بد أن نختار منها ما يتوافق مع الموقف الذي نحن فيه، وإننا نجد فيما أوذي فيه موسى من قومه بني إسرائيل قولهم له حين دعاهم لدخول الأرض المقدسة:

ﭽ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭼ [المائدة: ٢١ – ٢٢].

 ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ [المائدة:24].

 وفي ذكر هذا الموقف لبني إسرائيل من موسى u، تسلية للنبي r وتربية لهؤلاء القلة من أصحابه وأنهم جديرون بهذا الدرس حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى..

- ولكن ما علاقة قصة عيسى بالموضوع أيضا؟

_ معلوم أن عيسى u أرسل أيضا إلى بني إسرائيل مصدقا للتوراة التي جاءت قبله، وهو في نفس الوقت يبشر بالنبي الذي سيأتي بعده واسمه أحمد، وكان المفترض في بني إسرائيل أن يؤمنوا بمحمد r الذي بشر به عيسى u وصدق ما سبقه من التوراة التي يؤمنون بها.. ولكنهم أصروا على عنادهم وقالوا القولة التي ما زال المنحرفون عن شرائع الأنبياء ورسالاتهم يقولونها »

ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ

 على الرغم من البينات الدالة على صدق ما يقول...

 ثم يبين أن لا أحد أظلم ممن يدعى إلى الإسلام وهو يفتري على اللَّه الكذب. وهو يشمل بهذا الكلام الذين لم يستجيبوا لعيسى u، والذين لم يستجيبوا لمحمد r وأنهم بصنيعهم هذا يريدون إطفاء نور اللَّه بأفواههم واللَّه متم نوره ولو كره الكافرون».

 ثم يبين مهمة الرسول r:

 ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ

- ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك؟

- إنه يتم بالجهاد:

 ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﭼ

ولما كان قد ذكر إيذاء بني إسرائيل لموسى u كي لا يقع في مثله المسلمون، وقد استفاد المسلمون من الدرس في بدر حينما قالوا للنبيr: «لا نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى u» اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون».

 ولما كان موقف حواريي عيسى u يصلح للاقتداء فقد وجه اللَّه المؤمنين للتأسي به فقال:

ﭽ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭼ

 ومن ثم:ﭽ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭼ

 وهكذا كان شأن المؤمنين من العرب مع قومهم المشركين.       

أصول التدبر:

_ لقد عرفنا من خلال ما تقدم فكرة عامة عن علوم القرآن ومدى أهميتها لفهم كتاب اللَّه، وذلك بعد أن عرفنا أيضا أهمية علوم العربية.

 والسؤال: ما هي الأصول التي لا بد من مراعاتها لتدبر القرآن؟

_ إن أصول التدبر متعددة ويمكن أن نجمعها في أصلين:

_ الأصل الأول: مراعاة عربية القرآن، بمعنى أن اللَّه نص في أكثر من آية على أنه أنزله بلسان عربي مبين، وهذا يعني أن كل فهم يخالف قواعد العربية فهو مردود على صاحبه..

 وهكذا نجد أن جميع الفرق المنحرفة خلال التاريخ الإسلامي، التي لم تستطع أن تنفذ إلى القرآن - المحفوظ من قبل اللَّه تعالى - وجهت محاولاتها إلى التأويل الفاسد الذي يخرج على قواعد العربية، محاولة أن توهم الناس أن ما ذهبت إليه يشهد له القرآن.

_ الأصل الثاني: أن القرآن الكريم كتاب محكم مفصل:

 «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير »

 وبمقتضى هذا الإحكام والتفصيل، فهو كتاب لا تناقض فيه ولا اختلاف، بل يؤيد بعضه بعضا، وينسجم بعضه مع بعض:

ﭽ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ [النساء: ٨٢].

 فأي فهم يتوصل إليه الإنسان إذا كان يعارض نصا آخر في القرآن، فهذا آية خطئه، فعليه أن يراجع نفسه، ويعيد التأمل والتدبر، حتى يستوي له الفهم الصحيح الذي تشهد له بقية النصوص..

- ذكرت في الأصل الأول أن الفرق المنحرفة اعتمدت التأويل الفاسد المخالف لقواعد العربية. ومن المعلوم أن أهل الإشارة لهم فهوم خاصة في بعض الآيات القرآنية، فما هو الفرق بين الفريقين؟

_ يمكن أن نبين ذلك بالمثال.. إن بعض الفرق المنحرفة التي اعتمدت أفكارا مسبقة من فلسفات بعيدة عن الإسلام تحاول أن تجد لها مستندا في النصوص القرآنية. ولما كانت النصوص القرآنية لا تساعدها تلجأ إلى التحريف.

 فمثلاً:

 إذلال النفس في بعض الفلسفات هو الطريق الذي يوصلها إلى المقصود، فتحاول أن تجد لهذا المعنى مستندا في قوله تعالى من آية الكرسي:

ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯾ ﭼ [البقرة: ٢٥٥].

 فتقطع هذه الآية تقطيعا يوحي بصحة هذه الفكرة وتصبح الآية في قراءتهم المقطعة هكذا:

 «من ذل ذي يشف ع»

 وهكذا يجعلون من اسم الإشارة «ذا» ولام الاسم الموصول «الذي» فعلاً ماضيا «ذل » ويجعلون من بقية الاسم الموصول اسم إشارة «ذي» ويقطعون فعل «يشفع» إلى فعلين الأول هو «يشف» من الشفاء، والثاني«ع» من الوعي، ويصبح المعنى الذي يذل نفسه يشف.افهموا..

 وهذا تحريف لا يمكن أن يقبله عقل ولا منطق ولا لغة ولا دين.

أما أهل الإشارة:

 فإنهم يذكرون المعنى الأول الذي جاءت الآية من أجله ويعتبرونه هو الأصل. ولكن بالإضافة إلى ذلك يفهمون لأنفسهم معاني أخر- بطريق الإشارة - لا بطريق العبارة - ومعلوم أن دلالة العبارة هي الأصل، ودلالة الإشارة دون دلالة العبارة.. لكن إذا كانت دلالة الإشارة يراد بها معنى صحيح شهدت له نصوص أخرى، فهي في هذه الحالة مقبولة لا غبار عليها، ولكن لا تقبل على أنها تفسير للقرآن.

 وإنما هي معاني صحيحة يمكن العمل بها لما يشهد لها من النصوص الأخرى.. وعلى هذا الأساس نجد تقسير الآلوسي «روح المعاني» يعمد أولا إلى التفسير المعتمد على العبارة، فإذا انتهى من ذلك قال:

 ومن باب الإشارة في الآية. ليعطي نماذج من هذه الفهوم. والتي يشترط أن تكون معانيها صحيحة..

 أما ما يلجأ إليه بعض المتصوفة من تقطيع للكلام كأن يقولوا في الحديث النبوي الذي يتحدث عن الإحسان:

 «الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

حيث يقرؤون الحديث بالشكل التالي:

«... فإن لم تكن تراه يراك»

 يحذفون منه كلمة «فإنه»- يريدون بذلك: فإن لم تكن. أي: إذا فنيت في اللَّه، تراه يراك.. أي لم يعد بينك وبينه حجاب, وهذا أقرب إلى المذاهب المنحرفة منه إلى أهل الإشارة..

- ذكرت في الأصل الثاني: «أن القرآن محكم مفصل» وأن لا تناقض فيه ولا اختلاف , ولكننا في بعض الأحيان ربما نرى شيئاً من التعارض. فكيف يمكن فهم هذا؟ وكيف نعالج مثل هذا التعارض؟

- أما أن القرآن كتاب محكم مفصل , فهذا أمر مقطوع به بنص القرآن ,

 وأما أنه لا تناقض فيه ولا اختلاف فهو أيضا مقطوع به بنص القرآن – كما أشرنا إلى ذلك سابقا –.

 وأما علاج ذلك التعارض الظاهري الذي قد يبدو للوهلة الأولى , فيكون بالتدبر الواعي كما أشارت إلى ذلك الآية:

 ﭽ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ [النساء: ٨٢].

وإذا كان القرآن كتاباً محكماً مفصلاً , فسنجد تفصيل هذا الإحكام فى القرآن نفسه , وهو ما يعبر عنه فى علوم القرآن بـ«تفسير القرآن بالقرآن» والذى يعتبر أعلى مراتب التفسير، لأنه تفسير صاحب الكلام لكلامه , فإذا فسر صاحب الكلام كلامه , لم يكن لغيره أن يقول غير ما قال...

وتفسير القرآن بالقرآن أصل متفق عليه عند جميع المفسرين , ويشهد له قوله تعالى:

ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ [القيامة: ١٦ – ١٩].

فقد تكفل اللَّه ببيان القرآن فى القرآن نفسه , وهو المصدر الأول للتفسير, ولا يلجأ إلى غيره إلا بعد أن يعجز الإنسان أن يجد فيه ما يبحث عنه – كما هو تعبير ابن تيمية: «فان أعياك ذلك...».

وهذا الأصل المتفق عليه , لا يكاد تفسير من التفاسير يخلو منه , ولكن مقدار الاعتماد عليه يتفاوت بين تفسير وآخر , ويعتبر تفسير ابن كثير من أغنى التفاسير بذلك , ومن التفاسير الحديثة , تفسير«أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن» للشنقيطى , وتفسير الفراهي المسمى: «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان»

 علما بان تفسير الشنقيطي فيه استطرادات فقهيه وأصولية وحديثية كثيرة, وبخاصة في أجزائه الأخيرة ,

 كما أن تفسير الفراهي , كان لسور محدودة، لأن المؤلف عاجلته المنية عن إتمامه , لكن ما طبع من هذا التفسير يعتبر نماذج هامة جداً يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.

- هل يمكن لك أن تذكر لنا نموذجاً لتفسير القرآن بالقرآن؟

- يقول اللَّه تعالى فى سورة البقرة تعقيباً على فرضية الجهاد على بني إسرائيل:

ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﭼ [البقرة: ٢٥١].

فلم يبين فى هذه الآية كيف يكون الفساد فى الأرض , ولكن بين ذلك فى سورة الحج

- تعقيبا على الإذن بالجهاد للمؤمنين حيث قال:

ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ [الحج: ٤٠].

فأشار فى هذه الآية إلى أن الفساد فى الأرض إنما يكون بتهديم أماكن العبادة , وعلى هذا تكون حكمة الجهاد رفع الفساد من الأرض بتأمين حرية العقيدة والعبادة , والمحافظة على أماكن العبادة

- باعتبارك قد ذكرت هذه الآية نموذجا لتفسير القرآن. هناك بعض الاستفسارات التى أرجو أن أجد الإجابة عليها وإن بدت أنها على سبيل الاستطراد:

- كيف عرفت أن هذه الآية تفسير لتلك؟

- وما الحكمة في تقديم «الصوامع والبيع والصلوات على المساجد؟ وبالاجمال: ما الحكمة فى هذا الترتيب؟

- بالنسبة للسؤال الأول: كلتا الآيتين «آية البقرة» و«آية الحج» جاءتا تعقيبا على فرضية الجهاد , لكن إحداهما على بنى إسرائيل , والثانية على أمة محمد r. وكلا الآيتين تبدأ بصيغة واحدة هي:

 ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ

ولكن الأولى تختصرالإجابة بقوله: «لفسدت الأرض» والثانية تفصل ذلك.

ولو وضعنا الآيتين بصورة معادلة رياضية لكانتا هكذا:

ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ

ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵﭶﭷﭸﭼ

ﭹ وإذا كان طرفا المعادلة الأولان متساويين - وهما متساويان- فلا بد أن يكون الطرفان الآخران متساويين أيضا.

 وهكذا نجد أن الجزء المكرر من الآية هو الذى يلفت الانتباه إلى الآيتين, وهذا أصل يراعى كثيراً فى أسلوب القرآن...

- أما بالنسبة للسؤال الثاني:

فالصوامع: معابد الرهبان. والبيع: كنائس النصارى. والصلوات: معابد اليهود. والمساجد: مصليات المسلمين.

ولو نظرنا فى هذا الترتيب نجد أنه قدم معابد النصارى أولاً ثم معابد اليهود , ثم مساجد المسلمين..ولو تساءلنا عن الحكمة في هذا الترتيب: هل هو ترتيب تاريخي؟

 لا نجد أنه كذلك، لأن اليهود أقدم من النصارى تاريخياً...

يمكن أن يقول البعض إن هذا الترتيب ترتيب تصاعدي أي من الأدنى إلى الأعلى , فالإنجيل دون التوراة.والتوراة دون القرآن.

 وربما يستدلون لذلك أيضا بالترتيب الوارد فى سورة «التين»

حيث بدأ بالتين والزيتون– مكان نزول الوحى على عيسى u.

 ثم«طور سنين» مكان نزول الوحى على موسى u.

 ثم بالبلد الأمين مكان نزول الوحى على محمد r.

 وربما قال بعضهم: قدم معابد غير المسلمين على معابد المسلمين تأكيداً فى توفير الحماية لها.

والذى يبدو لي من هذا الترتيب أنه بدأ بذكر معابد النصارى لأن النصارى يدعون أن دينهم دين المحبة والتسامح وأنه لا مجال فيه للجهاد, فكان هذا البدء إشعاراً بأن الجهاد كان سنة إلهية فى جميع الشرائع االمنزلة , وهذا هو المعنى الذى يفهم من الآية. أي لولا الجهاد لهدمت الصوامع والبيع فى عهد عيسى u، ولولا الجهاد لهدمت الصلوات فى عهد موسى u, ولولا الجهاد لهدمت المساجد فى عهد محمد r.

 فالجهاد إذن سنة ماضية قى جميع الشرائع الإلهية, بما فيها النصارى الذين يعتقدون أن دعوتهم روحية خالصة , ليس فيها مجال للقتال. ويؤكد هذا قوله تعالى فى سورة الصف:

ﭽ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﭼ [الصف: ١٤].

 ويؤيد هذا قوله تعالى:

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [آل عمران: ١٤٦].

_ ولكن قوله:

 ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭼ

 هل يعود على المساجد فقط؟ أو على جميع المعابد؟

_ بحسب قواعد العربية يمكن أن يعود الكلام إلى المساجد. كما يمكن أن يعود إلى جميع المعابد، وبخاصة أنها إشارة إلى المعابد فى أزمان الأنبياء , حيث كان توحيد اللَّه وذكره قائماً فيها..ولأنها إنما أنشئت لذلك..

_ ولكن أليس تفسير القرآن بالقرآن عملية اجتهادية؟

_ نعم إن الطريقة التى يتبعها المفسر عملية اجتهادية , ولكن النتائج التى ينتهى إليها هي التى تبين إن كان هذا الاجتهاد صواباً أو خطأً. كما أن عملية الموازنة والنقد كفيلة بالوصول إلى الصواب.

_ هل لك أن تذكر لنا نموذجاً عملياً يوضح هذا؟

_ يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ [القصص: ٧٥].

يكاد يجمع المفسرون على أن معنى قوله «شهيداً » فى الآية: نبياً , وذلك أخذاً من قوله تعالى فى آية أخرى:

ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ [النساء: ٤١].

 حيث يراد بـ «الشهيد » فى هذه الآية: النبي بلا خلاف...ولكن حينما نحمل معنى «الشهيد» على «النبي» فى الآية الأخرى, نجد هناك إشكالات تحول دون التسليم بهذا المعنى، ذلك أن معنى الآية يصبح كما يلي:

«ونزعنا من كل أمة شهيداً – أي نبياً – فقلنا – للشهداء: الأنبياء – هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق للَّه وضل عنهم ما كانوا يفترون»

 نجد أن هذا المعنى لا يستقيم , ولا يقبل...

ومن ثم اضطر بعض المفسرين إلى شيءٍ من التكلف في التأويل حينما قال إن معنى الآية كما يلي:

«ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا – للأمم – هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق للَّه وضل عنهم ما كانوا يفترون»

ولكن من المعلوم أن الأمم فيها المؤمن والكافر , فكيف يصح أن يوجه الخطاب للأمم وفيها المؤمنون...

هذا لا يستقيم , وحتى يستقيم الكلام , لابد أن يراد بالأمم الكافرون دون المؤمنين...وهو تكلف بعد تكلف...

ثم هناك إشكال آخر , وهو أن كلمة «ونزعنا» – تعنى – الأخذ بشدة , واقتلاع الشيء من جذوره. وهذا لا يتناسب مع مقام «النبي» – على خلاف الآية الأخرى- حيث قال فيها

 ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ

حيث تشعر بالتكريم للنبي...

إن كل هذه التكلفات والإشكالات تجعلنا نعتقد بأن هذا التفسير للشهيد بالنبي لم يوافق الصواب، وبناء على ذلك ينبغى أن نبحث عن معنى آخر للشهيد، يستقيم به الكلام دون هذه التكلفات والإشكالات:

إن كلمة «شهيد» لها عدة معاني , ومن معانيها «الزعيم المتكلم باسم القوم» كما في قولة تعالى في سورة البقرة:

ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ  ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [البقرة: ٢٣].

ولو نزَّلنا هذا المعنى للشهيد على لفظ «الشهيد» – فى الآية- التى نحن بصددها نرى أن المعنى يستقيم، دون حاجة إلى أي نوع من أنواع التكلف, حيث يكون معنى الآية كما يلي:

«ونزعنا من كل أمة شهيداً – أي أشدهم كفرا وعتواً- فقلنا – لهؤلاءالعتاة-: هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق اللَّه وضل عنهم ما كانوا يفترون»...

- ولكن هل يمكن أن نتأكد من صحة هذا المعنى بدليل آخر، حتى تطمئن قلوبنا؟

- نعم يقول اللَّه تعالى فى آية سورة مريم:

ﭽ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [مريم: ٦٩].

 حيث استعمل فعل النزع هنا كما استعمل هناك – وحيث ذكر الشيعة- هنا – بدل الأمة هناك , وحيث فسر الشهيد – هناك – بأنه: أشدهم على الرحمن عتياً.

 وهكذا نرى التوافق والانسجام بين آيات القرآن – على الرغم من اختلاف سورها التى وردت فيها.

مراعاة السباق والسياق:

- بعد أن عرفنا الأصلين الكبيرين للتدبر , لابد أن هناك أموراً أخر جديرة بالاعتبار نحتاج أن نقف عندها لأنها مهمة في فهم معاني الكلام, أليس الأمر كذلك؟

- نعم إن هنال أموراً أخر منها – على سبيل المثال – مراعاة السباق والسياق لما له من أثر فى الفهم.

- ولكن ماذا تعنى بالسباق والسياق؟

- يراد بـ«السباق» الكلام السابق, والسياق: الكلام اللاحق , ذلك أن الأصل فى الكلام أن يكون بعضه آخذاً بأعناق بعض, يوضح بعضه بعضاً.

- وهل للسباق والسياق ذلك الأثر الكبير في الفهم؟

- بلا شك ,لأن الكلام إذا قطع عن سباقه وسياقه , أصبح محتملاً لوجوه كثيرة, فإذا وضعته فى سباقه وسياقه رأيت الكلام يتجه إلى وجهة محددة.

- ولكن من المعلوم أن القرآن حمَّال أوجه – كما يقال-؟

- نعم القرآن حمَّال أوجه إذا قطع عن سباقه وسياقه. ولكن إذا وضع فى سباقه وسياقه اتجه إلى معنى محدد.

-هل يمكن أن توضح لنا ذلك من خلال الأمثلة:

يقول اللَّه تعالى:

ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [الصافات: ٩٦].

لقد وقف المفسرون – عند هذه الآية – ورأوا أن «ما» فى قوله:

ﭽ ﯗ ﯘ ﭼ:

يمكن أن تكون موصولة فيكون المعنى «خلقكم والذى تعملون»

 ويمكن أن تكون مصدرية , فيكون المعنى «خلقكم وعملكم ».

 كما أن أهل الجبر اعتبروا هذه الآية أصلا فى مذهبهم...وربما رأى البعض فيها دليلاً على خلق الأفعال..وكل ذلك كان نتيجة لعدم مراعاة السباق والسياق..

فإذا ما وضعنا الآية فى سباقها وسياقها نرى أن الآية وردت على لسان سيدنا إبراهيم u منكراً على قومه المشركين عبادة الأصنام التى صنعوها بأيديهم , على حين أنهم هم والحجارة التى نحتوا منها هذه الأصنام مخلوقون للَّه تعالى:

ﭽ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭼ [الصافات: ٩٥ – ٩٦].

وهذا المعنى يتأتى على اعتبار «ما» موصولة.

أما اعتبار «ما » مصدرية. فلا يتفق مع السباق والسياق إلا بنوع من التكلف ,

 وذلك أنها إذا كانت مصدرية, يكون تقدير الكلام:

«أفتعبدون ما تنحتون واللَّه خلقكم وعملكم» فإذا قدرنا الكلام – هكذا – يكون إبراهيم u أنكر عبادتهم , وأعطاهم حجة على فعلهم , على حين المقصود إنكار ما هم عليه من العبادة وإقامة الحجة عليهم ,

 وهكذا فإعطاء الحجة لهم ينقض الإنكار عليهم...هذا إذا فسرنا «وما تعملون» بالعبادة الواردة فى أول الآية

 لكن إذا فسرنا «وما تعملون». بالنحت الوارد فى قوله «ما تنحتون» يكون المعنى: أفتعبدون ما تنحتون واللَّه خلقكم ونحتكم..

.وهو كلام لا معنى له , ويخل ببلاغة الآية , إلا إذا اعتبرنا المصدر المؤول «ونحتكم» بمعنى اسم المفعول فيصير المعنى:

أفتعبدون ما تنحتون , واللَّه خلقكم ومنحوتكم , فيعود إلى المعنى الأول , الذى يعتبر «ما» موصولة..لكن بنوع من التقدير , والكلام إذا تساوى فيه التقدير وعدم التقدير , فعدم التقدير أولى.

وهكذا فالآية ليس فيها دليل على مذهب الجبر , ولا على خلق الأفعال , وإن كان خلق الأفعال يمكن أن يكون له أدلة أخرى.

-لقد ظهر من خلال هذا المثال أهمية كبرى، لمراعاة السباق والسياق. ولكن ما الذي يدعو الى إغفال السباق والسياق في بعض الأحيان؟

- المعروف أن علم التفسير نشأ في أحضان علماء العربية عموماً، وعلماء الإعراب على وحه الخصوص. وعلماء الإعراب يوجهون اهتماماتهم إلى الوجوه الإعربية الممكنة، في موضع الشاهد الذي يلفت انتباههم. وقلما يوسعون نظرهم إلى السابق من الآيات واللاحق منها. ومن هنا تكثرالوجوه الإعرابية المفترضة في غيبة السباق والسياق.

-وهل يمكن أن تعطينا مثالاً على ذلك؟

- نعم يفول الفراء في كتابه «معاني القرآن»-عند قوله تعالى-:

ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [النحل: ٨١].

«ذكر الحر، ولم يذكر البرد، لأنه مقدر. أي: سرابيل تقيكم الحر، وتقيكم البرد...».

على حين نجد في ما تقدم من الآيات في نفس السورة قوله تعالى:

ﭽ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭼ[النحل: ٥].

فلما ذكرالدفء، عرف أنها تقي من البرد، فلا جاجة الى ذكرها مرة ثانية...

وهكذا فالأمر لا يحتاج الى تقدير مع توسيع دائرة النظر في السباق

والسياق.

وهذا المنهج الذي سلكه علماء الإعراب، في اهتمامهم بموضع الشاهد، أثر أيضا في غيرهم، فنجد أيضا علماء الفقه، يستشهدون بالآية في موضع الشاهد الذي يؤيد صحة مذهبهم.

_ وهل هناك مثال عند علماء الفقه؟

_نعم يتحدث علماء الفقه عن قضية مس المصحف وحكمها، اعتمادا على قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ [الواقعة: ٧٧ – ٧٩].

ولكن حينما توضع الآية في سباقها وسياقها، يتبين أن الآية ليست في هذا الاتجاه ,

ولننظر إلى السباق والسياق:

ﭽ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ [الواقعة: ٧٥ – ٨٠].

فالحديث إذا عن القرآن الكريم في مواقع النجوم، في اللوح المحفوظ، لا يمسه ولايصل إليه الا الملائكة المطهرون، فلا يمكن أن تصل اليه الشياطين. كما زعم الزاعمون:

ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ [الشعراء: ٢١٠ – ٢١٢].

ثم هناك فرق بين «المطهر»، و«المتطهر»، فالمطهر يكتسب الطهارة بفعل غيره. والمتطهر يكتسب الطهارة بفعله. ولذلك قال:

ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ [البقرة: ٢٢٢].

ثم الكلام جاء بصيغة النفي

ﭽ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ

ولو كان المقصود مسه من قبل الناس، فان غير المتطهرين من الناس قد يمسون القرآن. وفي هذه الحالة يكون فعلهم مخالفاً لما أخبرت به الآية من النفي ,

وأيضا فإن الضمير في «ﭚ» يمكن أن يعود إلى القرآن لكريم، كما يمكن أن يعود إلى الكتاب المكنون...

ومن هنا فإن المحققين من العلماء يرون أن الآية ليست في باب الاستدلال على ضرورة الطهارة لمس المصحف.

 غير أن ابن تيمية ‘ له تخريج لطيف يقول فيه:

الآية أفادت أن القرآن الكريم في مواقع النجوم وفي اللوح المحفوظ لايمسه إلا الملائكة المطهرون...فإذا كان هذا حال القرآن في مواقع النجوم، فكذلك ينبغي أن يكون حاله في واقع الأرض مع الناس.- وهذا الاستدلال بطريق الإشارة لا بطريق العبارة -.

- معظم الأمثلة التي ذكرتها تصلح لمراعاة السباق،بمعنى«الآيات السابقة»، ونريد مثالاً لمراعاة السياق بمعنى «الآيات اللاحقة»؟

- يصف فرعون موسى u بأنه لا يكاد يبين:

ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [الزخرف: ٥٢].

وفي آية أخرى يخاطب اللَّه موسىu بقوله:

ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭼ [طه: ٢٤ – ٣٦].

- والسؤال الذي وجه إلي:

من المعلوم أن البيان والبلاغة أمران ضروريان في الدعوة إلى اللَّه:

ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﭼ [إبراهيم: ٤].

ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭼ [النور: ٥٤].

إلى غيرذلك من الآيات التي تؤكد على أن الداعية المبلغ لدعوة اللَّه، لابد أن يكون على درجة رفيعة من البيان.فكيف إذن يرسل موسى u ليبلغ دعوة اللَّه، مع أنه كان يعاني من حبسة في لسانه أشار إليها فرعون بقوله:

ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [الزخرف: ٥٢].

واعترف بها موسى u بقوله:

ﭽ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [القصص: ٣٤].

وبقوله:

ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [طه:27].

_ وللإجابة على هذا السؤال قلت للاخ السائل:

أكمل تلاوة الآيات، فما زال يتلو حتى وصل الى قوله تعالى:

ﭽ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭼ [طه: ٣٦].

 فإذن قد استجاب اللَّه دعاء موسى u في كل ما طلبه، وكان مما طلب:

ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﭼ [طه:27- 28].

فقد حلت العقدة، والأمر لم يعد فيه مشكلة.

وهكذا نجد أن مراعاة السياق كفيلة بالوصول إلى حلول للتساؤلات التي تمليها القراءة والتفكر والتدبر...

- هل يمكن لمراعاة السباق والسياق أن يصحح خطأً في التفسير؟

نعم يمكن ذلك. وإذا أردت مثالاً على ذلك، فانظر تفسير الآية التالية:

ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ [البقرة: ١١٤].

هذه الآية مسبوقة بآيات تتحد ث عن اليهود والنصارى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ [البقرة: ١١٣].

 وكذلك متبوعة بآيات تتحدث عن اليهود والنصارى:

ﭽ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ [البقرة: ١١٥ – ١٢٠].

 مما يوحي بأن لليهود أو النصارى علاقة بمنع المساجد من أن يذكر فيها اسم اللَّه، أويسعون في خرابها.

ولكن أهل التفسير يذكرون أن المراد بـ«مساجد اللَّه»: المسجد الأقصى. وأن الذي سعى في تخريب بيت المقدس إنما هو بختنصر الذي لم يكن كتابياً....

ومن هنا فلا تظهر لهذا التفسير علاقة بالآيات السابقة أو اللاحقة..

ولو فسرنا «مساجداللَّه»- في الآية- بالبيت الحرام، وأن ذلك إشارة الى ما فعله أبرهة الحبشي الذي كان نصرانياً، والذي عزم على هدم الكعبة بعد أن بنى كنيسة في اليمن ليصرف حج الناس إليها، وأن اللَّه أخزاه في الدنيا حينما أرسل عليه وعلى جيشه ما أبادهم، كما جاء في سورة الفيل:

ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﭼ [الفيل: ١ – ٥].

لوفسرناه بذلك لكان أقرب وأوضح وأوفق مع السياق...

- ولكن ما الحكمة من مجيء «مساجد اللَّه »- بصيغة الجمع – مع أن المراد البيت الحرام فقط؟

- الحكمة أن المسجد الحرام هو قبلة المساجد كلها، فكلها تتجه إليه، ففي تخريبه تخريب لها جميعا...

يحمل القرآن على الأعم الأغلب:

من المعلوم أن المفردات قد يكون لها أكثر من معنى، وبعض هذه المعاني شائع ذائع في القرآن. وبعضها قد يكون قليلاً نادراً.

- والسؤال: إذا دار الأمر بين الشائع الذائع الذي له شواهد في القرآن، وبين القليل النادر، فعلى أيهما يعول في التفسير؟

- والجواب على ذلك:

إن القرآن يحمل على الذائع الشائع الذي له أمثلة في القرآن، ولا يحمل على القليل النادر.

- هل لك أن تبين لنا ذلك بالمثال؟

يقول اللَّه تعالى في سورة الحج     _

ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﭼ [الحج: ٥٢].

فقد فسر بعض المفسرين قوله تعالى:« ﮒ»: بمعنى«إذا تلا»، وقالوا:

 إن «التمني» يأتي بمعنى التلاوة. وهذاالمعنى وإن استشهدوا له ببعض الشعر، إلا أنه قليل نادر. ومن ثم فلا تحمل الآية على هذا المعنى.

-معلوم أن بعض الروايات تذكر هنا ما يسمى بقصة الغرانيق فما هي خلاصة هذه القصة وماعلاقتها بمعنى التمني؟

_ نعم يذكر المفسرون هذه القصة، وخلاصتها أن النبي r كان يتلو سورة النجم عند الكعبة، وأن الشيطان ألقى في مسامع المشركين أثناء التلاوة كلاما فيه مدح للأصنام:

«إنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى».

 فلما انتهى النبي من قراءة السورة سجد وسجد معه المؤمنون وسجد معه المشركون. وقالوا إن المشركين سجدوا لما سمعوا من مدح الأصنام..

- وكيف يكون معنى هذه الآية طبقا لهذه الرواية؟

- يكون المعنى «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى» – أي تلا – ألقي الشيطان في أمنيته – أي: في تلاوته- كلاماً ليس من تلاوة النبي- فينسخ اللَّه ما يلقي الشيطان – أي من الكلام في تلاوة النبي

«ثم يحكم اللَّه آياته» – بحيث لا يدخل فيها شيء مما ألقاه الشيطان.

- ولكن ما هو السند لهذه القصة؟

-القصة ضعيفة سندا - عند جمهور العلماء - وربما صححها بعضهم- ولكنها باطلة من حيث المتن والموضوع، لأن السورة كلها في ذم الأصنام وعابديها، ومن ثم فلا يمكن أن يكون فيها مدح للأصنام بعد ذلك الذم...

ثم إن مطلع الآية يشير إلى أن مثل هذا الذي حدث مع النبي هو شأن الأنبياء والرسل جميعا:

ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﭼ

 وإذا سلمنا بهذا المبدأ وجب أن يكون لكل رسول ونبي قصة غرانيق. وهذا ما لا يمكن إثباته...

- وبناء على أن هذا لا يصح، فكيف يكون تـأويل الآية؟

- نقول في الاجابة على هذا السؤال:

إن جعل «التمني» بمعنى التلاوة هو الذي ساعد على ذلك التأويل المردود، لأن التمني- بهذا المعنى- قليل نادر، ولا يحمل عليه القرآن، والأصل أن يكون التمني على بابه- مما يتطلع إليه الإنسان ويرجوه-.

 وتأسيسا على ذلك نقول:

إن هذه الآية من سورة الحج. وسورة الحج نزل بعضها قبيل الهجرة وبعضها بعد الهجرة، ومن ثم فهي أول سورة يأذن اللَّه فيها بالقتال

حيث كان القتال في مكة ممنوعا بقوله تعالى:

ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ [النساء: ٧٧].

 وكانت أول آية تأذن بالقتال هي قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ [الحج: ٣٩ – ٤١].

فقد وعدت هذه الآية المؤمنين بالنصر على المشركين وبذلك يتحقق ما يتمناه كل رسول ونبي من انتصاره على أعدائه ومن دخول الناس في دينه.

 ولكن الشيطان يلقي من الظنون والشكوك في نفوس المشركين مايجعلهم يستبعدون مثل هذا النصر. حيث جاء في هذه السورة خطاباً لهؤلاء المشركين:

 ﭽ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ  ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭼ [الحج: ١٥].

 ومعنى هذه الآية:

 إن على هؤلاء المشركين- الذين ألقى الشيطان في نفوسهم من الشبه والشكوك- ما يحاول به إبطال أمنية الرسول في انتصاره على المشركين من قومه - إن عليهم إن كانوا يظنون هذه الظنون ويؤمنون بتلك الأوهام-أن يمدوا حبالاً إلى سقوف بيوتهم، ويشنقوا أنفسهم، ويقطعوا حياتهم.

 فهل مثل هذا الفعل إذا فعلوه يذهب غيظ قلوبهم؟ كأنه يقول لهم: موتوا بغيظكم... ولن ينفعكم ذلك شيئا.

وهكذا يكون معنى«آية التمني» كما يلي:

وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى – أي تمنى الانتصارعلى أعدائه ودخول الناس في دينه- ألقى الشيطان من الشبه والشكوك في نفوس المشركين مايضعف هذه الأمنية- ثم ينسخ اللَّه ما يلقي الشيطان – من هذه الشبه والشكوك- ويحكم اللَّه آياته - حيث ينصر رسوله على أعدائه – فلا يبقى مجال لشك أو ظن.

ويتبين من كل ذلك أن حمل معنى الكلمة- على الأعم الأغلب – هو ما ينبغي التعويل عليه في فهم الكلمات القرآنية، وأن القليل النادر أو الشاذ لا مجال له في فهم القرآن وتفسيره.

نماذج للتدبر المطلوب:

- بعد أن عرفنا العلوم التي لا بد منها لفهم القران، وعرفنا أصول التدبر وقواعده، والتي يمكن الاستفادة منها في فهم القران وتفسيره،نريد أن نرى نماذج تطبيقية تراعى فيها المقدمات التي أشرت إليها. فهل لك أن تعرض لنا نماذج لذلك؟

_ نعم هناك نماذج كثيرة ومتعددة، وبعضها لسور مدنية، والبعض الأخر لسور مكية، وسنحاول إعطاء بعض النماذج حسب ما يتسع له المجال في مثل هذا الكتاب المختصر.

_ ولكن نريد أن نبدأ بالقصار من السور، وبخاصة تلك التي تبدأ بالقسم كالعاديات، والذاريات، والتين، والضحى..... وأمثالها؟

القسم القرآني:

_ المعروف أن هذه السور تبدأ بما نسميه «القسم القرآني».

- والسوأل الذي يطرح نفسه: لماذا جاءت هذه السور على أسلوب القسم؟ وما فائدة هذا الأسلوب؟

-المعروف في لغة العرب: أن القسم يفيد التأكيد، فإذا أردت أن تؤكد أمراً وبخاصة إذا كان له خطره، فإنك تستعمل أسلوب القسم....

ولكن في شريعة اللَّه لا ينبغي القسم إلا باللَّه، أو بصفة من صفاته، أو بالقرآن باعتباره كلام اللَّه، وكلام اللَّه صفة من صفاته. ومن هنا فقد نهى الإسلام عن الحلف بغير اللَّه.

«من كان حالفا فليحلف باللَّه أو ليذر»

 و«من حلف بغير اللَّه فقد أشرك».

.. وأصبح القسم يفيد تعظيم المقسم به.

ولكن اللَّه تعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته....

 وهذا القسم المتنوع بالمخلوقات ليس فيه معنى التعظيم لهذه المخلوقات، وليس يفيد مجرد التأكيد، لأن معظم الآيات القرآنية التي جاءت على أسلوب القسم كانت آيات مكية، والخطاب فيها موجه للمشركين غالبا، والمشرك المنكر لا يفيد معه القسم،لأنه بحاجة إلى دليل.. كما أن المؤمن الموقن لا يحتاج إلى القسم، لأنه مسلم بكل ما يلقى إليه من اللَّه.

- فيعود التساؤل عن الحكمة من وجود القسم في أسلوب القرآن؟

القسم شهادة واستدلال:

إن القرآن يعتبر القسم شهادة حيث لا شهادة، ومن ثم فإن آيات القرآن في سورة النور أشارت الى أن القسم شهادة:

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ [النور: ٦ – ٩].

فالمقصود بقوله«أربع شهادات باللَّه» أي:أربعة أيمان، وهذه الإيمان شهادات حيث لا يوجد شهود.

ونستنبط من هذا أن الأقسام القرآنية هى شهادات على صحة ما جاء في جواب القسم.

 وبمعنى أخر: إن هذه الأقسام لو تأملناها لوجدناها أدلة على ما يريد القرآن تأكيده في جواب القسم..

فالصيغة صيغة قسم، والحقيقة استدلال يؤكد صحة ما جاء في الجواب. ومن ثم، يسمي العلامة عبد الحميد الفراهي هذا النوع من القسم: بالقسم الاستدلالي.. وذلك بخلاف القسم العادي، الذي يفيد مجرد التأكيد..

وهذا القسم الاستدلالي: متنوع بحسب الموضوعات، الواردة في السورة، فما يصلح منه في سورة معينة: ليس يصلح في سورة أخرى، لأن أجوبة الأقسام مختلفة، ومن ثم جاءت الأقسام مختلفة، لتنسجم مع أجوبتها.

- لقد فهمنا تلك المقدمات عن أسلوب القسم،وأصبحنا متشوقين أكثر فأكثر للنماذج العملية؟

القسم بالذاريات:

_لو أخذنا على سبيل المثال «القسم الوارد في مطلع سورة الذاريات» فماذا نجد:

مطلع السورة:

ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ [الذاريات: ١ – ٦].

فـ«الذاريات»: هي الرياح التي تذرو ما تصادفه في طريقها من تراب، أو هشيم، أو غير ذلك_ ولا خلاف في ذلك بين المفسرين أنها صفة للرياح - وحذف الموصوف الذي هوالرياح اكتفاء بالصفة عن الموصوف - ومما ساعد على ذلك أن هذه الصفة خاصة بالرياح.

ولقد أشار القرآن الكريم في آية أخرى إلى فعل الرياح هذا بقوله تعالى:

ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭼ [الكهف: ٤٥].

ثم عطف على «الذاريات» بالفاء:

 ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﭼ

 وقيل في تفسيرها: السحب التي تحمل الأمطار.

ثم عطف عليها:

 ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﭼ

 وقد قيل: إنها السفن الجارية جريا سهلا.

ثم عطف عليها:

ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ

 وقيل: هي الملائكة التي تقتسم الأعمال وما يطلب إليها من أوامر إلهية..

وقيل:غير ذلك في كل من«الحاملات» و«الجاريات» و«المقسمات...»

- ولكن ما هو القول الراجح في هذه المعطوفات؟

- الذي نرجحه في هذه الأشياء المقسم بها أنها كلها من صفات الرياح، وذلك بدلالة العطف بالفاء،

 فمن أسلوب القرآن:

 أنه إذا أقسم بذوات مختلفة، جاء العطف بالواو، كما في قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ [الشمس: ١ – ١٠].

 وكما في قوله:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ [الفجر: ١ – ٥].

 وكما في قوله:

ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ [الليل: ١ – ٤].

وإذا عطف بالفاء كان لاتحاد الذات وتعدد الصفات:

 كما في قوله تعالى:

ﭽ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [العاديات: ١ – ٦].

 وتأسيساً على هذا القول:

يقسم اللَّه تعالى بالرياح الذارية التي تذرو وتفرق ما تصادفه في طريقها، ولابد لهذه الرياح الذارية من أن تكون شديدة نوعاً ما، ليتم لها الذرو, وفي أثناء هبوبها وشدتها تحمل السحب المثقلة بالأمطار.

كما قال تعالى في آية أخرى:

ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ [الأعراف: ٥٧].

ولكن الذي يحمل حملاً ثقيلاً لابد أن يؤثر ذلك على سرعته، ومن ثم قال:

ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﭼ

 أي بعد أن حملت الحمل الثقيل ضعفت سرعتها، وأصبح جريها يسراً لا شدة فيه. ثم قال:

ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ

 أي إن هذه الرياح تقسم ما تحمله من السحب شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وفي كل الاتجاهات، لتوزع ما تحمله من الأمطار الغزيرة التي تكون خيراً ورخاءاً لبعض البلدان، وتكون شراً وبيلاً بما تحدث من صواعق وسيول مدمرة لبعض البدان الأخرى....

ثم يأتي جواب القسم:

ﭽ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ [الذاريات: 5 – ٦].

 وهذا نص على ما وعد اللَّه به المؤمنين من النعيم في الجنه، وما أوعد به الكافرين من العذاب في النار، وهو خبر صدق لاشك في صحته، وأن الدينونة والجزاء بما فيها من ثواب وعقاب أمر واقع لامجال للمراء فيه....

ووجه الاستدلال:

إذا كان ما أخبر القرآن به من الوعد والوعيد، والدينونة والجزاء أمراً غيبياً لا شك في حدوثه يوم القيامة - وهو الأمر الذي ينكره المشركون - فالقرآن يقول لهم:

 إذا أردتم دليلاً على الجزاء الذي سيكون في الآخرة، فانظروا في فعل

الرياح الذارية، وتصرفها بحمل السحاب الثقال، وجريها اليسير بعد ذلك، وتوزيعها لما تحمله من الأمطار، التي تكون ثوابا ورخاء لبعض الناس، وتكون وبالاً وعقاباً على آخرين، ففي ما يحدث أمامكم في الدنيا دليل على ما سيحدث غدا يوم القيامة..

- إن ماذكرته من دلالة هذا القسم على البعث والجزاء أمرمعقول ومقبول. ولكنني أشعر أن لهذه الأقسام - وبخاصة في مطالع السور- جانبا بلاغيا جماليا، ربما أطلق عليه: براعة الاستهلال، فهل يمكن أن تضع أيدينا على شىء من هذا الجمال؟

- لاشك عندي أن كل قاريء للقرآن يرى فيه نوعاً من الجمال – على حسب استعداده واهتماماته – ويكفي– هنا – أن نشير الى جمالية التناسب في فعل الرياح الذارية:

سبق أن قلنا: إن الرياح الذارية تذرو كل ما تصادفه في طريقها. وأول شيء يتبادرإلى الأذهان، ما أشار اليه القرآن بقوله:

ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭼ [الكهف: 45].

فالرياح – هنا – تذرو الهشيم الذي هوموات النبات، فتبدده وتفرقه. وكأنها تحمله إلى مثواه الأخير. وهي في نفس الوقت تحمل أسباب الحياة بما تحمل من السحب الثقال الموقرة بالماء، وبما تقوم به من تلقيح النباتات،الأمر الذي يؤدي الى بزوغ حياة جديدة للنبات وللأحياء....إنها صورة جميلة تجمع بين نقيضين: التعفية على آثار الموات. والإمداد بأسباب الحياة....

- لقد فهمنا هذا القسم في أول الذاريات فهما جيداً. و لكن بعد هذا القسم جاء قسم آخر في قوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ [الذاريات: ٧ – ١٤].

- و نريد الآن أن توضح لنا هذا القَسَم الثاني؟

يبدأ القسم الثاني بقوله:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭼ

والمراد بالسماء – هنا- على أرجح الأقوال -: السحب والغيوم،

وليس ذلك مستغربا فقد استعمل القرآن «السماء » بهذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى:

ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﭼ [الأنعام: ٩٩].

- والمراد بالسماء هنا الغيوم بالإجماع –

كما استعملها القرآن بمعنى «سقف البيت » – في قوله تعالى:

ﭽ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭼ [الحج: ١٥].

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك...

بل إن العرب قد تطلق «السماء» على المطر، كما حدث أن النبي r كان يمشي في السوق فوجد رجلا يبيع التمر، فأدخل يده في التمر، فأصابت بللاً، قال:

 ما هذا يا صاحب الطعام؟

 قال أصابته السماء يا رسول اللَّه - يريد بذلك المطر –

 فقال النبي r:

 هلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس...

 فالشاهد قوله: أصابته السماء: يريد: أصابه المطر..

بل إن العرب يذهبون في التجوز أكثر من ذلك، فيسمون «العشب » الذي ينبت بسبب المطر النازل من السماء سماء، كما قال الشاعر في ذلك:

إذا نزل السماء بأرض قو    م رعيناه وإن كانوا غضابا.

فمراده بـ «السماء» العشب، بدليل قوله: رعيناه.

فان مجيء السماء بمعنى السحب والغيوم أمر مألوف في أسلوب القرآن، ومن ثم فليس مستغرباً..

- ولكن ما معنى «الحبك»؟

قيل إنها من «الحبك» بمعنى: الإتقان..

و قيل أقوال أخرى لا مجال لتفصيلها هنا.

والذي نرجحه فيها أنها بمعنى «تكسر الرمل والماء والغيم إذا ضربته الريح الساكتة »، ويراد بذلك تلك الجعودات التي تنسجها الرياح الخفيفة على الرمال في الصحراء، أو تلك التموجات التي تظهر على وجه الماء، أوتلك التجاعيد التي نراها في السحب وبخاصة عند الغروب... فهذه الجعودات هي الحبك..ويقال: فلان شعره حبك: إذا كان مجعوداً.

 وقد عبر البحتري في وصفه لبركة المتوكل بالحبك في قوله:

 إذا علتها الصَّبا أبدت لها حبكا       مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

وهو يريد بذلك إن ريح الصبا التي تهب من جهة الشرق، وهي ريح خفيفة إذا علت ماء بركة المتوكل أبدت لها حبكا _ أي: تموجات على السطح _ مثل الجواشن _ أي مثل حِلَق الدروع _أما حواشي البحيرة فهي مصقولة لاحبك فيها، وكذالك الجواشن في أطرافها مصقولة لا زرد فيها..

وقد عبر شاعر آخر عن ذلك بقوله:

 «نسج الريح على الماء زرد»

فالحبك تشبه زرد الدروع _ كما مر _..

- والآن كيف أصبح معنى الآية؟

- يقسم اللَّه بالسحب المتموجة المنتظمة في تجعداتها، على أن المشركين أقوالهم مختلفة في شأن الدينونة والجزاء، والتي أقسم اللَّه عليها في مطلع السورة بالذاريات _ حسب ما تقدم _

 وهذا الاختلاف مشار إليه أيضا في سورة النبأ بقوله تعالى:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ  ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ [النبأ:1- 5].

 وبعض المفسرين يجعل الاختلاف المراد في القرآن،

 ولكن السياق في الذاريات كله لإثبات الدينونة والجزاء، ويمكن الجمع بين القولين، إذا قلنا إن المراد به ما أخبر به القرآن في شأن الدينونة والجزاء...

- ولكن ما معنى قوله تعالى:«يؤفك عنه من أفك»؟

- أصل «الإفك»: صرف الأمر عن وجهه، ومنه قيل للكذب:إفك..

- ومعنى يؤفك عنه: أي يصرف عن الإيمان بالدينونة والجزاء

من أفك: أي من صرف عن فهم الأدلة الدالة عليه، والتي جاءت في أول السورة.. أومن صرفت بصيرته عن رؤية الحق..

- ثم قال:

ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ [الذاريات: ١٠ – ١٤].

- فما معنى هذا الكلام؟ وما علاقته بالكلام السابق؟

- وقبل الإجابة لابد أن نشير إلى معاني بعض المفردات أولاً:

الخراصون: االمخمنون الظانون _ ويطلق في الأصل على الذي يقدر الثمر على الشجر قبل بيعه - وفي الغالب، قد يقترب من التقدير الصحيح إذا كان يشرف على البستان من مكان عال، وإذا كان حاضر الذهن بعيدا عن السهو والغفلة... والتخريص في الثمر لايلجأ إليه إلا عند تعذر الوزن والكيل..ومن ثم فهو للضرورة...

ولكن في قضايا الإيمان، التي قامت عليها الشواهد والأدلة، لايقبل فيها التخريص والتخمين. وهو ما يلجأ إليه المشركون في شأن الدينونة والجزاء.

ومن ثم يقول اللَّه فيهم:

ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ

 أي: لعنوا وطردوا من رحمة اللَّه، ثم ذكر من صفاتهم ما يدل على عدم أهليتهم لهذا التخمين والتخريص، فإذا كان المخرص لابد أن يكون مشرفاً على البستان من مكان عال، فهؤلاء «في غمرة» وهذه الغمرة تمنعهم الرؤية الصحيحة، ثم إنهم فوق ذلك ساهون غافلون، ومن ثم فقد فقدوا الأهلية التي تقربهم من التقدير المقبول..

ثم بين الأمرالذي يخرصون فيه فقال:

ﭽ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ

أي: متى يكون يوم الدين؟ وذلك استبعادا لوقوعه.

ولكن القرآن يضعهم أمام الحقيقة التي تناسوها:

ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ

فهولاء الساهون السادرون في غيهم بحاجة إلى صعقة تعيد إليهم وعيهم.

 وهذه الآية تنقلهم نقلاً سريعاً وتضعهم أمام صورتهم يوم القيامة وهم يحرقون»

ولا يكتفى بهذا العذاب المادي، فللعذاب النفسي أيضاً نصيب في ذلك:

ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ

لقد كانوا يستعجلون عذاب الآخرة استبعاداً لوقوعه وسخرية وكانوا    يقولون:

ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭼ [الأنفال: ٣٢].

وهكذا يتبين لنا سر دلالة القسم الثاني كما تبين لنا سر القسم الأول، فكلاهما يدخل تحت ما أسميناه بالقسم الاستدلالي، الذي إذا حصل فيه التأمل والتدبر، ظهر فيه وجه الاستدلال، وربط القسم بجوابه،وظهر أن الكلام متصل لا انقطاع فيه..

- بعد أن فهمنا القسمين في سورة الذاريات وأسرارهما. هل نستطيع أن تعتبرذلك قاعدة في مثل هذه الأقسام القرآنية؟ وعلينا أن نتأملها ونكتشف ما تنطوي عليه من أسرار ودلائل؟

- بالتأكيد. وهذا ما قصدنا إليه حينما اعتبرنا القسم الاستدلالي متضمنا لأدلة لابد من توضيحها.

القسم في مطلع سورة الطور:

- هل ينطبق هذا الكلام مثلا على سورة الطور، وماجاء من القسم في مطلعها؟ وهل يمكن بيان ذلك؟

- نعم ينطبق عليها. وبيان ذلك كما يلي:

إن سورة الطور تبدأ بالقسم التالي:

ﭽ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [الطور: ١ – ٨].

الملاحظ في هذا القسم أنه أقسم بخمسة أشياء ليؤكد وقوع العذاب يوم القيامة:

 ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ

- وكيف يمكن تأكيد العذاب بالقسم بهذه الأشياء الخمسة؟

- تعتبرهذه الأشياء المقسم بها شهادات ودلائل على وقوع العذاب يوم القيامة نظراً لما وقع فيها من تعذيب - في الحياة الدنيا- أو لما يمكن أن يقع.

- وكيف ذلك؟

- لننظرفي كل واحد منها على حدة:

«الطور » – في العربية -: كل جبل مشجر. والمراد به في الآية: الجبل المعهود، الذي كلم اللَّه عليه موسى u والمشار اليه في عدد من الآيات القرآنية:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ [مريم: ٥٢].

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭼ [الأعراف: ١٧١].

ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [المؤمنون: ٢٠].

ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ [البقرة: ٥٥ – ٥٦].

فهذه الآيات تؤكد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة ليأخذوا ما في التوراة، كما تؤكد أخذهم بالصاعقة وبعثهم بعد موتهم …. وفي هذا دلالة على العذاب الأخروي كما فيه دلالة على البعث بعد الموت.

-عرفنا معنى الطور، وأن ماجرى عليه من العذاب الأصغر يدل على العذاب الأكبر:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭼ [السجدة: ٢١].

- ولكن ما المراد بالآيتين بعدها؟:

ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ

-الراجح في الكتاب المسطور-هنا-: أنه التوراة التي جعلت أسطراً متفقة منتظمة في صحائف مفتوحة غير مطوية، ولعلها «الألواح » المصرح بها في آيات أخرى:

 ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭼ [ الأعراف: ١٥٠].

- ولماذا رجحت أن المراد بالكتاب التوراة؟

- لأن التوراة نزلت في جبل الطور، ولأن نتق الجبل فوق بني اسرائيل،إنما كان ليأخذوا ما في التوراة، ثم ذكرها مقترنة بالطور. كل ذلك يرجح أنها التوراة.

- ولماذا وصف الكتاب بأنه:

«في رق منشور »؟

- ليبن أن صحائفه مفتوحة غير مطوية باعتبارها كانت ألواحاً.

- وما المراد بقوله:ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﭼ؟

- قيل في المراد به قولان:

الأول:أنه بيت في السماء بحيال الكعبة، تطوف به الملائكة – لوسقط فإنه يسقط على الكعبة-

الثاني: أن المراد به الكعبة. وهو الراجح.

- وماهو سبب ترجيحك للقول الثاني؟

- سبق أن قلنا إن الأقسام القرآنية شهادات وأدلة من عالم الشهادة، لإثبات بعض مايجري في عالم الغيب. والكعبة من عالم الشهادة

- وكيف يكون الاستدلال بالكعبة على وقوع العذاب يوم القيامة؟

- من المعلوم أن الكعبة جرى عندها تعذيب لأبرهة الحبشي وجيشه – كما جاء في سورة الفيل -:

ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﭼ [الفيل: ١ – ٥].

وهكذا فالعذاب الدنيوي عند الكعبة دليل على العذاب الأكبر يوم القيامة. علماً بأن اللَّه توعد الملحدين في بيته بالعذاب الأليم بقوله تعالى:

ﭽ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ [الحج: ٢٥].

- بعد أن عرفنا المراد بالبيت المعمور، وتوجيه القسم به.

نريد أن نعرف المراد بـ ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ؟

    -السقف المرفوع: المراد به هنا السماء. وذلك كما جاء في قوله تعالى:

ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ [الأنبياء: ٣٢].

 وهي مرفوعة بلا عمد نراها, واللَّه هو الذي يمنع سقوطها علينا. كما قال:

ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ [الحج: ٦٥].

ولو شاء أن يعذبنا بهذا السقف المرفوع بأن يسقطه علينا فإنه قادر على ذلك, كما قال:

ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [الأنعام: ٦٥].

ﭽﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﭼ[ سبأ: ٩].

و لكن اللَّه لرحمته بالناس لم يعجل لهم العقوبة , ولم يسقط عليهم قطعاً من السماء على الرغم من طلب الكافرين ذلك حينما قالوا:

ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ [الشعراء: ١٨٧].

 ففي إمكان التعذيب بإسقاط السماء على الأرض آية على العذاب في الآخرة ولاشك.

- بقي علينا أن نعرف المراد با لبحرالمسجور ودلالته؟

ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﭼ:

 قيل فيه: هو المتقد ناراً.

 وقيل: الممتلىء.

 وقيل: المحبوس.

 وقيل: هو بحر في السماء.

 وقيل: هو بحار الأرض التي يحبسها اللَّه من أن تفيض على اليابسة   فتغرقها.

 والذي نراه – واللَّه أعلم –:

 أن مجموع هذه الصفات التي ذكروها في البحر المسجور، إنما تنطبق على البحر الموجود في باطن الأرض «المائع الناري » – فهو إذاً بحر في الأرض، وليس بحراً في السماء -.

 وهو بحر متقد من النار، ممتلىء، محبوس في باطنها, يخرج في بعض الأحيان على شكل براكين, فيحرق ويدمر كل ما يصادفه في طريقه, فيكون بذلك مثالاً من عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.وذلك مصداقاً لقوله تعالى:

ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ

 حيث جمعت هذه الآية بين عذاب السقف المرفوع، وعذاب البحرالمسجور.

 و هذه الأشياء الخمسة التي أقسم اللَّه بها مما جرى عندها تعذيب للناس في الحياة الدنيا، أو مما يمكن أن تكون منها عقوبة كما لاحظنا.

 ولا شك أن مثل هذا العذاب الأدنى في الحياة الدنيا إنما يكون دليلا ً على وقوع العذاب الأكبر في الآخرة، كما هو جواب القسم:

ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ

 فلا يمكن الحيلولة دون وقوعه.

وإذا وقع فلا يستطيع أحد دفعه

ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ.

 - ولكن متى يقع هذا العذاب؟

 - عرفنا مما تقدم أن المشركين لا يؤمنون باليوم الآخر، وأنهم يكذبون بما أخبر به القرآن الكريم من العذاب يوم القيامة.

 وأن اللَّه I بين لنا بالقسم بهذه الأشياء الخمسة إمكانية هذا العذاب، وأن هناك ما يدل عليه، مما عرفه الناس في الحياة الدنيا من العقوبات الإلهية.

وأن القادر على هذه العقوبات الدنيوية قادر على إنزال العذاب بالمكذبين يوم القيامة، وأن هذا العذاب أمر مقرر في علم اللَّه، وأنه لا بد واقع في وقته المحدد.

 وأن تأخره إلى يوم القيامة إنما هو لحكمة كبرى، وليكون هناك فرصة يتوب فيها من العباد من يتوب، و يؤوب فيها إلى اللَّه من يؤوب.

جمالية القسم في مطلع سورة الطور

- كما عرفنا شيئاً من جمالية القسم في مطلع سورة الذاريات، نرغب أن نعرف شيئا من جمالية القسم في مطلع سورة الطور؟

- على الرغم من أن القسم في أوائل سورة الطور، يشير إلى مشاهد من عذاب الحياة الدنيا، يستدل بهاعلى عذاب الآخرة، إلا أن الناحية الجمالية، تأبى إلا أن تتجلى من خلال هذا القسم، ويبدو ذلك كما يلي:

يبدأ القسم بـ «الطور»:

و«الطور»- في العربية -: كل جبل مشجر – إذا قلنا إن «ال» للجنس -

فإذا جعلناها للعهد – كما هوالراجح هنا – كان المراد به الجبل الذي كلم اللَّه عليه موسى u كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو جبل مشجر ولا شك، أشار القرآن إليه , وإلى ما فيه من الشجر بقوله:

ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [المؤمنون: ٢٠].

وكما أشار إلى صفاء زيت هذه الشجرة بقوله عن المصباح:

ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ [النور: ٣٥].

والجبل المشجر: آية من آيات الجمال في هذ الكون العريض، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تختزنه كلمة «الطور» من إيحاءات وتجليات، ورصيد روحي، تكرر مراراً في قصة موسى u تعززلدينا جمال المعنى بجمال المبنى. فغدا جمالاً على جمال.

و«كتاب مسطور. في رق منشور»:

والكتاب المسطور بالكلمات كتاب جميل، وتتأكد جماليته إذا كان

بحيث تظهرسطوره متناسقة متوافقة، فإذا أضفنا إلى ذلك، أن المراد بالكتاب: التوراة ومافيها من هدى ونور ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮭ ﭼ [المائدة: 44].

كان ذلك لنا نوراً على نور.

و«البيت المعمور»:

سبق أن رجحنا أن المراد بالبيت المعمور: الكعبة المعمورة بالطائفين والعاكفين والركع السجود، ولاشك بأن منظر الكعبة مع هؤلاء العمَّار منظر جميل، يلفت إليه الأنظار، كما أن مجرد النظر إليها، عبادة تستحق الثواب.

و«السقف المرفوع »:

ورد «السقف المرفوع » وصفاً للسماء في قوله تعالى:

ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ [الأنبياء: ٣٢].

كما وردت آيات أخر في زينتها وجمالها، والسماء قد يراد بها السحاب، وأياً ما كان المراد بها فهو جميل.

و«البحرالمسجور»:

رجحنا أن المراد به: المتقد ناراً، ولا شك بأن منظر البحر المتقد ناراً

رائع – يجمع بين الجمال والخوف-.

نظرة جمالية شاملة:

ولونظرنا نظرة جمالية شاملة، لمفردات هذا القسم، لرأينا تناسقاً بديعاً، بين الطورالمسطور بالأشجار، والكتاب المسطور بالكلمات، والبيت المعمور بسطور من الطائفين والعاكفين والركع السجود. ولرأينا تناظراً عجيباً، بين السقف المرفوع الذي يوجه سهام أشعته نحو الأرض، وبين البحر المسجورالذي يدفع بسهام غليانه تجاه السماء

نماذج تأثرت بالقرآن:

ولكن أليس من المناسب بعد ماعرفناه، من حديثنا عن القرآن وما يتصل به، أن نعرف شيئا عن النماذج التي تأثرت بالقرآن من أعلام النهضة المعاصرة؟

-       والجواب على هذا بلى - ولقد جاء سؤالك هذا في وقته- لأن هؤلاء الأفذاذ، هم النماذج العملية التي يقتدى بها، والذين كان للقرآن الأثر الأكبر في حياتهم، وفي العطاء العظيم الذي قدموه لأمتهم، وسيبقى عملهم وجهدهم، نبراسا يضيء للأجيال القادمة طريقها نحو الغد المشرق المأمول.

- حسنا إننا متشوقون لمعرفة هؤلاء الأعلام وكيفية تأثرهم بالقرآن؟

- تأثرمحمد إقبال بالقرآن الكريم:

 يقول العلامة أبوالحسن الندوي:

لقد أثر القرآن الكريم في عقلية محمد إقبال وفي نفسه، ما لم يؤثر فيه كتاب ولا شخصية. وقد أقبل على قراءة هذا الكتاب إقبال رجل حديث عهد بالإسلام، فيه من الاستطلاع والتشويق ما ليس عند المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب العجيب، فيما ورثوه من مال ومتاع ودار وعقار. وقد وصل هذا المهتدي إليه بشق النفس وعلى جسر من الجهاد والتعب.

كان سرور محمد إقبال، باكتشاف هذا العالم الجديد، من المعاني والحقائق أعظم من سرور «كلومبس »، حينما اكتشف العالم الجديد ونزل على شاطئه. أما الذين ولدوا ونشأوا في هذا العالم الجديد، فكانوا ينظرون إلى «كلومبس » وأصحابه باستغراب ودهشة، ولا يفهمون معنى لما كان يخامرهم من سرور وفرح، لأنهم لا يجدون في هذا العالم شيئاً جديداً.

- ولكن هذا الكلام الذي يقوله العلامة الندوي يشعر بأن قراءة محمد إقبال للقرآن كانت قراءة متميزة؟

- هو كذلك لقد كانت قراءة محمد إقبال للقرآن قراءة تختلف عن قراءة الناس، ولهذه القراءة الخاصة فضل كبير في تذوقه للقرآن، واستطعامه إياه، وقد حكى قصته لقراءة القرآن فقال:

 «كنت قد تعمدت أن أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم، وكان أبي يراني، فيسألني ماذا أصنع..؟ فأجيبه أقرأ القرآن. وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات، يسألني سؤاله، فأجيبه جوابي.

 وذات يوم قلت له: ما بالك يا أبي تسألني نفس السؤال وأجيبك جواباً واحداً، ثم لا يمنعك ذلك من إعادة السؤال مــن غــد..؟

 فقال: إنما أردت أن أقول لك: يا ولــدي، إقرأ القرآن كأنما نزل عليــك..

ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت ».

-       وهل استمر محمد إقبال على هذه الطريقة في القراءة

 نعم، لم يزل محمد إقبال إلى آخر عهده بالدنيا، يغوص في بحر القرآن،

 ويطير في أجوائه، ويجوب في آفاقه، فيخرج كل يوم بعلم جديد,

 وإيمان جديد، وإشراق جديد، وقوة جديدة،.

 وكلما تقدمت دراسته، اتسعت آفاقه ومداركه، وازداد إيماناً بأن القرآن

هو الكتاب الخالد، والعلم الأبدي وأساس السعادة، ومفتاح الأقفال

 المعقدة، وجواب الأسئلة المحيرة، وأنه دستور الحياة، ونبراس

 الظلمات.

ولم يزل يدعو المسلمين وغير المسلمين إلى التدبر في هذا الكتاب

 العجيب، وفهمه ودراسته والاهتداء بــه لحل مشكلات العصر،

 واستفتائه في أزمات المدنيــة، وتحكيمه في الحياة والحكم، ويعتب

 على المسلمين إعراضهم عن هذا الكتاب، الذي يرفع اللَّه به أقواماً،

 ويضع آخرين. يقول في مقطوعة شعرية:

«إنك أيها المسلم لاتزال أسيراً للمتزعمين للدين، والمحتكرين للعلم،

 ولا تستمد حياتك من حكمة القرآن رأساً. إن الكتاب الذي هو مصدر

 حياتك ومنبع قوتك، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتقرأ

 عليك سورة ' يس ' لتموت بسهولة. فواعجباً ! قد أصبح الكتاب الذي

 أنزل لمنحك الحياة والقوة، يتلى الآن لتموت براحة وسهولة».

وقد أصبح محمد إقبال، بفضل هذه الدراسة العميقة والتدبر، لا يفضل

 على هذا الكتاب شيئاً، ولا يعدل به تحفة فريدة، أوهدية لأغنى رجل

 في العالم، وأعظم الرجال علماً وعقلاً، ولذلك لما دعاه نادر خان ملك

 أفغانستان إلى كابل، ونزل ضيفاً عليه أهدى محمد إقبال إلى الملك

 نسخة من القرآن وقدمها إليه قائلاً:

«إن هذا الكتاب رأس مال أهل الحق، في ضميره الحياة، وفيه نهاية كل

 بداية، وبقوته كان علي فاتح خيبر»..

 فبكى الملك وقال: «لقد أتى على نادر خان زمان، وما له أنيس سوى

 القرآن، وهو الذي فتحت قوته كل باب».

-عرفنا مماتقدم أثر قراة القرآن المتميزة في محمد إقبال. فهل هناك

 عامل آ خر، كان له تأثيره فيه، يمكن إضافته إلى ذلك؟

- يرى العلامة الندوي أن المؤثر الآخر الذي يرجع إليه الفضل في

 تكوين سيرة «إقبال» وشخصيته، وفي قوة شعره وتأثيره، وجدة

 المعاني وتدفق الأفكار، هو أنه لم يكن يقتصر على دراسة الكتب

 والاشتغال بالمطالعة، بل كان يتصل بالطبيعة من غير حجاب،

 يتعرض للنفحات السحرية، ويقوم في آخر الليل، فيناجي ربه، ويشكو

 بثه وحزنه إليه، ويتزود بنشاط روحي جديد، وإشراق قلبي جديد،

 وغذاء فكري جديد، فيطلع على أصدقائه وقرائه بشعر جديد، يلمس

 الإنسان فيه قوة جديدة وحياة جديدة، ونوراً جديداً، لأنه يتجدد كل يوم،

 فيتجدد شعره، وتتجدد معانيه.

«وكان عظيم التقدير لهذه الساعات اللطيفة التي يقضيها في السحر،

 ويعتقد أنها رأس ماله ورأس مال كل عالم ومفكر، لا يستغني عنها

 أكبر عالم أو زاهد، يقول في بيت:

«كن مثل الشيخ فريد الدين العطار في معرفته، وجلال الدين الرومي

 في حكمته، أو أبي حامد الغزالي في علمه وذكائه، وكن من شئت في

 العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل، حتى تكون لك أنَّة في السحر».

«وكان شديد المحافظة على ذلك كثير الاهتمام به، يقول في مطلع

 قصيدة:

 «رغم أن شتاء انجلترا كان قارساً جداً، وكان الهواء البارد يعمل في

 الجسم عمل السيف، ولكني لم أترك في لندن التبكير في القيام».

 «كان لا يبغي به بدلاً، ولا يعدل به شيئاً، يقول في بيت:

«خذ مني ما شئت يارب! ولكن لا تسلبني اللذة بأنة السحر، ولا

 تحرمني نعيمها »، بل كان يتمنى على اللَّه أن تتعدى هذه الأنة

 السحرية، والحرقة القلبية إلى شباب الأمة المتنعمين، فتحرك سواكن

 قلوبهم، وتنفخ الحياة في هياكلهم، يقول في قصيدة:

«اللَّهم جَرّح أكباد الشباب بسهام الآلام الدينية، وأيقظ الآمال والأماني

 النائمة في صدورهم، بنجوم سماواتك التي لا تزال ساهرة، وبعبادك

 الذين يبيتون الليل سجداً وقياماً، ولا يكتحلون بنوم، وارزق الشباب

 الإسلامي لوعة القلب وارزقهم حبي وفراستي».

ويقول في قصيدة:

«اللَّهم ارزق الشباب أنّتي في السحر، وأنبتْ لصقور الإسلام القوادم

 والخوافي، التي تطير بها وتصطاد، وليست لي أمنية يا رب! إلا أن

 تنتشر فراستي، ويعم نور بصيرتي في المسلمين»(روائع إقبال 54- 56).

ولكن أين شباب اليوم واهتماماتهم من ذلك كله؟ وما الذي أصابهم

 وأقعدهم عن طلب المعالي؟

-       يرى الدكتور محمد إقبال ‘:

أن شباب جيله ضحية نظام التعليم الحديث، فقد جنت عليه المدرسة

 جناية عظيمة،إذ اعتنت بتربية عقله، وتثقيف لسانه، ولم تول اهتماماً

 لتغذية قلبه وإشعال عاطفته، وتقويم أخلاقه وتهذيب نفسه. فنشأ غير

 متوازن القوى...

وأصبحت المسافة بين ظاهره وباطنه، وعقله وقلبه، وعلمه وعقيدته،

 مساحة شاسعة. بل أصبح التفاوت بين عقله وجسمه كبيراً....

- هذا كلام جيد في جملته. وربما يحتاج الى مزيد بيان. فهل من مزيد؟

- لقد صور إقبال جيله تصويراً دقيقا فقال:

«إن الشباب المثقف فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه،

 مظلم الروح، مستنير العقل، كليل البصر، ضعيف اليقين، كثير اليأس,

 لم يشاهد في هذا العالم شيئا.

-       ولكن ما السبب الذي يجعلهم كذلك؟

-       يرى إقبال أن السبب في ذلك فقدهم الثقة بأنفسهم – وفي ذلك يقول-:

«هؤلاء الشبان أشباه الرجال ولا رجال. ينكرون نفوسهم، ويؤمنون

بغيرهم. يبني الأجانب من ترابهم الإسلامي كنائس وأدياراً.

شباب ناعم رخو، رقيق في الشباب كالحرير. يموت الأمل في مهده في

 صدورهم، ولا يستطيعون أن يفكروا في الحرية.

إن المدرسة قد نزعت منهم العاطفة الدينية، وأصبحوا خبر كان.

 أجهل الناس لنفوسهم وأبعدهم من شخصياتهم. شغفتهم الحضارة

 الغربية، فيمدون أكفهم إلى الأجانب، ليتصدقوا عليهم بخبز شعير،

 ويبيعون أرواحهم في ذلك.

- ولكن ماذا يفعل المدرسون إزاء ذلك كله؟

- ويجيب إقبال عن ذلك قائلاً:

إن المعلم لا يعرف قيمتهم، فلم يخبرهم بشرفهم، ولم يعرفهم

 بشخصيتهم , مؤمنون ولكن لايعرفون سر الموت، ولا يؤمنون بأنه لا

 غالب إلا اللَّه. يشترون من الإفرنج اللاة ومناة. مسلمون لكن عقولهم

 تطوف حول الأصنام.

إن الإفرنج قد قتلوه من غير حرب وضرب. عقول وقحة، وقلوب

قاسية، وعيون لا تعف عن المحارم، وقلوب لاتذوب بالقوارع. كل ما

 عندهم من علم وفن، ودين وسياسة، وعقل وقلب، يطوف حول

 الماديات. قلوبهم لاتتلقى الخوطر المتجددة، وأفكارهم لا تساوي شِيئاً.

 حياتهم جامدة، واقفة، متعطلة »

- ولكن هل هذا النقد موجه الى إلى المدرسة الحديثة وحدها؟

- كلا، فإقبال يرى أن القصور في نظام التعليم يشمل الزاوية –

 والكتاتيب - كما يشمل المدرسة. وفي ذلك يقول:

«لقدخرجت من المدرسة والزاوية حزينا، لم أجد فيهما الحياة، ولا

 الحب، ولا الحكمة، ولا البصيرة...

أما رجال المدرسة ففاقدو البصر، وميتو الذوق.

وأما شيوخ الزاوية فقاصرو الهمة، ضعيفو الطلب، قليلو البضاعة.

- ولكن ما السبب في جبن هذا الجيل وضعفه الخلقي؟

- يرى أن السبب في جبن هذا الجيل، وضعفه الخلقي، هو الوضع

   التعليمي الحاضر، الذي أهمل الجانب الخلقي، فنشأ الشباب نشأة

   متحللة.

- وماذا يقول في ذلك؟

 - يقول:

«لا أستغرب أيها الشباب المتعلم، أنك حيي جبان، فإن قلبك بارد لا

 لوعة فيه، ولا حرارة، ونظرك غير عفيف، إن الشباب المثقف الذي

 استنارت عينه بنور الإفرنج قد يكون لبقا في الحديث متشدقا في

 الكلام، ولكن عينه لا تعرف الدموع، وقلبه لا يعرف الخشوع».

- ولكن من المسؤول عن ذلك؟.

- يرى إقبال أن المدرسة هي المسئولة عن هذا المسخ الخلقي، وهي

 التي نزلت بالشباب المسلم من مقامه الرفيع إلى المحل الوضيع.

- ولكن كيف؟

 يقول في ذلك:

«أشكو إليك يا رب ! من ولاة التعليم الحديث، إنهم يربون فراخ

 الصقور، تربية بغاث الطيور، وأشبال الأسود تربية الخرفان '.

- وهل يرى إقبال أسبابا أخرى لهذا الضعف؟

- من أكبر أسباب هذا الضعف في اعتقاده:

 - الذل والتقدير الزائد للمادة، والنظر إلى الوظيفة والمرتب كغاية

 للتعليم، يقول في ذلك:

 «إن ذلك العلم سم ناقع للأفراد الذين ليست لهم غاية، إلا حفنتان من

شعير» - يعني الراتب الذي يتقاضاه الموظف -.

ويرى أن نظام التعليم العصري، يبعث في الشباب المسلم، تقليد الإفرنج

 وحب الزينة وحياة الترف.

- وماذايقول في ذلك؟

 - يقول مخاطبا الشباب:

 «أيها الشباب المسلم.. إني أكاد أبكي دماً، وأنا أراك في هذا الترف

 والبذخ، لا خير فيك، ولــو أصبحت ملك الدنيا، ما دمت متجرداً مــن

 قوة علي واستغناء سلمــان».

- كما يرى أن هذا النظام مصاب بالتتقليد والجمود مفتقرإلى الابتكار:

- «إن العالم أسير التقاليد، والأوضاع، وإن المدرسة منحصرة في

 نطاق ضيق، يا للأسف! إن الرجال الذين كانوا يستطيعون أن يكونوا

 أئمة زمانهم، أصبحت عقولهم بالية، وفقدت كل نشاط وجدة، فاقتنعوا

 بتقليد عصرهم.

ويقول أيضاً:

«يتراءى لك أن الشباب المتعلم حي يرزق، ولكنه في الحقيقة ميت،

 استعار حياته من الغرب».

-       وماذايقول للشاب المتفرنج؟

-        يقول:

 لا نأمل منك - أيها المتفرنج - أن تطرد المستعمرين، لأنك بناء قد

 بنوه. جسمك في نظري فارغ من معرفة النفس، فأنـت غمد محلى بغير

 سيــف، وجود اللَّه غير ثابت في نظرك، ووجودك غير ثابت في

 نظري».

-       ولكن كيف ينظر محمد إقبال إلى نظام التعليم الغربي؟

-       لقداكتوى محمد إقبال بنار نظام التعليم الغربي، وخاض في دراسته،

 فأبدىحقيقته في أسلوب جاد عميق،مؤسس على التجارب الشخصية،وفي ذلك يقول:

«إياك أن تكون آمنا من العلم الذي تدرسه، فإنه يستطيع أن يقتل روح

أمة كاملة».

ويرى أن نظام التعليم الغربي، مؤامرة على الدين والخلق:

«إن نظام التعليم الغربي، إنما هو مؤامرة على الدين والخلق

 والمروءة».

ويقول إقبال:

 إنه من أولئك الرجال المعدودين، الذين خاضوا بحر نظام التعليم

 الغربي، وخرجوا منه سالمين، وازدادوا إيماناً بخلود الإسلام،

 وازدادوا ثقة بأنفسهم:

«كسرت طلسم العصر الحاضر، وأبطلت مكره، والتقطت الحبة من

 شبكة الصياد، يشهد اللَّه أني كنت في ذلك مقلدا لإبراهيم، فقد خضت

 في هذه النار واثقا بنفسي، وخرجت منها سليما محتفظا بشخصيتي».

-ولكن كيف استطاع إقبال أن يصمد أمام الثقافة الغربية هذا الصمود؟

- لقد استطاع إقبال أن يصمد هذ الصمود، لأنه كان محصنا بثقافة

 القرآن. ويعبر عن ذلك بهذه الاستعارة البيانية الجميلة:

«ذهبت إلى أوروبا وخرجت منها كما خرح إبراهيم من نار النمرود. لم

يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ولا أن يعشي بصري وذلك

 لأني اكتحلت بإثمد المدينة.

-       وماهي الأمنيات التي يرجوها لمستقبل الشباب؟

-       أخيراً يتمنى محمد إقبال للإسلام جيلاً جديداً: ' شبابه طاهر نقي

 وضربه موجع قوي، إذا كانت الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وإن كان الصلح فهو في وداعته كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل ومرارة الحنظل. هذا مع الأعداء وذاك مع الأولياء.

-       ويؤكد هذه المعاني بعبارة أخرى فيقول:

إذا تكلم كان رقيقا رفيقا، وإذا جد في الطلب كان شديدا حفيا. وكان في

 حالتي الحرب والصلح عفيفا نزيها. آماله قليلة، ومقاصده جليلة، غني

 القلب في الفقر، فقير الجسم والبيت في الغنى.غيور في العسر، رؤوف

 كريم عند اليسر. يظمأ إن أبدي له الماء منة، ويموت جوعا إن رأى

 في الرزق ذلة.. إذا كان بين الأصدقاء كان في النعومة كالحرير، وإن

 كان بين الأعداء كان صلبا كالحديد.

-       ويؤكدذلك أيضاً بمثل هذه الاستعارات الأدبية الجميلة الرائعة:

كان طلا وندى، تتفتح به الأزهار وترف به الأشجار، وكان طوفانا

 تصطرع به الأمواج، وترتعد له البحار. إذا عارض في سيره صخورا

 وجبالا، كان شلالا، وإن مر في طريقه بحدائق، كان ماءا سلسلا..

يجمع بين جلال إيمان الصدَيق وقوة علي، وفقر أبي ذر، وصدق

 سلمان، يقينه بين أوهام العصر كالمصباح في ظلمات الصحراء،

 يعرف في محيطه بحكمته وفراسته، وبأذان السحر.

-       ويتحدث عن طموح الشباب وآماله، وترفعه عمالايليق به، فيقول:

الشهادة في سبيل اللَّه أحب إليه من الحكومات والغنائم.. يقتنص النجوم

 ويصطاد الأسود، ويباري الملائكة، ويتحدى الكفر والباطل أينما كان.

 يرفع قيمته ويزيد في سعره، حتى لا يستطيع أن يشتريه غير ربه..

 شغلته مآربه الجليلة، وحياة الجد والجهاد عن زينة الجسم والتأنق في

 اللباس. وشعر بإنسانيته، فترفع عن تقليد الطاووس في لونه،

 والعندليب في حسن صوته».

-       ويذكر تمرده على العلوم الغربية، وتفلته من شباكها، واحتفاظه

 بعقيدته، وإيمانه وخصائصه، فيقول بحق وجدارة:

 كنت كطائر يقع على شبكة، فيقرض منها الحبال، ويأخذ الحب، ويطير

 بسلام.

-       وكان قد ظفر بلب العلوم الغربية ولبابها، ورمى بقشورها، وخرج

 من حبائلها سالماً.. يقول في افتخار واعتزاز:

   يعلم اللَّه ! أني رحلت في أعماق هذه العلوم واكتويت بنارها، من

 غير أن أرزأ في عقيدتي، وخلقي وصلتي باللَّه. وقد جلست في نارها بشجاعة، وخرجت منها بسلامة، كما كان شأن إبراهيم u مع نار نمرود»

-       عرفنا شيئا كثيرا عن تأثر العلامة محمدإقبال بالقرآن. فهل لك أن

تعرفنا على علم آخر كان له مثل هذاالتأ ثر؟

تأثر سيد قطب بالقرآن

نعم إنه العلامة سيد قطب الذي اشتهر بكتابه الكبير «في ظلال القرآن»

ولكن قبل أن نعرف شيئا عن «الظلال » نريد أن نعرف شيئأ عن

 صاحب «الظلال » ومدى صلته بالقرآن؟

ترجع قصة صاحب «الظلال » مع القرآن، إلى فترة صباه - كما يحدثنا

 عن ذلك في مقدمة كتابه «التصوير الفني في القرآن »والذي أهداه إلى

 أمه حيث يذكر فيه أنه كان ينظر إلى أمه و هي «تتسمع من وراء

 «الشيش»- الستار- إلى القراء، وهم يرتلون القرآن خلال شهر

 رمضان() و هو معها يحاول أن يلغو كالاطفال، فترده منها إشارة

 حازمة، وهمسة حاسمة، فينصت معها إلى الترتيل الجميل، وتتشرب

 نفسه موسيقاه، وإن لم يفهم بعد معناه ».

- وماذا بعد؟

- ُثم تدفع به أمه إلى المدرسة الابتدائية في القرية، وأولى أمانيها أن

 يفتح اللَّه عليه فيحفظ القرآن، وأن يرزقه الصوت الرخيم، فيرتله لها

 كل آن، ولقد تحقق لها شطر من أمانيها بعد أن فتح اللَّه عليه فحفظ

 القرآن. ولئن كان قد فاته جمال الترتيل، فعسى أن لا يكون قد فاته

 جمال التأويل.

- ثم ماذا؟

 - لقد ذهبت أيام الصبا بذكرياتها الحلوة، ودخل «صاحب الظلال»

 المعاهد العلمية فقرأ تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعه من

 الأساتذة، ولكنه لم يجد في ما يقرأ أو يسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل،

 الذي كان يجده في الطفولة والصبا. ثم عاد إلى القرآن يقرؤه في

 المصحف لا في كتب التفسير، وعاد يجد القرآن الجميل الحبيب،

و يجد صوره المشوقة اللذيذة، إنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك،

 لقد تغير فهمه لها، فعاد الآن يجد مراميها و أغراضها، و لكن سحرها

 ما يزال، وجاذبيتها ما تزال

 - ثم ماذا؟

 - في عام1944 أصدر صاحب الظلال كتاب «التصوير الفني في

 القرآن» وحين انتهى من التحضير للبحث وجد أنه يشهد في نفسه مولد

 القرآن من جديد.

 لقد كان القرآن جميلا في نفسه.. نعم. ولكن جماله كان أجزاء وتفاريق،

 أما اليوم فهو عنده جملة موحدة تقوم على قاعدة التصوير، قاعدة فيها

 من التناسق العجيب ما لم يكن يحلم من قبل به، وما لا يظن أحدا

 تصوره.

ولقد أكد هذه الحقيقة الشيخ علي الطنطاوي بعد قراءته للكتاب قائلا:

«...وذهبت فقرأت الكتاب، فوجدته فتحا واللَّه جديداً، ووجدته قد وقع

 على كنز، كأن اللَّه ادخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد قبله، حتى جاء هو

 ففتحه»

- الرسالة –السنة: 13- المجلد الثاني -:عدد:648 – ص:1313-

 ديسمبر1945

هذا هو «صاحب الظلال» الذي اكتشف نفسه في اللحظة المناسبة،

 واستجاب لمهمته التاريخية بما وهبه اللَّه من قوة في إدراكه، ونفاذٍ في

 بصيرته، وإشراق في عبارته،وإبداع في بحثه، وبما هيأ له من

 ظروف نفسية وتاريخية عاش بها مع القرآن تجربة حية واقعية لا

 يعرفها إلا من ذاقها كما يقول في مقدمة الظلال:

الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلّا من ذاقها. نعمة ترفع

 العمر وتباركه وتزكيه.

والحمد للَّه.. لقد منّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت

 فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع

 العمر وتباركه وتزكيه.

لقد عشت أسمع اللَّه - سبحانه - يتحدث إليّ بهذا القرآن.. أنا العبد القليل

 الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة

 للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه

 الكريم؟

وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في

 الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب

 أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال،

 واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات

 الأطقال. ولثغة الأطفال.. وأعجب..

 ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون

 النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟

عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع

 النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس

 إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب،

 وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن،

 وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي،

 وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضي ء؟

وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان

 كما يريدها اللَّه، وحركة هذا الكون الذي أبدعه اللَّه.. ثم أنظر.. فأرى

 التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم

 بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها

 اللَّه عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى

 هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد!!!

الظلال... وكتب التفسير:

- يرى بعض الناس أن «الظلال» ليس تفسيرا ككتب التفسير المعهودة.

 فإلى أي مدى يصح مثل هذا الكلام؟

- لقد قلت قديماً:

إني لأشفق على الظلال أن يكون كتابا ككتب «التفسيرالمعهودة» ذلك

 أن الغاية التي يهدف إليها أكبر بكثير من مجرد المعرفة النظرية

 الباردة، لمعاني الآيات القرآنية» والتي يتسع الجدل فيها حول مسائل

 اللغة، والكلام والفلسفة، والفقه والتاريخ...

وهذه أمور علمية محض، حيث إن علم التفسير يستطيع أن يبين لنا

 وجه الحق فيما يعتقده المؤمنون. ولكن هذا «الحق» لن تكون له علاقة

 بالواقع إلا في المجال الفكري، وهي علاقة نظرية خالصة بين الحياة

و العلم».

أما الغاية التي يهدف إليها الظلال فهي أن يعود القرآن حيا في نفوس

 الناس يصوغهم صياغة جديدة، وينقلهم من مجتمع الجاهلية إلى مجتمع

 الإسلام فيسمهم بميسهم الحق ويطبعهم بطابع الهدى، و يصبغهم

 بصبغة اللَّه....

- هذ االكلام ربما يحتاج إلى مزيد من الإيضاح؟

 - هذا المعنى هو الذي قصد إليه الأستاذ مالك بن نبي في حديثه عن

زعيم من زعماء الحركة الإسلامية حين يقول:

 «... ولقد ظفرت الحركة بزعيم، لم يكن فيلسوفا، أوعالم كلام، فقد

 اكتفى بأن بعث في الناس إسلاما خلع عنه سدول التاريخ، وما كان له

 من نظرية يركن إليها سوى القرآن نفسه، و لكنه القرآن الذي يحرك

 الحياة،.... فلكي يتم تغيير الفرد لم يعتمد ذلك الزعيم سوى الآية

 القرآنية، ولكنه كان يستشهد بها في نفس الظروف النفسية التي كان

 يستشهد فيها النبي r وصحابته من بعده...

 وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيراً عميقا ً في سامعيه فما ذلك

 إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل

 كيانها»([3])!

- والعلم الغزير والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال.. مع الإمساك ومع الإرسال.. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك اللَّه فيه. وزهيد من المتاع يجعل اللَّه فيه السعادة.

- والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد. في كل أمر وفي كل وضع، وفي كل حال.. ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!

- ومن رحمة اللَّه أن تحس برحمة اللَّه! فرحمة اللَّه تضمك وتغمرك وتفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.

- والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. وهو عذاب لا يصبه اللَّه على مؤمن أبدا. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».

- ورحمة اللَّه لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال:

 - وجدها إبراهيم u في النار.

- ووجدها يوسف u في الجب كما وجدها في السجن.

- ووجدها يونس u في بطن الحوت في ظلمات ثلاث.

- ووجدها موسى u في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه.

- ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ».

- ووجدها رسول اللَّه r وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار..

- ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها. منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب اللَّه وحده دون الأبواب.   

- ثم إنه متى فتح اللَّه أبواب رحمته فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها.

- ومن ثم فلا مخافة من أحد. ولا رجاء في أحد. ولا مخافة من شي ء، ولا رجاء في شيء. ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع الوسيلة

- إنما هي مشيئة اللَّه. ما يفتح اللَّه فلا ممسك. وما يمسك اللَّه فلا مرسل. والأمر مباشرة إلى اللَّه.. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك.

ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ ٢..

-وما بين الناس ورحمة اللَّه إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام.

ﭽ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ.

- فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه. فما أحد بمرسل من رحمة اللَّه ما أمسكه اللَّه.

-أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!

- آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها. ذهبت أم جاءت. كبرت أم صغرت. جلت أم هانت. كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!

- صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات. ولو تضافر عليها الإنس والجن. وهم لا يفتحون رحمة اللَّه حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها..

ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ

- وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام. الفئة التي صنعت على عين اللَّه بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة، تنشئ في الأرض ما شاء اللَّه أن ينشئ من عقيدة وتصور، وقيم وموازين، ونظم وأوضاع. وتقر في الأرض ما شاء اللَّه أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام. الفئة التي كانت قدرا من قدر اللَّه يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء اللَّه من محو ومن إثبات. ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها.. وكفى.. ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن، وتعيش في واقعها بها، ولها..

- وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الأرض - بإذن اللَّه - ما يشاء اللَّه.. ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب، فتأخذها جدا، وتتمثلها حقا. حقا تحسه، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار..

- ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد للَّه على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية..

- لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة.. واجهتني في ذات اللحظة.

- ويسر اللَّه لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدم نفسها لي تفسيرا واقعيا لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيرا. ومررت بها من قبل كثيرا.

- ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا.. نموذجا من رحمة اللَّه حين يفتحها. فانظر كيف تكون!

- إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي.

- وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني!

- إنها رحمة اللَّه يفتح اللَّه بابها ويسكب فيضها في آية من آياته. آية من القرآن تفتح كوة من النور. وتفجر ينبوعا من الرحمة. وتشق طريقا ممهودا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان. اللَّهم حمدا لك. اللَّهم منزل هذا القرآن. هدى ورحمة للمؤمنين([5])

-ولكن هل كان للإمام البنا اهتمام خاص بالشباب؟

-نعم كان له عناية خاصة بهم، وكان حسن الظن بقدراتهم، ومايمكن أن يقوموا به في التغيير المنتظر، الذي يضع الأمة على الجادة، ومن ثم فكثيراً ما كان يتوجه بالخطاب إليهم. ولا أدل على ذلك من تلك الرسالة الي توجه بها إليهم، والتي جعل عنوانها: إلى الشباب، والتي صدرها بالآية القرآنية:

ﭽﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥﯦ  ﯧ   ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ  ﯬ  ﯭﯮ  ﯯ  ﯰ   ﯱ  ﯲﯳ  ﯴ     ﯵ  ﯶ  ﯷ  ﯸ     ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ   ﯾ  ﯿ  ﰀ  ﰁ  ﰂ  ﰃ  ﰄﰅ  ﰆ  ﰇ  ﰈ     ﰉ  ﰊﰋ  ﰌ   ﰍ    ﰎ  ﰏ   ﰐ  ﰑ  ﰒ  ﰓ  ﰔ  ﰕ  ﰖ     ﰗ  ﰘ  ﰙ   ﭑ  ﭒ  ﭓ   ﭔ  ﭕ  ﭖ   ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ   ﭜ   ﭝ   ﭞ   ﭟ  ﭠﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ     ﭧﭨ  ﭩ     ﭪ  ﭫ  ﭬﭼ سبأ: ٤٦– ٥٠

ولعله من المستحسن هنا:أن نقتطف منها بعض الفقرات:

أيها الشباب:

إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها. وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل من خصائص الشباب. لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب. ومن هنا كان الشباب قديماً وحديثاً في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل  فكرة حامل رايتها:

  ﭽ ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝﭼ

ومن هنا كثرت واجباتكم، ومن هنا عظمت تبعاتكم، ومن هنا تضاعفت حقوق أمتكم عليكم، ومن هنا ثقلت الأمانة في أعناقكم. ومن هنا وجب عليكم أن تفكروا طويلاً، وأن تعملوا كثيراً، وأن تحددوا موقفكم، وأن تتقدموا للإنقاذ، وأن تعطوا الأمة:حقها كاملا من هذا الشباب.

قد ينشأ الشاب في أمة وادعة هادئة، قوي سلطانها واستبحر عمرانها، فينصرف إلى نفسه اكثر مما ينصرف إلى أمته، ويلهو ويعبث وهو هادئ النفس مرتاح الضمير.

وقد ينشأ في أمة مجاهدة عاملة قد استولى عليها غيرها، واستبد بشؤونها خصمها فهي تجاهد ما استطاعت في سبيل استرداد الحق المسلوب، والتراث المغصوب، والحرية الضائعة  والأمجاد الرفيعة، والمثل العالية. وحينئذ يكون من أوجب الواجبات على هذا الشباب أن ينصرف إلى أمته أكثر مما ينصرف إلى نفسه. وهو إذ يفعل ذلك يفوز بالخير العاجل في ميدان النصر، والخير الآجل من مثوبة الله. ولعل من حسن حظنا أن كنا من الفريق الثاني، فتفتحت أعيننا على أمة دائبة الجهاد، مستمرة الكفاح في سبيل الحق والحرية. واستعدوا يارجال فما أقرب النصر للمؤمنين وما أعظم النجاح للعاملين الدائبين.

أيها الشباب:

لعل من أخطر النواحي في الأمة الناهضة- وهي في فجر نهضتها- اختلاف الدعوات، واختلاط الصيحات، وتعدد المناهج، وتباين الخطط والطرائق، وكثرة المتصدين للتزعم والقيادة. وكل ذلك تفريق في الجهود، وتوزيع للقوى، يتعذر معه الوصول إلى الغايات. ومن هنا كانت دراسة هذه الدعوات، والموازنة بينها أمراً أساسياً، لا بد منه لمن  يريد الإصلاح.

ومن هنا كان من واجبي أن أشرح لكم في وضوح موجز دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر.

دعوتنـا في العصـر الحـديث

لقد آمنا إيماناً لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يضحي في سبيل إعلانها والتبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه:

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18).

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة:3).

ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، على الإسلام ترتكز، ومنه تستمد، وله تجاهد وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل، لا تعدل بالإسلام نظاماً، ولا ترضى سواه إماماً، ولا تطيع لغيره أحكاماً.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران:85)

و لقد أتى على الإسلام والمسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث وتتابعت الكوارث، وعمل خصوم الإسلام: على إطفاء روائه، وإخفاء بهائه، وتضليل أبنائه، وتعطيل حدوده، وإضعاف جنوده، وتحريف تعاليمه، وأحكامه. تارة بالنقص منها، وأخرى بالزيادة فيها، وثالثة بتأويلها على غير وجهها. وساعدهم على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية، وتمزيق إمبراطوريته العالمية، وتسريح جيوشه المحمدية، ووقوع أممه في قبضة أهل الكفر، مستذلين مستعمرين.

فأول واجباتنا: أن نبين للناس حدود هذا الإسلام: واضحة كاملة بينة، لا زيادة فيها، ولا نقص منها، ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها، ونحملهم على إنفاذها، ونأخذهم بالعمل بها، وذلك هو الجزء العملي لهذه الفكرة.

وعمادنا في ذلك كله: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيرة المطهرة لسلف هذه الأمة، لا نبغي من وراء ذلك: إلا إرضاء الله، وأداء الواجب وهداية البشر، وإرشاد الناس.

وسنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا. وسندعو الناس جميعاً إليها، وسنبذل كل شيء في سبيلها، فنحيا بها كراماً، أو نموت كراماً....

أيها الشباب:

إن الله قد أعزكم بالنسبة إليه، والإيمان به والتنشئة على دينه، وكتب لكم بذلك مرتبة الصدارة، من الدنيا ومنزلة الزعامة من العالمين، وكرامة الأستاذ بين تلامذته.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110).

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)

(البقرة:143)

فأول ما يدعوكم إليه أن تؤمنوا بأنفسكم، أن تعلموا منزلتكم، وأن تعتقدوا أنكم سادة الدنيا، وإن أراد لكم خصومكم: الذل، وأساتذة العالمين وإن ظهر عليكم غيركم، بظاهر من الحياة الدنيا. والعاقبة للمتقين.

فجددوا أيها الشباب إيمانكم، وحددوا غاياتكم وأهدافكم، وأول القوة: الإيمان.

ونتيجة هذا الإيمان: الوحدة. وعاقبة الوحدة: النصر المؤزر المبين. فآمنوا وتآخوا، واعملوا. وترقبوا بعد ذلك: النصر.. وبشر المؤمنين.

إن العالم كله حائر يضطرب، كل ما فيه من النظم: قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ: إلا رسالة الإسلام التي تحملون: مشعلها، وتبشرون بها.

أيها الشباب:

إن منهاجنا: محدود المراحل واضح الخطوات، فنحن نعلم تماماً: ماذا نريد، ونعرف الوسيلة: إلى تحقيق هذه الإرادة.

ا - نريد أولا الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه. فهذا هو تكويننا الفردي.

2- ونريد بعد ذلك: البيت المسلم في تفكيره وعقيدته وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه ونحن لهذا نعنى بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعنى بالطفولة: عنايتنا بالشباب. وهذا هو تكويننا الأسري.

3- ونريد بعد ذلك: الشعب المسلم في ذلك كله أيضا. ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يسمع صوتنا في كل مكان، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع، والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألو في ذلك جهدا، ولا نترك وسيلة.

4- ونريد بعد ذلك: الحكومة المسلمة التي تقود هدا الشعب إلى المسجد، وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد، كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر من قبل.....

5- ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية، وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية. .....

6- ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع، التي سعدت بالإسلام حيناً من الدهر ودوى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل، ثم أراد لها نكد الطالع أن ينحسر عنها ضياؤه فتعود إلى الكفر بعد الإسلام.. ...

7- نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم وأن نبلغ الناس جميعاً، وأن نعم بها آفاق الأرض، وأن نخضع لها كل جبار، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.

ولكل مرحلة من هذه المراحل خطواتها وفروعها ووسائلها، وإنما نجمل هنا القول دون إطالة ولا تفصيل، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ليقل القاصرون الجبناء أن هذا خيال عريق ووهم استولى على نفوس هؤلاء الناس، وذلك هو الضعف الذي لا نعرفه ولا يعرفه الإسلام. ذلك هو الوهن الذي قذف في قلوب هذه الأمة فمكن لأعدائها فيها، وذلك هو خراب القلب من الإيمان وهو علة سقوط المسلمين.........

سنربي أنفسنا ليكون منا الرجل المسلم، وسنربي بيوتنا ليكون منها البيت المسلم، وسنربى شعبنا ليكون منه الشعب المسلم؟ وسنكون من بين هذا الشعب المسلم، وسنسير بخطوات ثابتة إلى تمام الشوط، وإلى الهدف الذي وضعه الله لنا لا الذي وضعناه لأنفسنا، وسنصل بإذن الله وبمعونته، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون.

وقد أعددنا لذلك إيماناً لا يتزعزع، وعملاً لا يتوقف، وثقة بالله لا تضعف، وأرواحاً أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدة في سبيله........

أيها الشباب:

على هذه القواعد الثابتة، وإلى هذه التعاليم السامية، ندعوكم جميعا. فإن آمنتم بفكرتنا، واتبعتم خطواتنا، وسلكتم معنا سبيل الإسلام الحنيف، وتجردتم من كل فكرة سوى ذلك، ووقفتم لعقيدتكم كل جهودكم فهو الخير لكم في الدنيا والآخرة، وسيحقق الله بكم إن شاء الله ما حقق بأسلافكم في العصر الأول، وسيجد كل عامل صادق منكم في ميدان الإسلام ما يرضى همته ويستغرق نشاطه إذا كان من الصادقين.

وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة، والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير، غير عابئة بقلة، ولا بكثرة:

(وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:126).

خاتمة:

وبعد: فهذه ثلاثة نماذج ممن تأثروا بالقرآن، وأثروابه، في عصرنا الحاضر. وقد اكتقينا بالقليل عن الكثير. وإلا فهناك نماذج كثيرة،لايمكنناأن نحصيها توزعت في مشارق الأرض ومغاربها. وقد ذكرنا بعضها في ثنايا هذالكتاب.كالإمام العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي، والعلامة أبي الحسن الندوي، والعلامة بديع الزمان النورسي،والعلامة محمد عبدالله دراز.وأمثالهم كثير. وقدتركوا بصماتهم واضحة في ما خلفوه لنا من كتب ودراسات، لعل شبابنا يعودون إليها، فينهلون من معينها،إذهي تقربهم من القرآن، وتجعلهم أفرب لفهمه، والتفاعل معه:تأثرا. وتأثيرا.

-والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون-.

( 2 )

( 3 )

( 1 )

( 2 )

( 1 )

( 1 )

([2]) وجهة العالم الإسلامي.

([4]) في ظلال القرآن، ج 5، ص: 2923.

([5]) وجهة العالم الإسلامي.

وسوم: العدد 816