إسرائيل ومعضلة غزة

مثلت غزة تاريخيا  لإسرائيل معضلة مستعصية على الحل ، فبعد قيامها في 1948 ، وتحديدا في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي ، بادرت مجموعات الفدائيين بإشراف ضابط المخابرات المصري مصطفى حافظ بالتسلل ليلا وراء خط الهدنة ، ومهاجمة من تصل إليه يدها من الإسرائيليين ، وكان رجال تلك المجموعات ممن يعرفون الأرض التي يتحركون فيها ليلا دروبا وأودية وتلالا لكونهم هجروا منها قبل أعوام قليلة ، وكان في استطاعتهم الاختباء في مجاهلها الخفية إذا طلع عليهم النهار، في زمن لم تكن فيه وسائل الاستطلاع والكشف قد بلغت ما بلغته الآن من تطور خيالي  ،  وأفزعت عملياتهم  إسرائيل كثيرا ، فدبرت مقتل حافظ في عملية استخبارية . وثابتٌ أن من بين أسباب مشاركة إسرائيل في عدوان بريطانيا وفرنسا على مصر في 1956 رغبتها الشديدة في التخلص من هجمات فدائيي غزة . وفي مطلع احتلالها لها في يونيو 1967 كانت مقاومة غزة أول مقاومة تتصدى للاحتلال من بين  كل الأراضي العربية التي احتلت في تلك الحرب . وغزة هي التي فجرت انتفاضة 1987 ، وهي التي أرغمت إسرائيل على الانسحاب منها في 2005 . وظنت إسرائيل أنها أمنت بذلك الانسحاب من مطاردة غزة لها ، وانجلى بطلان ظنها سريعا حين لاحقتها صواريخ غزة وهاوناتها تضرب مستوطناتها الواقعة على الحدود  . والسبب أن انسحابها على أهميته للشعب في غزة كان مثل خروج اللص من البيت ومرابطته  على بابه للتحكم في حركة أهله خروجا ودخولا . فإسرائيل بعد انسحابها ظلت تسيطر على معابر غزة ، ومنها معبر رفح ، ولو بصورة غير مباشرة في هذا المعبر خاصة ، وبرر لها هذه السيطرة نوعية اتفاقاتها مع السلطة التي تبيح لها السيطرة على المعابر في غزة والضفة ، ولامبالاة الجانب المصري بكل ما يحدث في جواره الفلسطيني . ولأن إسرائيل تتجاهل حقائق الواقع ، وهي أن المعضلة في غزة معضلة سياسية ، وجزء من القضية الفلسطينية الكلية ، وليست حالة إنسانية تحل بزيادة في ساعات الكهرباء ، وزيادة في البضائع المسموح باستيرادها ، وليست معضلة أمنية  تحل بالقوة العسكرية ؛ امتدت معضلتها في غزة ، وتعمق استعصاؤها على الحل ، وانغرزت  بساستها وعسكرها واستخباراتها وإعلامها ومراكز أبحاثها السياسية في متاهة هذه المعضلة ، وهم يقترحون الحلول للخروج منها ، ويكررون هذه الحلول نقلا عن بعضهم بين حين وحين عند أي احتكاك مع غزة . وليبرمان الذي استقال من وزارة الدفاع احتجاجا على عدم تحرير يده لمواجهة غزة مثلما قال ؛ يشترط لائتلاف حزبه " إسرائيل بيتنا " في حكومة نتنياهو القادمة بتوليه نفس الوزارة التي استقال منها ليصفي الحساب مع غزة مرة واحدة وللأبد . هكذا يدور الإسرائيليون في ذات المتاهة . ولا مخرج لهم منها إلا إذا أقرت دولتهم بكون معضلة غزة معضلة سياسية ، وأن كل أساليب حلها السابقة أخفقت لكون دولتهم الشاذة المغترة بقوتها المستمدة في جوهرها من مؤثرات خارجية أفعلها المؤثر الأميركي ؛ لم تتعامل معها وفق هذه الحقيقة الصحيحة ، وأن غزة إذا كانت معضلة لإسرائيل فإن إسرائيل جرم كبير في حق غزة وحق الشعب الفلسطيني . وهي الآن ، إسرائيل ، ترقب الفرج من متاهة غزة من صفقة القرن التي نؤمن جازمين أنها وضعت بنودها وصاغتها بنفسها ، وكلفت ترامب بتبنيها ، وتنفيذها ، فاستجاب لها راغبا طائعا . وتأمل أن يكون في تنفيذها حل لكل القضية الفلسطينية دون أن تدفع أي ثمن فيه  مهما بَخُس وقل ، وجوهر هذا الحل ، مثلما يسرب عن الصفقة ،  الفصل النهائي بين الضفة وغزة لوأد فكرة الدولة الفلسطينية ، ودفع الزخم البشري الغزي باتجاه سيناء في صورة دويلة صغيرة فقيرة محاصرة . وأمل إسرائيل سراب ، فمعضلتها مع نفسها ، ولبها ولادتها قيصريا في وطن الشعب الفلسطيني ، والقوة التي تملكها  الآن بالوقوف الأميركي المطلق في صفها ، وانضمام بعض الدول العربية لهذا الصف ؛ قد تحرف حركة التاريخ عن مسارها الطبيعي حينا من الزمن ، ولكنها لن تغير واقع الجغرافيا الذي يعيد دائما هذه الحركة إلى مسارها الصحيح متغلبا على مؤثرات القوة العابرة ، وفعل الواقع الجغرافي هنا مثل فعله في الطبيعة حيث تعود  المياه فيها إلى مجاريها ومسايلها  الأصلية مهما غير الإنسان  في ملامح الطبيعة.

وسوم: العدد 820