«الرجل المجنون» ..نظرية تربك إيران

مع بداية التصعيد الجاري بين الولايات المتّحدة وإيران، اشتكى المسؤولون الإيرانيون ممّا أسموه الحرب النفسية التي تشنّها الولايات المتّحدة ضد بلادهم، مشيرين الى أنّ مثل هذه التكتيكات تهدف الى جر إيران الى مواجهة عسكرية. وغالباً ما تستخدم الأمم التي تعتمد «سياسة حافة الهاوية» خلال انخراطها في نزاعات قاسية ومعقّدة أوقات السلم والحرب على تكتيات الحرب النفسيّة.

وتقوم هذه التكتيكات على استهداف عقل الطرف الآخر وروحه المعنوية لبث الوهن فيه والتشويش عليه والتأثير في طريقة التفكير والقرارات التي قد يتخذها. وتنطوي هذه التكتيكات على تفعيل حسابات الربح والخسارة ومدى القدرة على تحمّل التكاليف، وماهية الخطوة التالية. وفي حين توظّف إدارة ترامب مواقف كل من بولتون وبومبيو كأداتين فعّالتين في ترسانتها من الحرب النفسية ضد إيران، يستخدم النظام الإيراني مواقف كل من المرشد الأعلى والقائد العام للحرس الثوري ووزير الخارجية لامتصاص الصدمة ولتأكيد ثبات الموقف الإيراني في وجه الضغوط المتصاعدة والتلويح المتزايد بالحرب.

الحرب الكلامية: أمواج التصعيد والتهدئة

ويترافق التحشيد العسكري للطرفين مع حرب كلامية ترتفع حدّتها تارة وتنخفض طوراً في حركة ارتدادية بينهما ترسل إشارات متناقضة. كلا الطرفين الأميركي والإيراني يؤكّد أنّه لا يريد الحرب، ولا يسعى إليها. ومع ذلك، فإنّ كلاهما يقول إنّه جاهز لها وأنّ الطرف الآخر غير قادر على شن هذه الحرب لأنّه يخشاها أو لأنّه لا يستطيع تحمّل نتائجها. وتنطوي هذه التصريحات التي تترافق مع تعزيزات عسكرية على الأرض على رسائل موجّهة الى الخارج والداخل، لكنّ هدفها الأساسي رسم حدود للاشتباك الحاصل مع الحرص على ألاّ يتعدّاه الى الصدام المباشر، فكلما شعر أي من الطرفين أنّ التصعيد يقترب من الخطوط الحمراء أصبح مضطراً للتراجع، وفي المقابل، كلما شعر الطرف الآخر أنّ التهدئة باتت تُفسّر على أنّها ضعف أو تراجع وجد نفسه مضطرّاً إلى التصعيد مجدداً.

وتنطوي الحرب الكلامية على احتمال خطير بتحوّلها الى حرب حقيقيّة في حال لم يحسن أي طرف ضبط إيقاع تصريحاته والرسائل التي يريد إيصالها. وإن كانت إيران قد تقدّمت على الولايات المتّحدة في إرسال الرسائل غير المباشرة من خلال الهجوم الذي جرى تنفيذه مؤخراً ضدّ ناقلات قرب ميناء الفجيرة، ومهاجمة الحوثيين لمنشأة نفطيّة سعودية إضافة الى إطلاق صاروخ في المنطقة الخضراء قرب السفارة الأميركية في بغداد، إلاّ أنّ الولايات المتّحدة تتفوّق في المقابل في مصداقيّة التهديدات العسكريّة المدمّرة التي تطلقها، وقد جنّدت من أجل ذلك بضع دول أوروبية وإقليمية من بينها العراق وعُمان وقطر من أجل إرسال رسالتها التهديدية الى الجانب الإيراني بشكل واضح لا لبس فيه.

الولايات المتّحدة ونظرية الرجل المجنون

على الرغم من أنّ الحرب النفسية ليست جديدة بين الطرفين، فإنّ الولايات المتّحدة تمتلك هذه المرّة سلاحاً فعّالاً وغير تقليدي فيها اسمه «الرجل المجنون». لجأ الرئيس ترامب منذ بداية الازمة الى ما يعرف باسم نظرية «الرجل المجنون»، وهي نظرية مستمدة من السلوك السياسي للرئيس الأميركي السابق نيكسون، وتقوم على تعزيز الانطباع القائم لدى الخصم على أنّ الرئيس الأميركي شخص غير محترف وغير تقليدي ومتهوّر لا يمكن الوثوق بكلامه ولا توقُّع تصرفاته، الأمر الذي يعني أنّه مقامر خطير وبإمكانه تجاوز الحسابات التقليدية والاندفاع نحو الحرب.

ويجري توظيف معطيات «الرجل المجنون» هذه في الحرب النفسية الجارية من أجل إرباك النظام الإيراني ودفعه للاعتقاد انّ ترامب قد يفعل أي شيء بما في ذلك الحرب التي تعتقد إيران أنّها مستبعدة. وبهذا المعنى، يستخدم ترامب نظرية الرجل المجنون لتعظيم المكاسب بأعلى نسبة من الضغط وأقل قدر ممكن من الجهد وأقصر قدر ممكن من الوقت. وكرجل أعمال، هو يعلم تماماً أن المخاطر تأتي محمّلة بفرص أعلى من المكاسب، لذلك تعطي نظرية الرجل المجنون الأفضلية للجانب الأميركي في الحرب النفسيّة الجارية لكنّها تحمل معها مخاطر عاليةً من إمكان نشوب حرب عن طريق الخطأ.

«الغموض البنّاء» × «لاء الإرباك»

تتضمن الحرب النفسية الجارية كذلك عناصر «الغموض البنّاء» للولايات المتّحدة و«لاء الإرباك» لدى النظام الإيراني. ويدور الغموض البنّاء حول ماهية الأهداف النهائية لكلا الطرفين، ففي حين تبدو إيران في موقف لا تحسد عليه، فإنّ الإدارة الأميركية مصمّمة على مواصلة الضغط الإعلامي والسياسي والعسكري على إيران لدفعها للتراجع أكثر فأكثر من دون إتاحة الفرصة لنظامها لمعرفة الهدف النهائي للإدارة الاميركية حتى لا يتسنى له التموضع في موقع أفضل لمواجهة هذه الضغوط الاميركية. إذ على الرغم من انّ ترامب كان قد صرّح انّ الهدف هو دفع إيران للتفاوض، لكنّ نظرية الرجل المجنون علاوةً على مواقف بولتون وبومبيو تخلق حالة من الغموض البنّاء بالنسبة الى الجانب الأميركي ممّا يترك الجانب الايراني في حيرة من أمره عن ماهية الهدف النهائي للولايات المتّحدة من الحرب الكلامية والحشود العسكرية، هل هو تغيير النظام الايراني أم تغيير سلوكه أم دفعه للتفاوض؟ بغض النظر عن الهدف النهائي فإنّ هذا التكتيك يتضمّن التشويش على حسابات النظام الايراني.

وفي المقابل، يعتمد النظام الإيراني على «لاء الإرباك» التي عبّر عنها المرشد الأعلى علي خامنئي الذي قال إنّه لن تكون هناك حرب مع الولايات المتّحدة ولن تكون هناك مفاوضات، وهي سياسة تقوم على محاولة تعزيز ثبات الموقف الإيراني في وجه الضغوط النفسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي يتعرّض لها حتى الآن.

وفي حين يعتقد البعض أنّ إيران قادرة على امتصاص الصدمة الناجمة عن الحرب النفسية، يرى آخرون أنّه بغض النظر عن التصريحات والمواقف التي تطلقها، فإنّ موقعها هذه المرّة أضعف من أي وقت مضى لذلك فلا خيار أمامها في نهاية المطاف إلاّ التوجّه نحو التفاوض، لكن أسئلة أين وبأي وفد تفاوضي وكيف يُحفظ ماء الوجه؟.. هي التي ستطرح نفسها في ما بعد.

وسوم: العدد 826