إغلاق مكتب الجزيرة: كلمة “سر الليل” لـ “حميدتي”.. عاشت الأسامي!

وكأنها كلمة “سر الليل”، فلم تكد تصدر، حتى انتقل أهل الحكم في السودان إلى الخطوة التالية، التي تمثلت في فض اعتصام الثورة السودانية بقوة السلاح!

وكانت هذه الكلمة هي إغلاق مكتب قناة الجزيرة في الخرطوم، وسحب تراخيص ممارسة العمل ممن يعملون فيه، فالعسكر يتسيرون، أي يذكرون سيرتهم، ولا فرق بين عسكري إسلامي وآخر بعثي، أو عسكري ناصري أو عسكري إخواني، فالعسكر ملة واحدة، وهم يعتمدون منهجاً دراسياً واحدا، في التعامل مع الثورات، لا يختلف المجلس العسكري في مصر عنه في السودان. “تشابهت قلوبهم”، فلم يكن هناك فرق بين البشير والسيسي، ليكون هناك اختلاف بين السيسي وحميدتي، دعك من “برهاني”، فيبدو في حكم محمد نجيب في انقلاب العسكر، والقوة الضاربة هي بيد حبيب والديه، بطل حروب دارفور، وحليف الغرب والشرق، الفريق أول “حميدتي”، واستمرت الأحوال على ما هو عليه، فقد ينتهي المطاف ببرهاني نهاية محمد نجيب، بعد أن أدى الغرض منه، وأعطى الانقلاب “رونقه” باعتبار أن قيادة عسكرية محترمة هي التي تتصدر المشهد!

دعونا نسمي الأمور بأسمائها، فالحاكم الفعلي للسودان هو قائد ميليشات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، وقد رأيناه يذكر اسم “الجزيرة” على طرف لسانه، فقال البعض إن الأمور لن تكون على ما يرام، فقد ذكر أنهم في قوى الحرية والتغيير يتوافقون مع المجلس العسكري في اجتماعاتهم، ثم يذهبون لـ “الجزيرة” فيشعلونها ناراً، فمتى عرف “حميدتي” القادم من جوف الليل، باسم قناة “الجزيرة”؟  والمعنى هل قرار إغلاق مكتب القناة وسحب تراخيص من يعملون فيه، صادر من السلطة في السودان، أم من الإقليم ومن عواصم الثورة المضادة: ، وما دور “حميدتي” في الأمر إلا إصدار الصيغة التنفيذية للقرار، وعلى نحو يجعل من مجرد “حميدتي” هو مندوب هذه العواصم، قلنا دعك من “عبد الفتاح البرهاني”، فالرجل “لا يهش ولا ينش” وهو عندما “هش ونش”، أعطى التحية العسكرية لقائده الأعلى عبد الفتاح السيسي، في مشهد لا تخطئ العين دلالته!

لأن من “لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي”، فمبجرد إعلان خبر إغلاق مكتب قناة الجزيرة، وسحب تراخيص العاملين فيها، طفت على منصات التواصل الاجتماعي روح متشائمة، وبدا الاجماع منعقداً، بأن قرار الفض قد اتخذ، ولا أنكر أنني كنت أستبعد هذا، لأن الأوضاع في السودان مختلفة عن مصر صبيحة يوم فض اعتصام رابعة والنهضة، فقد كان الإعلان عن أن المعتصمين ينتمون لفصيل واحد، هم الإخوان، الذين تم شيطنتهم داخلياً، ثم أن هناك عدم ممانعة دولية من استباحتهم، والانتصار لحزب الجيش، الحليف الاستراتيجي للقوم، منذ أن قرر الاستعمار مغادرة المستعمرات القديمة، واتجهت نيته على السيطرة من خلال الأعوان!

ولكم خدعنا وانقلاب العسكر في سنة 1952، يجعل من أهدافه: القضاء على الاستعمار وأعوانه، فإذا هم أعوانه، وماذا كانت أهداف الاستعمار المباشرة التي لم تتحقق في ظل ورثته في الملاعب؟!

ليسوا من الإخوان

في الحالة المصرية، كان بجانب هذا هناك غطاء ثوري لعبد الفتاح السيسي بشر بأن 30 يونيو/حزيران هو الامتداد الطبيعي لـ 25 يناير/كانون الثاني، لكن ثوار السودان ليسوا من الإخوان أو من الإسلاميين، إنهم يسار وبعثيون، ومن القوى المدنية بتنويعاتها، لكن فاتنا أن العدو واحد، هم العسكر داخلياً، والذين يجدون الدعم من قوى الثورة المضادة في الإقليم، سواء كان العسكري يواجه الإخوان، كما عبد الفتاح السيسي، أو يواجه التيار المدني، كما “حميدتي”.. قلنا دعكم من عبد الفتاح البرهاني، هذا رجل يُرفع من الأرض ويُقبل ثم يُوضع على جنب، ككسرة الخبز، التي تقع في طريق قروي طيب القلب، تختزل عنده “النعمة” في رغيف الخبز، حتى مع تعرضه لعوامل التعرية وتطور حالته إلى حد أنه لا يصلح للاستخدام الأدمي، ليكون مكانه الطبيعي بجانب الجدار، حتى لا تهينه أقدام المارة وهم لا يشعرون!

عندما حدث الفض في مصر، كانت هناك مفاوضات تقودها آشتون، وعدد من وزراء الخارجية العرب، وقد غادروا على أمل العودة لاستكمال المفاوضات بعد عيد الفطر، لكن يقال إن الملك عبد الله، ملك السعودية، طلب من السيسي أن يطوي ملف التفاوض وأن ينهي الاعتصام بالطريقة التي تمت بها.. فكان ما كان!

وجه الاختلاف بين الحالتين يتمثل في الانتماء السياسي للمعتصمين، لكن العدو في الحالتين واحدا؛ عسكر في المواجهة المباشرة، مسنود من قوى دولية وإقليمية، وإذا كان هناك من يحملون تقديراً خاصاً للجيش في السودان، فهذا التقدير قائم في الحالة المصرية، وكانت النغمة قبل الفض، وهل يوافق الجيش على ذلك؟ فاتهم أن الجيوش تحكم بقرار، وأن الموضوع هو من يملك سلطة إصداره، فكان في مصر عبد الفتاح السيسي وفي الخرطوم “حميدتي”.. اتفقنا على أن نترك “عبد الفتاح البرهاني” في حاله.. وكلاهما: السيسي وحميدتي هما بحسب الظاهر من الأوراق أبناء مدرسة واحدة، عنوانها الخداع، وانعدام الثقافة، والتحلل من أي قيمة أخلاقية تحول دون تحقيق الأطماع السياسية، لافتقادهما الملكات اللازمة لتحقيق الأهداف مع الإلتزام الأخلاقي في ظروف طبيعية، إنهما من أبناء الحالة الاستثنائية، فإذا لم يجدوها افتعلوها!

من قناة “مكملين” استمع الوطن العربي لأول مرة لـ “حميدتي” لم يكن كثيرون يعرفون عن سوابقه شيئاً، فبدا ناعماً طيباً، يتحدث بتلقائية (لا يعرف غيرها) ثم يعرج فيتحدث عن الإسلام والشريعة، تذكيراً بمرحلة “أنتو متعرفوش إنكم نور عينينا ولا إيه؟”، في حين أن الإسلام لم يحرم شيئاً كما حرم القتل وإزهاق الروح الإنسانية بغير حق!

فشل المخطط

ما علينا، فعندما قام السيسي بانقلابه أغلق مكتب قناة “الجزيرة” في القاهرة، وعندما كانت نية الدولة في عهد مبارك فض ميدان التحرير في يوم موقعة الجمل اتخذت قراراً سابقاً باغلاق مكتب قناة “الجزيرة”، وفي الحالتين فشل المخطط!

فلم تسود الجزيرة شاشتها بقرار إغلاق المكتب، ولم تفقد القدرة على تغطية الحدث باغلاق المكتب في الحالتين. فإذا كان سحب الترخيص أو وقف المراسلين المعتمدين، فقد تحول الصحافيون في التحرير إلى مراسلين لقناة “الجزيرة” التي نقلت موقعة الجمل بالصوت والصورة، للعالم، مع إغلاق المكتب وسحب تراخيص المراسلين، ولم تنافسها في ذلك قنوات لها مكاتب ولديها مراسلون معتمدون!

وقد تم نقل اعتصام “رابعة”، ونقل وقائع الفض، بعد إغلاق مكتب قناة الجزيرة، وسحب اعتماد مراسليها!

كان القرار عشية الانقلاب العسكري في مصر هو إغلاق عدد من القنوات، وإغلاق مكتب الجزيرة أيضاً، وقامت قوات الأمن باقتحام مكتب الجزيرة الأم، ومكتب الجزيرة مباشر واقتادت العاملين فيها إلى أقرب قسم شرطة، ومع فشل المهمة فإن العسكر لا يغيرون من المنهج، فهل نجح قرار إغلاق مكتب الجزيرة في القاهرة، في حجب الحقيقة، ليفيد إغلاقه مكتبها في السودان على يد البطل المغوار “حميدتي” عاشت الأسامي، قلنا لا شأن لنا بخالد الذكر “عبد الفتاح البرهاني”!

فهل تأثرت قناة “الجزيرة” بإغلاق مكتبها وسحب تراخيص العاملين فيها، وهل أضر هذا بتغطيتها للأحداث في السودان، ومنها عملية الفض؟!

لقد ظلت الجزيرة مع إغلاق مكتبها تنقل الحدث في لحظة وقوعه، وتحلله، وتتابع ما يجري على الأرض، ربما بشكل أفضل من وجود المكتب، لأن المكاتب والمراسلين المعتمدين يكونون في مثل هذه الأحداث عبئاً على أداء قنواتهم، لأنهم يكونون في حكم الأسرى لدى الحكومات المستبدة، فيعملون تحت سقف الاستبداد، ويعتمدون الموائمة والملائمة في التغطية حتى لا تغلق المكاتب وتسحب التراخيص، وعندما تغلق وتسحب تكون غرف الأخبار لديها حرية أكبر، فليس لدى القناة ما تخسره!

المكاتب الخارجية في القنوات التلفزيونية الكبرى تقوم على فكرة الوجاهة الاجتماعية لا أكثر، مثل التمثيل الدبلوماسي، ولدينا في مصر سفارات بدول ليست موجودة على الخريطة، وليس فيها مصريون لترعى مصالحهم، وعدد السفارات المصرية في الخارج أكثر من عدد السفارات الأمريكية، لأنه يعتبر في الحالة المصرية تأكيد على عظمة الدولة، فبعدد سفاراتها وقنصليتها الخارجية تقاس أهميتها، وكذلك المكاتب للقنوات التلفزيونية، ولسنوات لم نكن نسمع عن مكتب السودان إلا خبرا واحداً، مراسل الجزيرة وضع المايك أمام وزير الخارجية المصري، الذي قام بابعاد المايك، فصار لتكرار الإبعاد لميكروفون الجزيرة كما لو كان أسد الصحراء!

وكما ثبت فشل المنهج في الحالة المصرية، فقد ثبت فشله في الحالة السودانية، وجريمة الفض نقلتها الجزيرة، ولم تتفوق عليها قناة تلفزيونية أخرى، مع أن المكتب أغلق والتراخيص سحبت، وتوقف المراسلون عن العمل، وغادر طاقمها الموفد الخرطوم!

لقد ولى هذا الزمان، الذي كان العسكر يعتقدون القدرة على ارتكاب جرائمهم بعيداً عن الكاميرات.. فالكاميرات الآن في أيدي الجميع، فهل ينتهون عن اغلاق مكاتب الجزيرة وسحب تراخيص مراسليها مع كل “طلعة جوية” لهم؟ أم أن المنهج الدراسي العقيم سيظل مقرراً عليهم طويلاً!

إن المناهج الدراسية للعسكر قد تجاوزها الزمن لكنهم لا يعلمون.

وسوم: العدد 828