ثمن الشرعية.. حياة

clip_image002_119b1.jpg

بمجرد أن يكون محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر؛ فهذا بحد ذاته حدث استثنائي، أما أن يكون إسلامياً وصاحب "مشروع نهضة" وإفرازا شعبياً لـ "الربيع العربي"، فالاستثنائية تصل إلى حد الاستنفار لإسقاطه. في الاساس هو لم يحكم؛ لأن "الدولة العميقة" لم تكن طيعة له، والمجتمع المصري الذي اعتاد على الحكم الاستبدادي؛ وجد في "ديمقراطية" مرسي فسحة؛ لاستخدام الإعلام ضده، وتسيير المظاهرات الشعبية، وصياغة التكتلات السياسية لإسقاطه. دول الثورات المضادة رعت وموّلت ذلك كله. أما "إسرائيل" فوجدت في دولة يقودها تيار إسلامي، ويمكن أن تتحالف مع تركيا بمعاهدة دفاع؛ خطراً وجودياً. كان بنيامين نتنياهو منزعجاً جداً من مرسي "الذي لم يرغب بمجرد النطق بكلمة إسرائيل" (2012)، وفي تصريح مصور له قال: "حاولنا مرارا وتكرارا ان نتواصل مع السلطة الحاكمة في مصر عام 2012، لكن هذه السلطة كانت ترانا أعداء.. فكان لا بد من التخلص من هذه السلطة التي لا تريد السلام" (3/7/2017). كان الإنطباع في "إسرائيل" أن مرسي إذا تمكن فإنه "سيلغي اتفاقية السلام.. فكان لا بد من تفعيل الاطاحة به وإقناع إدارة اوباما بعدم معارضة الخطوة" (أرييه إلداد-معاريف 4/2/2019). 

عند تصاعد الاحتجاجات الشعبية -المرعية من قوى محلية ودول خليجية-؛ حاول مرسي إيجاد حل يجنب مصر الانهيار، ويحفظ لها المكتسبات الديمقراطية لثورة يناير 2011. في 2/7/2013 اجتمع مع وزير دفاعه، وقد بات جلياً أنه حصان طروادة الانقلاب، ليعرض عليه تغييرا حكوميا شاملا وانتخابات مبكرة؛ أظهر عبد الفتاح السيسي الرضا، وبعد مغادرة الاجتماع -الذي حضره رئيس الحكومة هشام قنديل- أيضاً، اتصل السيسي بفريق الرئاسة ليبلغهم ضرورة أن يرحل مرسي فوراً. 

عندما أعلن مرسي أن "ثمن الحفاظ على الشرعية" حياته؛ كان يعني بالفعل ما يقول. في الساعات الأخيرة جاءه "عرض" من وزير الخارجية الأميركي جون كيري؛ ليكون رئيساً صورياً مع تمكين الجيش من الحكم، فرفض. اتصل مساعده للشؤون الخارجية عصام الحداد بالسفيرة الأمريكية في القاهرة مستفسراً عن الموقف الأميركي مما يجري؛ فأبلغته أن السيسي يتحضر لإعلان "خارطة طريق" للانقلاب عليه. جاءه من يعرض عليه دعوة أنصاره لـ "حماية الشرعية"؛ ففضّل أن يدفع الثمن بنفسه على أن يقع الدم بين المصريين. بعد وضعه في السجن وفريقه الرئاسي والحكومي وآلاف من كوادر "الأخوان المسلمين"؛ زارته مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الاروبي كاترين اشتين (30/7/2013) في محبسه؛لتعرض عليه مبادرة "الخروج الآمن"؛ بموجبها يعلن مرسي مباركته "الانقلاب" مقابل خروجه وقادة "الاخوان" من السجون.. فرفض.  

صلابة مرسي كانت مذهلة؛ كان بإمكانه الخروج من مصر وقيادة معارضة خارجية؛ لكنه تمسك بأنه الرئيس الشرعي، وأنه آخر من سيخرج من السجن. وُضع في سجن إنفرادي، ومنعت عنه الزيارة، وأُهمل طبياً –حتى الموت- لكنه كان شامخاً إلى الحد الذي دفع الانقلابيين إلى تدعيم الحواجز بالزجاج لئلا يُسمع صوته بوضوح داخل المحكمة. لم يجدوا في سجله فسادا أو شبهة فساد؛ فهو لم يكن يقبض راتبه حتى، وبيته الذي يسكنه كان مستأجراً، رغم أنه عالم -كان مرشحاً للدخول إلى وكالة ناسا للفضاء عندما كان في الولايات المتحدة-؛ ففبركوا له ملفات هزلية؛ "التخابر مع قطر"- "التخابر مع حماس"... 

لم يحظ مرسي بجنازة رئاسية، ولا حتى جنازة شعبية أو عائلية، ولم يُدفن في مسقط رأسه "لدواع أمنية"، ومُنعت صلاة الغائب عن روحه في مساجد مصر، وذُكر خبر وفاته في أسفل الصفحات الداخلية في الصحف المصرية بناء على طلب السلطات، ولم يعرض الإعلام مرافعته الاخيرة في المحكمة ليظهر كيف سقط مغشياً عليه، بل تحفظ النائب العام على الكاميرات وعلى الجثة وأمر بدفنها عند الفجر.. خافوا منه حياً ميتاً، لأنه الشاهد الكاشف لخيانة الخائنين، ولاستبداد المستبدين، وللمؤامرة التي حيكت لإجهاض ثورة يناير. 

برحيل مرسي؛ خسرت مصر "ديمقراطية" غرة، ورئيساً واعداً، وتجربة كان يمكن تصحيحها أو تغييرها بآليات ديمقراطية؛ يُفترض أن تُتبع مع أي رئيس ترفضه الغالبية.. وهاهي مصر تدفع الآن –بصمت- ثمن الاستبداد؛ في الحكم، والقضاء، والاقتصاد، والإعلام، والسياسة، والأمن؛ مع تغييب المعارضين، وقهر المحتجين.. واعتقالات لا تنتهي.

كما في سوابق تاريخية كثيرة؛ تراجع فيها الشعوب مسارها، وتسقط الاستبداد، وتعيد الاعتبار لمن ضحوا من أجلها؛ ستكتشف مصر محمد مرسي من جديد، وتكرمه، وسيفخر المصريون بأن رئيسهم انتمى إلى "أولئك" الذين "كانوا رجالا؛ لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون ابدا على الفسدة، ولا يعطون الدنية ابدا من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم".

وسوم: العدد 829