لهذه الأسباب قتلوا الرئيس

فقد تعهد الدكتور مرسي بالاكتفاء الذاتي من القمح في غضون 4 سنوات، ووفر استيراد مليون طن في أربعة أشهر. وزادت مساحة القمح 10%، وأخرجت الأرض بركتها، وزاد محصول القمح بنسبة 30%

مثلما كان فوزه برئاسة مصر كأول رئيس مدني منتخب مدويًا وصاخبًا، كان خبر وفاة الرئيس الشهيد محمد مرسي مدويًا وصاخبًا، كما كان الإنقلاب على حكمه والذي لم يدم أكثر من عام واحد مدويًا وصاخبًا أيضًا.

في أكتوبر 1981 اغتال ضباط في الجيش المصري الرئيس السادات، وتمت محاكمتهم علنيًا، وبالرغم من أن المحكمة كانت عسكرية، ولكن لم تحبس أصواتهم داخل أقفاص زجاجية، وأخذوا فرصتهم في الدفاع والحديث العلني. وفي حالة الدكتور محمد مرسي، وهو رجل مدني ورئيس دولة، ويحاكم أمام محكمة مدنية، حرص السيسي على تغييب صوت الرئيس مرسي وعلى حرمانه من حقه في التقاضي أم محكمة يرأسها رئيس المحكمة الدستورية العليا كما ينص الدستور.

ولم تكن تهم التخابر سببًا لانقلاب العسكر عليه في الثالث من يوليو 2013، ولم يذكر الجنرال السيسي في خطاب الإنقلاب أن مرسي متهم بالتخابر، وإلا لخلعوه من الحكم بتهمة الخيانة العظمى، ولكفى السيسي نفسه شؤم الإنقلاب الذي يطارده في حله وترحاله والمجازر التي أوقعها بحق معارضيه، ولكنه اخترع التهمه مع عضو المجلس العسكري اللواء ممدوح شاهين بعد شهور من الانقلاب.

ولم يستند اتهام الرئيس مرسي بالتخابر مع حركة حماس أو دولة قطر إلى دليل أو قرينة أو اعتراف، ولو كان كذلك لكانت المحاكمة علنية وشفافة ولما وضعوه في قفص زجاجي، ولما خشي السيسي أن يفضحه مرسي.

ولم تكن حملة الهجوم التي شنتها جبهة الإنقاذ على الرئيس مرسي بسبب الخوف من فشله، بل العكس فقد كانوا خائفين من نجاحه. وقد أصبح نجاح مرسي أكثر وضوحًا بفشل السيسي الزريع بعد ذلك. وقد حكم مرسي سنة يتيمة وبالرغم من قصرها فقد ارتفع الناتج القومي، واستقرت الأسعار، وزادت أعداد السائحين، وتضاعفت تحويلات المصريين بالخارج، ورفع رواتب الموظفين وأصحاب المعاشات، دون أن يغرق الدولة في قروض مليارية أجنبية وعربية.

اتخذ الدكتور مرسي مجموعة من المواقف المستقلة، وكانت سببًا في استنفار الحكومات الغربية ضد تغريدات طائر حر يظهر لأول مرة في مصر بعد ثورة يناير ويتمرد على صندوق الببغاوات المستأنسة في المنطقة العربية. ولولا المواقف السياسية الشجاعة ما انقلب على مرسي العجم ولا العرب، ولفتحت له خزائن صندوق النقد الدولي، ولأجمعت الأمم المتحدة والأمم المختلفة على حكمته واعتداله.

وفي هذا المقال نتناول ثلاثة فقط من مواقف الرئيس مرسي والتي جرت عليه إنقلابًا عسكريًا بعد عام واحد له في الحكم بغطاء من الحكومات الغرب التي تدعي الديمقراطية، ثم الخلاص من حياته بالقتل مع صمت دولي مريب.

الارادة والإستقلال

منذ اليوم الأول له في الحكم، سعى الرئيس مرسي لتحرير القرار المصري من كل تبعية أجنبية، وأعلن عن ذلك بقوله: "إذا أردنا أن نمتلك إرادتنا، فعلينا أن ننتج غذاءنا ودواءنا وسلاحنا.. تلك العناصر الثلاثة هى ضمان الاستقرار والتنمية وامتلاك الإرادة"، وكان ذلك في كلمة ألقاها على قادة الجيش الثانى الميدانى بمحافظة الإسماعيلية بعد شهر واحد من انتخابه رئيسًا.

وفي أحد حقول القمح بقرية بنجر السكر، التابعة لمحافظة الإسكندرية، وفي مشهد لم تعهده مصر من رئيس قبله، افتتح مرسي موسم حصاد القمح في مايو 2013. وقال في هذا اليوم: "ننتج حتى لا يتحكم فينا أحد.. من يريد أن يكون عنده إرادة لازم ينتج غذاءه.. أوقفنا استيراد مليون طن من القمح".

ولم يكن ذلك كلامًا مرسلًا، ولا شعارات جوفاء. فقد تعهد الدكتور مرسي بالاكتفاء الذاتي من القمح في غضون 4 سنوات، ووفر استيراد مليون طن في أربعة أشهر. وزادت مساحة القمح 10%، وأخرجت الأرض بركتها، وزاد محصول القمح بنسبة 30% عن موسم 2012، بحسب إحصائيات وزارة الزراعة الأميركية.

وفي خطاب بمناسبة عيد العمال في مجمع الحديد والصلب بضاحية حلوان (جنوب القاهرة) قال الرئيس: "لا بيع للقطاع العام ولا استغناء عن عماله بعد الآن.. المنتج هو اللي بيمتلك ارادته.. أنا عاوز أقوللكم أنا مهتم جدًا بالصناعة المصرية كلها وبكل المصانع.. اللي بيعتمد بعد ربنا على عرقه والعلم والخامات والموارد هو اللي بيقول أنا بمتلك ارادتي.. عايزين نمتلك ارادتنا بالإنتاج.. عاوزين العرق يبقي هو مفهوم الثورة الحقيقي.. اللي بيطلب من غيره ما بيمتلكش ارادته.. لازم ننتج غذائنا.. لازم ننتج دوائنا.. لازم ننتج سلاحنا".

تنمية سيناء

زار الرئيس مرسى سيناء ثلاث مرات في أول شهرين له في الحكم، والتقى زعماء القبائل واستمع إلى مطالبهم، وأخبرهم بأن سيناء عنده جزء عزيز من مصر، وأن تنميتها هي العبور الثالث للمصريين بعد العبور الأول في حرب رمضان 1973، والعبور الثاني في الثورة المصرية الشعبية على نظام مبارك.

ووضع مرسي ملف التنمية في سيناء على رأس أعمال حكومته، وأنشأ جهاز تنمية سيناء، ورصد أربعة مليارات جنيه لإنشاء مدارس ومستشفيات ومساكن، واستصلاح أراض، وشبكات طرق، ومشروعات ري وصرف صحي. وأصدرت الحكومة قانونا يسمح لأبناء سيناء بتملك الأراضي وإقامة المشروعات، وخصص مرسي 200 ألف فدان لتوزيعها على الشباب السيناوي، و200 ألف فدان أخرى تخصص للشركات التي يمتلكها سيناويون، لإقامة مشاريع زراعية عليها، وقد كانوا محرومين من ذلك في عهد مبارك.

كسب الدكتور محمد مرسي ولاء المصريين في سيناء بعد أن سمح لأبنائهم لأول مرة بدخول الكليات العسكرية والشرطية، بعد منعهم من هذا الحق على مدى عشرات السنين. كان مرسي يدرك جيدًا الأهمية الإستراتيجية لسيناء والتي كتب عنها جمال حمدان في كتابه "سيناء في الاستراتيجية والتاريخ والجغرافيا" الصادر في 1993، إن من يسيطر على سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير، لأن سيناء أخطر وأهم مدخل لمصر على الإطلاق، إنها "قدس أقداس مصر".

وأدخل مرسي دبابات وطائرات وأسلحة ثقيلة إلى سيناء للمرة الاولى منذ معاهدة السلام عام 1979 مع اسرائيل ودون تنسيق معها أو مع أمريكا، وهو ما استنكرته وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، في أغسطس 2012. بالإضافة إلى اجرءات التنمية، فتح مرسي معبر رفح في الاتجاهين طوال الوقت، وسمح بمرور السلع والبضائع دون رقابة الرباعية الدولية، وقد كان يغلق بالشهور والسنوات في عهد مبارك، ورد محمد كامل عمرو، وزير الخارجية، بأن سيناء شأن مصري داخلي.

لن نترك غزة وحدها

في كل عدوان على غزة، كانت اسرائيل هي التي تبدأ الحرب وهي التي توقفها. وفي ديسمبر 2008، شنت اسرائيل حرب أسمتها "الرصاص المصبوب"، وكان أبشع اعتداء على الفلسطينيين منذ 1948، واستمرت ثلاثة أسابيع، وقتلت أكثر من 1400 فلسطيني، 200 منهم سقطوا في الهجوم الأول، بينهم 412 طفلاً، و111 امرأة، وجرح أكثر من 5 آلاف آخرين.

واتخذت اسرائيل قرار الحرب بعد يومين من تصريح وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني من القاهرة بأن الوضع في غزة سوف يتغير، وظهرت وهي تضحك في لقاء مع الرئيس المخلوع حسني مبارك، ووزير الخارجية في حينه محمد أبو الغيط. وشارك مبارك في العدوان على غزة وأغلق معبر رفح وفتح الجيش المصري النار على مجموعة من الفلسطينين حاولوا عبور الحدود فرارًا من القصف الاسرائيلي المجنون.

وفي 14 نوفمبر 2012، شن الجيش الإسرائيلي عملية أخرى على غزة، أطلق عليها اسم "عمود السحاب". ولكن المفاجأة كانت في رد فعل الرئيس الشجاع محمد مرسي. وبحسب ما حكاه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، السيد خالد مشعل، في كلمة العزاء الذي أقيم في الدوحة بعد يومين من ارتقاء الشهيد مرسي، أنه أبلغ الرئيس الأمريكي باراك أوباما بقوله: "هذا عدوان ينبغي أن يقف"، وهي لغة لم تسمعها أمريكا من رئيس مصر ولا من غيره في المنطقة.

وقال مرسي قولته الخالدة: "لن نترك غزة وحدها.. مصر اليوم مختلفة تماماً عن مصر الأمس.. أحذر وأكرر تحذيري للمعتدين بأنه لن يكون لهم أبدا سلطان على أهل غزة "، وهو أقوى موقف تتخذه مصر الدولة ضد اسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973.

ومما شهد به مشعل أن مقترحات غربية، ربما حركها الاسرائيليون، أرسلت للرئيس مرسي بأن يضم غزة إلى مصر وتحل كل مشاكلها بشرط أن يكون مسؤول عن أي صاروخ من غزة، فرفض الرئيس مرسي ورفضت حماس، لتبقى غزة هي غزة، وسيناء هي سيناء.

بعد انقلاب الثالث من يوليو، حارب السيسي زراعة القمح المصري، وتوسع في شراء القمح المسرطن، وشدد حصار غزة وطوقها بشريط حدودي عازل، وأوقف مشروع تنمية سيناء، واصطنع حربًا مفتوحة على الإرهاب فيها، وفرض حصار على أهلها وعزلها عن العالم، وشطب مدينة رفح المصرية من الخريطة، وحرق مزارع الزيتون من رفح حتى العريش، وارتكب جرائم ابادة بحق أهلها.

لم يكن مرسي يجهل قواعد السياسة الحاكمة في الشرق الأوسط، ولم يكن السيسي أكثر ادراكًا بالخريطة السياسية ومحذوراتها، ولكن مرسي كان أكثر تمسكًا باستقلال الدولة المصرية، مدركًا لعمقها الحضاري، وثقلها السياسي، وكان مؤمنًا بمبادئ ثورة يناير وحقوق الانسان المصري في الحرية، والعدالة الإجتماعية، والكرامة الإنسانية، وهي خطوط حمراء أغضبت الغرب المنافق وعجلت بالإنقلاب عليه والخلاص منه.

وسوم: العدد 830