المعتقل المحرر الذي كان شاهدا على بعض ماحرى امامه ..وصار يكتبها بعد خروجه من السجون

… بين جنبات تيك الساحة المنسية كان وجيب المنايا يرسمُ هولَ المشهد الآتي . فهذا الطفل المستلقي بيننا سيحمل بعد قليل نصف عذاب أهل الأرض . 

وملائكة السماء وقفت في قاع الصمت تنصتُ للحدث المرصود . كنا قد أمضينا الليل كله ممددين في العراء ننتظر دورنا لندخل مبنى التحقيق ونحن عراة حتى من أصواتنا . وبيننا طفل صغير لم يتجاوز الثانية عشرة . 

قبيل الصباح بقليل جاءت أصواتهم كنباح الكلاب الضالة يأمرونا بالوقوف  دخلنا المبنى الجديد , ألصقنا وجوهنا بالجدران كالمعتاد نزعوا عن أعيننا العُصب السوداء وما قضى به القدر ذاك الصباح كان أشد وقعاً من الموت . 

فالطفل الذي كان مستلقياً معنا بدا صوت نشيجيه يغمر كل شيء , وهناك مرَّت من خلفنا مجموعة جديدة من المعتقلين كان بينهم رجلٌ في أواخر الخمسينات محني الظهر نحيلاً يحسبه الناظر إليه خيالاً . يصوّب عينيه باتجاه الطفل الذي كان مايزال يرتجف بيننا , ثم جاءت صرخته حافية العويل مد يده وأراد أن يخطو باتجاه الطفلِ وهو يصرخ كنان ثم نظر بوجه السجان وهو يرتجف ويقول سيدي هذا كنان ولدي كنان حبيبي كنان 

_الطفل ارتجَّ  كأن صاعقةً ضربته وراح ينادي أبي أبي وهو ينتفض ويبكي ثم  ركض بكل قوته باتجاه والده لكن كبل الدبابة كان أسرع إلى جسده الصغير وقبل أن يقطع الأمتار القليلة كان السجان المسخ قد هوى بكبله على جبينه فرده إلى  الحائط الذي بدا مدهوشاً مما يفعله البشر . 

_بكى الطفل كما تبكي المعابد المغتصبة , وهو يرى كيف راح  السجان يحرق بكبله جسد والده الذي نحلهُ الجوع فبدا خيالاً دون جسد . والأب رغم كل ذاك لم يتوقف لمحةً واحدة عن ذكر ولده وهو ينظر إليه من بين السياط التي جعلته يتكوم على بعضه وهو يصرخ مستجيراً بكل ما عرفته البشرية من ألهه , لم يتركه السجان حتى فقد وعيه وولده كان يُصدرُ أصواتاً أبعد من البكاء .

تيك الرعشات التي تتخلل البكاء فتثقب أعماق الروح التي لا تشفى جراحها أبداً , كان الطفل ينظر إلينا لعلنا نفعل شيء وهو يقول أبي ويشير بيده نحو والده ونحن غرقى في نحيب تلال الخذلان التي ذابت فينا فأحالتنا بعض خيالاتٍ كل مواهيها أن ترتجف من البكاء . 

إقتادتنا سياطهم إلى زاويةٍ  نَمَتْ على جدرانها حشائش رماديةٌ  تنبعثُ منها رائحة الجثث المنتظرة ظلام القبور المفقودة , كنت على يمين والد الطفل بينما يفصلني عن الطفل معتقلٌ واحد , كانوا خلفنا تماماً  لا يفصلنا عنهم سوى أمتار قليلة , بدأوا يتحدثون عن أشياء مختلفةً  وكان هناك صوت موقدٍ صغير قريب  منّا وَضَعَ عليه أحدهم إبريق ماءٍ . 

_ مسخٌ بينهم عرفنا من الأوامر التي يصدرها أنه أعلى منهم رتبةً جلسَ على كرسيٍ وُضِعَ له وراح  ينفث دخان نرجيلةٍ يشربها فتبدو نقاط الوقت أكثر شناعةً وهم يشتهون الحياة من خلال ملامح العذاب , أمسك أحدهم والد الطفل و سأله عن إسمه وما إن أجابه حتى راح يدقَّ رأسه بالجدار ثم جروه ورموه عند قدمي ذاك الشيطان وخاطبه أحدهم هذا هو يا سيدي .

_ ورغم كل الجراح والعذابات التي كانت تدثّر ذاك الوالد المفجوع شتمه قائدهم قائلاً : 

اليوم كانت زوجتك عندي في التحقيق . فبكى الرجل أكثر مما كان يفعل , كانت الهزيمة قد وصلت قعرها في داخله , لم يكفهم كل ذاك تقدمَ أحد السجانين و ركل  الطفل مخاطباً صاحب الصوت ذاته : وهذا ولده سيدي فأجابه أعرف , ثم علا صوته وهو يقول:

اسمعوا أريد أن يصل صوته إلى أمه في المبنى القديم , فراحوا يضحكون وبدت خيالاتهم على الجدران وهم يتنافسون على افتراس بقية أبٍ وطفلٍ يطلُّ من شرفات الموت كأنها صليل السِفاحِ الذي أتى بهم إلى هذه الأرض .

وجاءت سكرة الأسى حين زعقوا فينا كي نتخذ حال السجود على الأرض , ثم  تقدم أحدهم ووقف فوق رأس الطفل وظهره للحائظ وشدَّ على رأس الطفل فثبتهُ تماماً بين قدميه بينما أتى مجرمٌ  آخر وهو يحمل فُحشَ الكون كله وأسقط جمرتين من جمرات النرجيلة المشتعلة على ظهر الطفل فجأر الطفل صرخةً  مزقت ثغر الصمت وصاح حتى ظننت أن سقف الكون سيسقط فوقنا , وأخذَ لحم الطفل يحترق ويصدر ذاك النصيص الذي يعلو حين يشوا اللحم  والأب وصل صراخه عنان السماء بينما انسبحت مدن الضَّلال و اختفت خلف بكاءنا المقتول 

_تبّرزَ  الطفل على نفسه وبال عدة مرات وهو يتقوس ثم انتفض فأوقع المسخ الذي يمسك رأسه ,  فوقف اللعين وراح يركله بحذائه العسكري على رأسه عدة مرات حتى غطت الدماء كل ملامحه , بينما أخذ أحدهم يمزق جسد والده بكبل الدبابة ويحقنه بعذاب لا تطاله حجبُ الغيب  والأب يستغيث ويبكي بكاء من لا ناصر له ولا معين , ويصرخ كرمى لله اتركوا ولدي  كرمى للرسول ولدي كنان كنان آه يا كنان ياحبيبي , وكنان يشقُّ الجدران بصراخه و نحيبه المرصوف على ذراع الوطن  .

_ تضاحكَ أحدهم وقال سيدي هذا الصغير احترق , فأجابه المسخ اللعين خذ وأطفئهُ , وأعطاءه إبريق الماء الذي يغلي فوق الموقد  فصبه المسخ الثاني على ظهر الطفل دفعةً واحدة ,  وعاد الطفلُ على وقع عذاب الحريق يعيد ترتيب الكون بنحيبه وصراخه وتلعثمت محاريب المساجد أمام طفلٍ يحرقونه بالجمر ويطفؤه بالماء الذي يفور .  أخذ ينتفض ويبكي بظهره المسلوخ وجلده المحترق ثم أغمي عليه وغاب تماماً في صخب وحدتنا هناك . 

حماةُ الوطن يحرقون جثثَ أطفالنا خوفاً من هتافاتنا الشاهدةِ على يقظة المصير,  غابات من سهاد تنمو فوق تراث من أنين. 

بقينا هناك ساعاتٍ قبل أن يحشرونا في الزنازين ,  وجاء نصفنا في زنزانة واحدةٍ وكان بيننا الطفل ووالده  وبمجرد أن أغلقوا الباب راح  الأب يزحف نحو طفله . يبكي وينتحب أمسك قدمه وراج يقبّلها  و يقول كنان : يا دمي يا بعضي يا قلبي رد عليَّ يا كنان , أحرقوك يا ولدي ليتني متُّ قبل هذا ,  و تساقطت دموع القضبان وهي تُهَددُ .للأب المقضوم.

  أجلسناه على الحائط ووضع طفله بين يديه وهو يمسح الدمَ الذي غطى وجهه بيديه والطفل تجمع كل جلد ظهره في حضن أبيه وهو فاقد للوعي بين الموت والحياة ,بعد ساعات رجفَ عدة مرات ثم ازادت وتيرة أنفاسه كأنه يختنق تسارعت قدماه حاولنا فعل أي شيء  لكنه بعد قليل أسلم الروح ومضى إلى أمه المُعلقةِ بسقوف ظلمهم البعيد ,  وعَظُمَ البكاء في تيك الساعة حتى جفت الحياة . 

وبرزت عروق الرزيّة أكثر عندما رفض الأب في المساء أن يُعطيهم جثة ولده , فما كان من السجان إلا أن إنهال عليه بالكبل ياكل بعض لحمه وهو متمسكٌ بجسد ولده ويصرخ إلى أين سـتأخذوه ولدي كنان ولدي حتى بدأ يغيب عن الوعي من شدة الضربات على رأسه وصار يسبح في دمه وتركَ جثةَ ولده تحت وقعِ الألم والشتات , سحبه بعض المعتقلين داخل الزنزانة , كي لا يقتله المساعد الخائن 

((( إن كنت عاجزاً يا من تقرأ كلماتي عن فعل أي شيء فلا تنسَ  , لا تستسلم لا تشح بوجهك عنا , فكل ما فعلناه في البدء كان ظناً منّا أنه الصواب . جربمتنا أنّا صرخنا فلا تخن صرخاتنا كما خاننا العالم بأكمله . نحن أبناء الوطن والخلود . إن هتافاتٍ صرخنا بها في شوراع الوطن جعلتهم يحرقوننا من شدة خوفهم منّا )))

فيا أيها السوريون : 

_ إن الزمن لا يُبطل الحق وإن الأوطان لا تموت إلا حينما تُنسى  , ونحن لسنا غرباء أجدادنا مدفونون هناك . لا تحسب أني ابتليت بما رأيت لقد سموت وشرفت به وأنا رغم عذابي في نعمي مقيم  لأني رأيتهم لأني عاينتهم لأني لمست جلودهم التي أكلها الدود اليوم . فليكن إخلاصك لهم أن تفعل  أي شيء لتعيد ذكراهم. فكل يومِ يمضي يزيدني إيماناً أننا يومأً سننتصر . 

_ لهذا أخفيــــــنا الموتى

وسوم: العدد 831