إلى متى ستبقى ثورتنا بلا قائد وسياسة التخوين تحكمنا ؟!

أحلام وردية وواقع مؤلم: 

في كل صباح يطلّ على أهلنا في سورية، يولد فيه أمل جديد باسم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، فإذا بفتنة جديدة تخرج لتقطع نياط آمالهم وتقلب موازينهم، حتى تضيق عليهم الأرض بما رَحبت، فتتبدد تلك الأحلام وكأنها سراب، ثمّ يعيدون الكَرّة مستجمعين شجاعتهم، فيصنعون من الِمحن طاقة قوية، تُعيد نسج حلم جديد آخر،  فينتظرون بزوغ ضوء ذلك الفجر، راجين أن تتحقق آمالهم ولا يخيب ظنهم، مُصرّين على الحياة، فيُجهدون أرواحهم كيلا يعرف اليأسُ طريقًا إلى قلوبهم، حتى لا يصلوا إلى مرحلة يائسة، وحال لا أمل فيه ولا رجاء.

ومن هذه الهموم المحيقة بهذا الشعب الأبي، فراغ مكان الموجه لهم والمتحدث باسمهم، من يرفع راية ثورتهم، ويهتف بأهدافها التي ثاروا من أجلها في وجه الظلم والفساد والاستبداد والخيانة، فيمشون خلفه في طريق واحد نحو الحرية والكرامة والعدالة.

إنّ ممّا أرهق ثورتنا شتاتُها، وتحزبها فرقاً وجماعات عدة ورايات شتى، وهذا أضعف حالنا، وشتت أهدافنا، وزرع الفرقة والأحقاد بيننا، والرابح الأول والأخير عدونا، الساعي على تفريقنا وتقسيمنا وإبادتنا.

أهمّية القائد:

منذ بداية ثورتنا المباركة وبلادنا تعيش مخاضًا صعبًا، في اختيار القادة المناسبين لحمل هَمّ البلاد والعباد، من سياسيين وعسكريين وفي نواحٍ ومجالات كثيرة.

والقيادة ركن رئيس في تسيير الأعمال، وهي اللبنة الأولى والعامل الفعّال في نجاح كافة الأمور إن كانت قيادة موفقة، فكيف إن كان هذا العمل قيادة البلاد ورعاية العباد؟ فمن الأولى وقتئذ اختيار الشخصية المناسبة القادرة على حمل هذه المهمة على محمل الجد، والاجتهاد قدر المستطاع في إنتاجها وصناعتها، ولا يعرف التاريخ قيام أمّة ونهوضها بلا قائد يأخذ بزمامها، وكذلك لا تسير سفينة بلا ربان.

وسورية بلد عظيم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهذا البلد غني بالطاقات والإمكانات البشرية الهائلة، ومنتج للعبقريات الفريدة، ومصنع للشخصيات القيادية النزيهة، فأين كل هؤلاء في قيادة الثورة؟!

لقد تعقّدت الأحوال في الشأن السوري وتشابكت الخيوط، وزاد هذا التعقيد بقاء مقعد القيادة لثورتنا شاغرًا، إضافة إلى عجز شعبنا الذي كسر لجام القمع وأغلال القهر  في إيجاد قائد يُمثله، يقود البلاد إلى برّ الأمان.

شخصية القائد المطلوبة:

أنّ كثيرًا من فئات شعبنا غرقوا في شخصية القائد المثالية، وتفتقتْ أذهانهم بمن يدير السفينة، وأخذوا يبحثون عن العبقري المتزن، والأديب الورع، والسياسي المحنّك، والعالم الملهم، والحكيم الحاذق، وزدْ على ذلك مئة صفة وصفة، فاجتماع هذه الصفات في شخصية واحدة أمر قريب للمحال، فلا ريب أن الجميع يريد الرجل المناسب للقيادة، ولكن لنكن واقعيين، بعيدين عن الأحلام والمثاليّة، فمن منّا كملت أوصافه؟ ومن منّا صاحب شخصية خالية العلام؟ ومن منّا يملك تلك الشخصية القيادية الملهمة المعصومة عن الأخطاء؟ الجواب: أنّ هذه الشخصية بتلك الصفات غير موجودة في أرض الواقع أبدًا، لا إسلاميًا ولا عربيًا ولا عالميًا.

ما نلبث أن نجد شخصية أو كيانًا يُمثّل شعبنا فإذا بمئات الألسنة المتعالية، والتصريحات اللاذعة، والتقارير المسمومة، تجرد سيوفها للنيل من تلك الشخصية، فلا يبق له عيب إلا وأظهروه، ولا مثلبة إلا وأبرزوها، ولا بائقة إلا وألصقوها به، عدا الافتراءات التي تنهش لحمه، وتقدح بعرضه، وتسيء إلى نسبه. ولا ننكر وجود بعض الشخصيات المتسلقة والمأجورة العميلة، التي تعتاش على ثورتنا، وتتاجر بقضيتنا، ووجود تلك الشخصيات المريضة الموبوءة لا يعني أنّ جميع فئات شعبنا مريضة أيضًا، فالتعميم ظلم عظيم علينا اجتنابه.

وعلينا ألا ننس أنّه ما من أمّة إلا وفيها طابور خامس، وفيها ابن سلول وأبو الرغال، وجيش من الخونة المأجورين، الذين باعوا ضمائرهم بعرض زهيد من الدنيا، ولكن تلك المجتمعات التي فرّختْ فيها بذرة النفاق، كان فيها العديد بل السواد الأعظم من الصادقين والمخلصين، ولولاهم لما وصلت الرسالة إلينا، فلنخلص ولنصدق لتصل رسالتنا إلى من بعدنا، ولا نحكم على الجميع بفعل البعض.

لا ننكر على الشعب حرية اختيارهم واعتراضهم على أي قيادة كانت، فالاختيار يكون عن طوعية مطلقة دون قيد أو شرط، أما الاعتراض فيكون عن أدلة تُبين سبب الرفض والمعارضة، فاختيارك أنت حرٌ  فيه، وكذلك الاعتراض إن بينت أسباب ذلك بشكل واقعي ومنطقي، فالحكم بالأهواء والتبعيات آفة خبيثة، وخاصة أنّنا نتكلم عن مصير أمّة لا مصير شخص بعينه.

أسباب ظهور سياسة التخوين:

أولًا: أنّ الحرب على أحرار سورية وثوارها حرب شاملة، والتخوين وسيلة عدوانية سهلة من وسائل هذه الحرب، فبعض جنود أعدائنا لبس ثوب الثورة على أنّه منها، وهو في الحقيقة أداة قذرة للنظام، هدفه ضرب القيادات واستهدافها بنشر الأخبار الكاذبة الملفّقة بالتخوين، فيُبعد الثوارَ والمجاهدين عن قيادتهم ويُشككهم بها، ليكون التخوين من أشدّ أنواع الأسلحة فتكًا وأمضاها في شيطنة القيادات، وإظهارهم وكأنّهم ذئاب وثعالب يمكرون بالثورة وثوارها.

ثانيًا: غفلة بعض فئات الشعب في التعامل مع الأحداث، فينقلون ما يسمعون دون دراية أو وعي أو تَثبّت، بتصديقهم كل شاردة وواردة، ونقلهم ما يَبثّهُ الأعداء من الشائعات، وظنّهم السوء بقياداتهم، فيكونوا بذلك وسيلة غير مباشرة لضرب الجبهات الثورية السياسية والعسكرية واختراقها وإضعافها.

ثالثًا: عدم ثقة أبنائنا بكثير من القيادات، بسبب ظهور خيانات حقيقية من بعضهم، فكانت ردة فعل الشعب تعميم الخيانة على جميع القادة وتجريمهم، وهذا ما جعل ثقتهم بالقيادات الصادقة مزعزعة.

رابعًا: ضعف التجربة السياسية لدى بعض أبناء شعبنا، فمجال السياسة يتطلّب من القادة الجلوس مع كافة الجهات السياسية الأخرى حتى لو كانت مُعادية (مع التمسك بمبادئ الثورة)، في إطار المفاوضات أو الاتفاقيات أو عقد الهُدن، فإذا بالشعب يهبّ مُتعجّلًا في أحكامه، على أنّه تواطئ وتخاذل وتنازل واستسلام، وهذا أمر خاطئ وخطير، فإنّ اللقاءات التي تجمع الخصوم لا يُفهم منها التخاذل دائمًا، فالسياسة تقبل الأخذ والرد والنقاش والجدال والواسطة بما لا يضر بالمصالح.

وأقول: أنّ السياسة ليست موفقة دائمًا في صواب القرار، فهناك الكثير من القرارات السياسية مجحفة وظالمة في حق الشعب، ولكن هل الصواب أن ينتج عن هذه القرارات ردّة فعل شعبية تُخوّن المُقرّين؟ 

خامسًا: تسويق الإعلام المعادي للإشاعات التي تقلب الحقائق وتزيف الأحداث، إضافة إلى ضعف الإعلام الثوري والجهادي، الذي يُقصّر في نقل الحقيقة، ودحض الافتراءات.

سادسًا: وجود بعض مرضى القلوب (مع الأسف) المصابين بأمراض الحسد والبغضاء والضغينة والكبر (وهم قلة)، تراهم يقفون بوضعية الرامي، فما أن يرفع شخص رأسه من مقام القيادة إلا ويقنصوه قدحًا وتخوينًا وتجريمًا، بدافع الكبر والحسد والبغض، وهذه من مورثات الجاهلية الباقية فينا، ولم نستطع التخلص منها. 

الحلول والوصايا:

إنّ عظمة شعبنا تتجلى في حبّه للتحرر، ورفضه للظلم والذل والهوان، وثباته على أهدافه في نيل حقوقه المشروعة، ولكي يَصل إلى مُبتغاه عليه أن يُهيئ نفسه للخروج من الضعف الذي يحيط به، والبداية تكون بمعالجة أسباب انتشار ظاهرة التخوين في مجتمعنا، ثم العمل على اختيار شخصية من أبناء شعبه تمثّله، على أن يتخلى عن مثالية القائد في مطالبه، وأن يَغضّ الطرف عن الصفات الرفيعة المرجوة لمن يتولى الأمور، فالكمال لله عز وجل، ولا تخل إدارة من القصور، ولا رياسة من الضعف، ولكن تعميم البلاء بلاء، وتقزيم الخامات عجز، وعليه أن يظنّ بأبنائه الظنّ الحسن، دون المبالغة في التسليم والإجحاف في النقد، مع تيقّظه لأيّ خلل يصدر من قائده ليبادر في تنبيهه ونصحه وتذكرته، ويبدي الجهود المطلوبة متعاونًا معه في البناء والإصلاح، وعلى الشعب أن يمنح الوقت الكافي لمن أسلمه القياد، فلا يستعجله في أمر يسعى لبلوغه، ولا يثبّطه في شأن يطمح إليه فيه غنيمة للبلاد والعباد، والنجاح لا يكون إلا بالعمل الجماعي الذي يقوم به الجميع دون استثناء، فيحمل القويُ الضعيف، ويعذر القادرُ العاجز، فبلادنا بحاجة لجميع طاقاتها، وشعبنا معطاء ومخزن طاقات نادرة لا مثيل لها، وينتظر من يشعل فتيله، ليتوهّج وينشر شعاعه كالشمس تجود بنورها على كلّ الأمم. 

اختيار القائد:

إنّ شخصية القائد أو الرئيس تظهر للعيان من خلال أعماله ونشاطاته المتميزة عن غيرها، أو من خلال مشروعه الذي يقدّمه بين يدي ترشحه، أو من خلال كفاءته واجتهاده وجهاده، ثمّ تقوم لجنة بجمع هذه الشخصيات المتماثلة أو المتقاربة بالأداء أو المتقدمة لهذا المنصب، فتكون الكلمة الأخيرة لما ينتج عن مجلس الشورى، أو الانتخابات الشعبية أو النيابية حسب النظام الدستوري، وهكذا يُمنح مقعد الولاية لمن ظفر بمعظم أصوات اللجنة أو الشعب أو المجلس.  

خلاصة:

المجتمعات حبلى بالطاقات البشرية الإيجابية والسلبية أيضاً، والتعميم كارثة مقيتة، فعلينا ألا نقدح بإفراط ولا نمدح بتفريط، فالوسطية خير الأمور، واختيار القائد أمر واجب وحتمي، والتقصير فيه يترتب عليه عواقب مهلكة، فالقائد الذي يدعمه من حوله من أبناء أمته لا بد أن ينجح حتى ولو لم يكن في تلك المرتبة المنتظرة، فنجاحه وفشله متعلق بما تقدمه أمته له، وبالمحبة والتعاون والثقة البصيرة يرقى الجميع، وبالحسد والتخوين يهلك الجميع، أرجو أن أكون واقعيًا في كلامي، بعيداً عن المثالية، فهل نتصور الوصول إلى طريق النجاة متغاضين عن هذه الأمور البالغة الأهمية؟

أنّ واقع التخوين والتهمة والتهميش والتقزيم لكل من حمل على عاتقه هموم هذا الشعب في استلام سدّة القيادة، سواء كان مؤهلًا أو  لا، خطأ جسيم وجريمة كبيرة، فإنّ التشدد والغلو لا ينتج خيرًا على الإطلاق، ولن يكون لهذا الشعب رئاسة أو قيادة طالما مرض التخوين مسلّط على رقاب أبنائنا، وينال من قاداتنا المخلصين.

وسوم: العدد 838