بيان الخارجية الأمريكية في الذكرى السادسة لمجزرة السارين " كلام له خبء "

كل كلام سنكتبه في هذا الموقف يؤكد أننا ضد شرعنة الجريمة . وضد القتل خارج القانون ، بأي سلاح . وأننا ضد القتل بالرصاص وبالقصف وبالبراميل المتفجرة، والصواريخ الارتجاجية والقنابل الفراغية وبكل الأسلحة المرخصة أو المحرمة دوليا بما فيها السارين والكلور . ويؤكد على أننا ضد احتساب الجرائم على خلفيات مرتكبيها الدينية والمذهبية والعرقية . وأن من الإرهاب أن يحتسب الإرهاب على دين أو مذهب أو عرق ..

وبعد تأكيد كل هذا نقول إن الذين صمتوا عن جرائم بوتين الذي اعترف بتجريب أسلحته الاستراتيجية في أجساد السوريين ، وعن بشار الأسد وقصف مدفعيته وطائراته للمدنيين بما في ذلك استخدامه البراميل المتفجرة بكل عشوائيتها ، والغازات السامة بكل ما وصل إلى يديه منها ... قد شرعنوا الجريمة ، وجعلوا مما جرى ويجري في سورية سابقة على مستوى الحقوق الإنسانية كما على مستوى القانون الدولي ..ليس لهم بعد أن سكتوا عنه ، وأقروه عمليا أن يتنصلوا منه أو يتظاهروا أنهم يدينوه.

ونعود إلى البيان الذي صدر عن الخارجية الأمريكية الأربعاء 21/8/ 2019 والذي زعم بعد صمت عن الجريمة دام ست سنوات في ذكرى الهجوم الكيمائي الأكبر بغاز السارين على غوطة دمشق . الجريمة التي راح ضحيتها أكثر من 1600 إنسان نصفهم تقريبا من الأطفال دون العشر سنوات

يزعم بيان الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتسامح في شأن تاريخ " النظام السوري " الوحشي في استخدام الأسلحة الكيمائية ضد شعبه أو أن تنسى ذلك ...!!

كيف وهي بإعادة الاعتراف به ، والاشتراك في إنتاجه قد كافأت المجرم على جريمته ، والمعتدي على عدوانه ؟!!

ويضيف بيان الخارجية الأميركية ..

إن واشنطن ستستمر في استخدام جميع الآليات والأدوات المتوفرة لديها لمنع استخدام الأسلحة الكيمائية في المستقبل ...!!

ويشدد البيان على أن الأسد وآخرين من أركان نظامه ممن يعتقدون أنه يمكنهم مواصلة استخدام الأسلحة الكيمائية مخطئون !!!

وفقرات البيان ، لمن يقرؤه قراءة سياسية ، توضح أن المقصود منه ليس إدانة جرائم الحرب الأسدية . وليس الوعيد في الأخذ على يد المجرمين لوقف الجريمة ؛ وإنما المقصود منه التماس البراءة التاريخية والمستقبلية للدولة الأمريكية من الاشتراك في جرائم الحرب المستدامة منذ تسع سنوات ضد الشعب السوري ، والتي انغمست فيها الولايات المتحدة بالصمت أو بالتواطئ أو بالاشتراك المباشر ..

لقد تدارت الولايات المتحدة في 21/ 8/ 2013 في سورية على جريمة هي جريمة حرب أولا ، وساومت عليها لتحقيق مكاسب ذاتية ثانيا ، وحين محا أوباما بوصفه رئيسا للولايات المتحدة خطه الأحمر ، لم يحاول أن يتحقق للحظة من جدية الثمن البخس الذي باع الأرواح الطاهرة للأطفال السوريين به ..من سمع عن عملية تفتيش عن جدية التنازل عن الأسلحة الكيماوية ، كما فعلت الولايات المتحدة من قبل في العراق ؟!

ثم لم تلبث الإدارة الأمريكية أن أعادت الاعتراف عمليا بمرتكب الجريمة وما زالت تفاوضه وتفاوض عليه ثالثا ، وهي في كل هذا تمنحه الرخصة المفتوحة للاستمرار في الجريمة بكل أسلحتها والتي ما تزال مستمرة حتى الساعة التي أعد فيها موظفو الخارجية هذا البيان ..

الولايات المتحدة المثيرة للشفقة والتي لم تجد على مدى ست سنوات من عمر من الأدوات المتوفرة لديها ما تأخذ به على يد المجرم ، أو تقطع سياق الجريمة تحاول في هذا البيان أن تبرأ من جريمة كانت بصمتها جزء منها ، وبتواطئها شريكة فيها . ولن تستطيع بمثل هذا الكلام الملفوف أن تنأى بنفسها الجريمة أو عن المجرمين . بل سيظل الهولكست الأسدي المستدام عالقا بصانعيه والمشاركين فيه والمتواطئين عليه ، على مدى التاريخ ..

يجب أن نذكّّر ساسة الولايات المتحدة وخبراءها وقانونيها وأصحاب القرار الأمني فيها أن واجب الدول الأول هو منع وقوع الجريمة ، قبل محاسبة المجرم على جريمته.

إن استرسال المجتمع الدولي وفي مقدمة دوله الاتحاد الروسي شريكا مباشرا والولايات المتحدة متواطئا مع سياق الجريمة الأسدية في سورية هو بحد ذاته جريمة مستقلة تضع ما يسمى القانون الدولي في مربع الاستخفاف ، وتجعل من المواثيق الحقوقية عرضة للاستهزاء في الضمير الجمعي لكل الضحايا المألومين والمسحوقين .. وتضع سؤال : لماذا يكرهوننا على كل شفة في قلوب المستضعفين المعذبين ؟!

وحين تتكشف المواقف الدولية المستعلنة عن ازدواجية في استنكار الجرائم أو في الأخذ على يد مرتكبيها على خلفيات دينية أو عرقية ؛ فإن الحضارة الإنسانية التي لم تكد تنتصر على آخر معاقلها العنصرية في العالم : الولايات المتحدة ( ستينات القرن الماضي ) وجنوب أفريقية في ( تسعيناته ) تكون قد ارتكست من جديد في مستقعات العنصرية البغيضة المتجاوزة لحق الحياة وحق الوجود تحت طائلة التأديب بالسارين والكلور والبراميل المتفجرة .

ثم حتى لو صح قول من الحاكي ...

فما هو المعنى العملي أن يترك الشرطيُ المجرمَ يمعن في ارتكاب جرائمه ، ويتفنن في القتل والتدمير ، ويترك له الحبل على الغارب على مدى عشر سنوات ، بل لعله يمده ويؤازره ويغذيه ..حتى إذا أشبع السادي نهمته السادية في القتل ، وأشبع " البصبوص " نهمته في التلذذ بصور الضحايا المشبوحين والمجرومين والمغتصبين أو حتى لم يبق في الفضاء المستهدف حيٌ يُقتل ، ولا شجرة تُقطع ، ولا عامر يخرب، أمسكه زاعما أن سيوقع به أشد العقاب ..!!!

وما جدوى بعد كل الذي جرى ويجري العقاب ..إن كان عقاب ؟!

نقول للإدارة الأمريكية نحن كان عندنا شاعر جميل . شاعر جميل من مدينة معرة النعمان الجميلة ، التي يقصفها اليوم شريككم الروسي ، وعميلكم الأسدي ..كان شاعرنا الجميل هذا ، يقول عن مثل بيانكم هذا : هذا كلام له خبء,

هذا كلام له خبء .. معناه ليست لنا عقول

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 839