حين تقترن الصفاقة بالحماقة: سجون مصر الفندقية والنظام السخيف

باعتبار ذلك السجل الحافل والمتضخم من التصرفات والقرارات والتصريحات، التي تغلب عليها الحماقة، فلا مجال لأن توصف إلا بالخرق، فإنه من المفترض أن أشياء قليلة للغاية قد تبقت لتدهش؛ فعلى سبيل المثال القريب لا الحصر، حين يكون رد رأس النظام على اتهاماتٍ له بأنه يهدر المليارات على بناء القصور في بلدٍ يعيش قرابة ثلثاه تحت خط الفقر، بلد يبحث خلقٌ كثيرٌ فيه عن طعامهم في القمامة، ويرتدون أردأ الثياب من البالة، ويمضون أعمارهم في التحايل على معايش ما تني تضيق، بلد يقفز فيه شباب تحت عجلات القطار لعدم قدرتهم على الدفع، بلد يفتقد الحد الأدنى لمنظومةٍ صحية آدمية أو تعليمية، ثم يخرج علينا السيسي أو بالأصح يحدثنا من قفاه (ذلك الوضع المفضل والأثير لديه) ليطمئننا مؤكداً، بكل صلفٍ وعنادٍ، بأنه بنى وسيبني، في سياق كل هذا وخضمه، يضحى من اللائق، بل ربما من اللازم الذي لا محيص عنه أن نصف النظام ورأسه بالصفاقة والوقاحة. بيد أننا إذ نعي التقصير ونهاجم غياب الخدمات، فإننا نقصر إذ ننسى ما وفرّ: سهولة الحبس.. تلك خدمةٌ سريعة في متناول أي مواطن، تبدو عليه مجرد بادرة الاعتراض. قديماً وصفت نظام مبارك بالبلادة، إلا أن النظام نفسه في تجليه السيساوي المتخطي، أي بعد أن مرّ بعاصفة يناير/كانون الثاني، وما أعقبها من تشنجاتٍ، محملاً باندفاع السيسي ونزقه المستمدين من قلة المعرفة والدراية والخبرة، أضحى صفيقاً، يباهي بقبحه. ولم تقف القصة عند هذا الحد، فعلى ضوء زيارة مجمع سجون طرة من قبل وفودٍ من وسائل الإعلام المصرية والأجنبية، عقب انتقاداتٍ من خبراء متعاونين مع الأمم المتحدة لظروف الاحتجاز، أثبت النظام افتقاره للحرفية، نحن والعالم نستطيع، من دون عناء أن نتصور مدى اكتظاظ السجون التي تلقت عشرات الألوف دفعة واحدة، كما نعلم جيداً أن النظام يتعامل مع المساجين ـ من غير ذوي الحظوة من كبار المرتشين واللصوص ـ على أنهم كلاب، وبالأخص السياسيين، فهؤلاء يتعرضون لعنتٍ وتعذيبٍ وقسوةٍ ممنهجة. ليس ذلك سراً على الإطلاق، فالغرب يعرف جيداً أن رئيساً منتخباً سقط ميتاً في قفص الاتهام في محاكمة، يعرف جيداً مع من يتعامل وطبيعة هذه الأنظمة، وقد تكون هذه الطبيعة بالتحديد ما يجعل التعامل معها سهلاً ومفيداً في أحيانٍ كثيرة، وهو بطبيعة الحال لا ينتظر زيارةً مفبركة ليحصل على انطباعٍ عن أوضاع السجون في مصر، فله مصادر أخرى؛ كان باستطاعة المسؤولين من ضباطٍ وسجانين وجلادين أن يكتفوا بتنظيف الساحات، ودورات المياه والعنابر، وتفادي العنابر المتكدسة وحشر السواد بعيداً عن الزيارة إلخ، لعل الزائرين يخرجون حينها بانطباعٍ أن السجون كالطين، كما هو متوقع من دولةٍ من بلاد الواق الواق، يحكمها نظام قروسطي صفيق، إلا أنها نسببياً ليست بهذا السوء، مثلاً.

لكن أن يقتاد الزوار لزيارة مزارع النعام والأبقار وإحضار كبابجي يشوي، وتقديم ذلك على كونه يوماً عادياً، فتلك المبالغات تفضح حماقةً لا قرار لها. وجب التذكير هنا بأن أي نشاطٍ إنساني، بغض النظر عن حكمنا الأخلاقي عليه، يخضع لمعايير الجودة في الأداء والإتقان؛ من ذلك النصب الذي لا يشذ على تلك القاعدة، بل على العكس من ذلك تماماً، فلعله يحتاج إلى المزيد، فالترويج لبضاعةٍ فاسدة يحتاج لا محالة إلى المزيد من الإقناع والتفنن في إخفاء العطب والعوار وتمرير القبح والفشل تحت قناع الجمال والنجاح. في هذا المضمار أيضاً أثبت النظام فشله، فهو لا يعرف معايير الطبخة، ولا أن الكثير من «النصب» يفضحه، فهو ثقيل اليد في القمع والنصب على السواء، ولما كان الأمر برمته مفضوحاً، فإنه يغدو مسخرةً. هنا تكمن معضلة النظام الأكبر التي يبدو أنهم لم يفطنوا لها: إن أي نظامٍ قمعي كذلك الذي أتحفنا به المسار والظرف التاريخيان بتعقيداتهما وديناميكيتهما لا يملك رفاهية أن يبدو سخيفاً وتافها (هو ذلك بالطبع ). لا بد له أن يظل محتفظاً بقدرٍ من الهيبة؛ أن يرشد استخدامه للقمع والنصب. إن السخرية والاستخفاف بأي نظامٍ (أو منظومةٍ) هي ما ينخر في أساسه، يوصل الناس لمجابهة عتاة الجلادين وجنود يطلقون الرصاص الحي ساخرين غير عابئين. لكن للإنصاف، لا بد لنا أن نقر بأن النظام في تلك المسرحية المفضوحة، كان شديد الاتساق مع ذاته، إذ يحضرني هنا في فترة خدمتي الإلزامية في الجيش، إذ كان قادة الكتيبة متى علموا بقرب زيارة التفتيش (ذلك السر المفضوح) يحرصون على نظافة الوحدة، وظهور الجنود متحلين بالانضباط العسكري، مرتدين كامل حللهم، وحليقي الذقون، ثم يبعثون من يصطاد سمكاً كثيراً يطهونه لضباط التفتيش ويمهرونهم ببعض الهدايا من ما تختص به الوحدة، وبذا يمضي المفتشون سعداء وتنجح الوحدة. الطرفان يعلمان جيداً أنهما يلعبان لعبة، ويحفظان جيداً نص الحوار والمشهد. تلك هلي العقلية الحاكمة التي تخضع لها الدولة المصرية، التي يتسلط عليها الضباط، وهم لا يعرفون غير ذلك، والكارثة أنهم مفتقدو الحدس تماماً، فهم لا يعرفون أنهم لا يعرفون. ثمة طريقٌ تعبدها البلادة والحماقة، توصل النظام المصري من الصفاقة إلى السخافة، وستوصل هذه الطريق ذاتها بامتدادها إلى انهيار النظام، أو تفسخه آجلاً أم عاجلاً؛ لن أقول إفلاسه فهو مفلسٌ بالفعل. ما أتعجب له حقيقةً هم أولئك الذين لم يزالوا يرجون إصلاحاً مع تتابع الفضائح والمساخر التي نراها ونعيشها.

وسوم: العدد 851