في تعظيم الجوامع ... ما يجمعنا مع ماقضى عليه الشهداء والمعتقلون والمعذبات

والجوامع هنا ليست في معنى المساجد ، وإنما هي بمعني ما يجتمع عليه الناس . من أصحاب العقائد والمذاهب والأفكار والأقوال .

ولقولهم " تعظيم " معنيان أيضا ؛ الأول هو بمعنى الاحترام والتقدير. والثاني هو بمعنى تعزيز وتأكيد حتى تكون الشعرة الجامعة خيطا ، ويكون الخيط حبلا ، ويكون الحبل ميثاقا غليظا ...

القرآن الكريم ينهانا عن أن نكون مثل الورهاء القرشية التي ( قَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) ونقض الغزل في السياق الذي نحن فيه هو في الإقدام على نقض ما توافق الناس عليه ، واجتمعوا أو تواثقوا عليه ، بحيث يجري كل طامع وراء طمعه ، وكل طامح في طريق ما يرضي طموحه وغروره .

وما يزال أمر الحرص على تعظيم الجوامع من شأن أهل الدين والعلم والرأي والحكمة يسعون إليه ويتمسكون به إلا أن يذهب الاتفاق على القليل بالكثير ، ويكون هذا الاتفاق مطية للتضييع والتفريط والاستغلال والبغي والعدوان ..

في القرآن الكريم آيتان تضبطان الموقفين والحالتين ..

الأولى قوله تعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ..) فقولنا لأهل الكتاب آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، هو منا باب تعظيم الجوامع ، وبسط أرضية صلبة للقاء ثم الحوار . وهذه المنهجية هي التي اعتمدها جيل الثورة في سورية منذ أيامها الأولى ، في الحرص على المشتركات وتعظيمها والبناء عليها ، والمضي تحت مظلتها أعواما طوالا مع اشتداد المحنة وكَلَبِ العدو ..

ولما كان المسلم ليس بالخب ولا الخب يخدعه ، كما يقول سيدنا عمر ، فإنه حين يسيء بعض الناس غرورا منهم ، في تقدير حجم " ذكائهم " أو مكرهم وخبثهم وتلونهم ، وحين يرون في سياسة " تعظيم الجوامع " التي يتمسك بها العقلاء ، مظلة لتمرير مخططاتهم ، وقاعدة وقتية للتأسيس لمكرهم فإن القرآن الكريم يسعف ألمؤمنين أصحاب الفطنة والكياسة بقوله تعالى ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ).

وهنا يكون هؤلاء الخائنون المتربصون قد بدؤوا بقطع كل الخيوط ، إما بحكم ما هو كائن أو بحكم ما يمكن أن يكون . وليس الكيّس الفطن الذي ينتظر حتى تقع فأس في الرأس فيقول : ليتني ولعلني ..

ولذلك كان فقه القرآن استباقيا بالتعبير ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ..) والخوف هنا تعبير عن حالة مقدرة متوقعة تتوجب استباق الخيانة المقدرة بموقف حاسم يقطع الطريق على أصحابها ، بالنبذ إليهم على سواء..

وإننا في فضاء هذه الثورة السورية المباركة نعلن عن تمسكنا بكل الجوامع التي تجمعنا أولا مع الشهداء ، ومع المعتقلين والمعذبين مع الثكالى والأرامل مع ضحايا السارين والكلور والبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والفراغية ..

عنوان الجوامع مع هؤلاء هو الوفاء لما مضى عليها الثوار ، والتمسك بالأهداف التي خرجوا من أجلها ، ورفع الشعارات التي استُشهدوا تحت رايتها ، والثبات للمضي قدما على الطريق ..

كل من يؤمن بهذا ويدعو إليه من غير زئبقية ولا لولبية ولا التواء ولا ادعاء فنحن معه على أمر نحب أن نعظمه ، وأن نعظم من شأن كل من يؤمن به ..

أما الذين غيروا وبدلوا وأرعدوا بالخيانة والغدر وأبرقوا فلسنا منهم في شيء ، وليسوا منا ، ولن يكون من حقنا بل من واجبنا أن ننبذ إلى الخائنين على سواء إن الله لا يحب الخائنين ..

وإننا حين ننظر إلى الأساس الذي قامت عليه المنصة الدستورية ، وإلى الجهات الدولية والراعية لها ، وإلى الأفق المنصوب أمامها ، وحين نرى ما أقدم عليه هؤلاء من إسقاط تراتبية المتفق عليه من القوانين الدولية ، ثم نلحظ ما نلحظ من أمر التشكيل والحوب الكبير في التمثيل ؛ ندرك أن أي سوري لا ينبذ إلى الخائنين على سواء قد خرج عن خط السواء ..

طاعة لله ولرسوله ثم وفاء لدماء الشهداء وعذابات المعذبين والمعذبات ..

ننبذ إلى أصحاب المنصة المتحدة على الإثم والشر والخيانة والمكر على سواء ..

إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 851