تفاقم مأساة الإعلام في مصر

المسألة لم تعد فقط تشغل بال الصحافيين والمنظمات الحقوقية الدولية بل امتدت الآن ليتحدث عنها حتى السياسيون. لقد بات التضييق المتواصل والمتصاعد على الصحافة والصحافيين في مصر أمرا فجا ومقلقا للجميع بعد أن أعاد اقتحام قوات الأمن المصرية لمكتب صحيفة «مدى مصر» المستقلة واعتقال عدد من موظفيها الموضوع إلى صدارة الاهتمام. الاتحاد الأوروبي مثلا اعتبر «القيود المستمرة على الحريات المدنية، بما في ذلك القيود المفروضة على حرية التعبير والتجمع وتآكل حرية وسائل الإعلام في مصر مدعاة للقلق» لكن ذلك لم يمنع دولا أوروبية من اتخاذ مواقف خاصة بها أيضا كذلك الذي عبرت عنه الخارجية الألمانية التي عبرت المتحدثة باسمها عن استيائها من الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية في حق الصحافيين المصريين والأجانب. أما رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي آدم شيف فقد دان اقتحام َالقوات الأمنية لمكتب الصحيفة المصرية وما صاحبه من اعتقالات معتبرا ذلك «هجوماً على حرية الصحافة وما تبقى من ديمقراطية في مصر» مضيفاً أن هذا «الوضع لا يمكن أن يستمر». يأتي ذلك بعد إجماع كل المنظمات الدولية المهتمة بحرية الإعلام على أن «المؤسسات المصرية شهدت مؤخرا حملة قمعية شرسة شملت مختلف المجالات في ظل سياسة اعتمد عليها عبد الفتاح السيسي بعد توليه الحكم عام 2014 هدفها الحفاظ على منصبه وتفادي الصدامات الداخلية حيث استهدف كلَّ من لديه أفكارا مناهضة لنظامه من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وخاصة الصحافة الحرة خوفاً من أن تعمل على تحريك الرأي العام والانتفاض على سياسته الاستبدادية»، كما قالت قبل يومين الناطقة الرسمية لمنظمة «مراسلون بلا حدود» التي أضافت بأن «الصحافة المصرية تعاني من وضع مزرٍ منذ وصول السيسي للسلطة حيث شهدت تراجعاً رهيباً منذ ذلك التاريخ واحتلت المرتبة 163 في قائمة تشمل 180 بلداً يفتقر لحرية الإعلام والصحافة».

ما يزيد الأمر سوءا بالنسبة للسلطات المصرية هو أن الرموز التي اختارتها لتصدر المشهد الإعلامي للدفاع عنها والتهجم على كل من يخالفها الرأي سواء في الداخل أو الخارج إنما تقوم بذلك عبر تقديم معلومات وتحليلات كاريكاتورية مضحكة. آخر ما سجل على هذا الصعيد، الزعم بأن هناك خلية إعلامية تسمى «خلية وسط لندن» تمولها قطر بمليار ومائتي مليون دولار تستهدف تشويه القيادة المصرية وتضم 16 مصريا و11 مؤسسة إعلامية. هذه «الخلية» لا تضم فقط قنوات ليس سرا أن الدوحة هي فعلا من يمولها، بل أيضا القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية وصحيفة «الغارديان»، وهدفها جميعا «استهداف مصر في المقام الأول من خلال تعكير مزاج المواطن المصري وعقله ووعيه وقتل الروح المعنوية لديه وتفتيت الثقة بين المواطن والقيادة والمؤسسة العسكرية، وإحداث فتنة بين مؤسسات الدولة بأفكار ووسائل متنوعة» وفق ما قاله أحد هؤلاء الرموز في قناة تلفزيونية مصرية خاصة. مجرد مثال ليس أكثر للتدليل على أن السلطات المصرية لا تكتفي بخنق أي صوت مخالف في الداخل مهما كان وإنما أيضا تختار أكثر الإعلاميين رداءة وبؤسا للدفاع عنها فتزيد الطن بلة. لم يعد هناك من شخص أو جهة محترمة وذات مصداقية بإمكانها أن تحاول الدفاع عن السلطة في مصر بعد أن تصدى لهذه المهمة أسوأ الشخصيات سمعة وأدناهم مصداقية مما زوّد كل البرامج التلفزيونية الساخرة بالمواد الدسمة للتندر على ما آلت إليه أوضاع الإعلام في مصر. لا أحد بإمكانه أن يفرح لوضع كهذا ذلك أن مصر، وبغض النظر عن رأي أي كان في نظامها السياسي سلبا أو إيجابا، احتفظت دائما طوال تاريخها الحديث بمكانة إعلامية متميزة. حتى في أحلك فترات الاستبداد خلال سنوات حكم عبد الناصر أو السادات أو مبارك لم ينزلق الإعلام المصري إلى الدرك الحالي الذي وصل إليه بسرعة البرق خلال سنوات حكم السيسي. مصر كانت تعج بقامات صحافية عملاقة متعددة المشارب والميولات لكنها اليوم باتت تعج برموز ضحلة صارت لها كل الحظوة عند صاحب القرار السياسي بل والأمني لأنها جميعا تكاد تكرر نفس الخطاب والحجج، بل وحتى المفردات، التي تزودهم بها أجهزة المخابرات التي تتحكم بالكامل في المشهد الإعلامي المحلي. وعوض أن يطرد الجيد الرديء، كما تقول القاعدة عادة في ما يعرض للناس من بضاعة، حصل العكس تماما في مصر. بات هؤلاء هم «أبطال الساحة» مقابل تراجع المهنيين الجيدين الذين فضّل أغلبهم الصمت أو الانسحاب أو الهجرة دون أن نتحدث عمن زج بهم في السجون ومن بينهم من مضى عليه قرابة الثلاث سنوات «على ذمة التحقيق» دون أن توجه إليه تهمة أو يقدم إلى المحاكمة مثل زميلنا محمود حسين الذي رفضت مطالبه المتكررة بالسماح له بزيارة والدة المسن المريض فلم يُمكـّن من ذلك إلا بعد فوات الأوان لحضور جنازته. إنها سياسة التنكيل التي اشتهر بها الإسرائيليون عبر «الاعتقال الإداري» الذي يمتد لسنوات دون اتهام ولا محاكمة. «عليه العوض ومنه العوض» كما يقول المصريون.

وسوم: العدد 853