الجشتالت ودائرة النار وصورة الفيل في الإدراك المحدود وقرارات على بعد الأنوف

ومن أسباب اختلاف الناس اختلاف قدراتهم الإدراكية . واختلاف زاوية نظرهم إلى المدرّك . واختلافات طريقة إدراكهم له ..

في مطلع القرن العشرين نشأت مدرسة الجشتالت في ألمانية التي رفضت تجزئة الإنسان حتى على مستوى المشاعر والسلوك ، وطالبت بإدراك الكل في صورة واحدة متكاملة . فالكل حسب منطقها فوق كل جزء ، وفوق كل الأجزاء . وإذا كانت توجه رواد هذه المدرسة في البداية هو لدراسة السلوك الإنساني إلا أن المبدأ العام الذي طرحوه قد عمم على أكثر من مستوى في الإدراك المعرفي . الجزء لا يعبر عن الكل . وليس من الصواب الحكم على الكل كما يحكم على جزئه .

الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال عندما يتحدث عن رواغ البصر أو خداع البصر في رؤية الحقائق ، يقول أمسك بيدك عودا مشتعلا في الظلام ثم خط به دائرة في الظلام وبحركة سريعة ، فترتسم أمام عينيك دائرة من نار بينما أنت متأكد أن الدائرة التي تراها ما هي إلا نوع من الوهم . هكذا رأى الذين توهجت في أعينهم أستانا وسوتشي في وقتها وكثير من القضايا التي يمكن أن تفتح ملفاتها بعد حين .

ويسعفنا الأديب والفيلسوف ابن المقفع بصورته الأوضح لطبيعة العلاقة المنفصمة في الحكم على الكل من خلال جزئه في مثله عن محاولة مجموعة من العميان تكوين تصور عن الفيل . فها هنا مجموعة من الأشخاص الذين حرموا من نعمة البصر، وعجزوا عن إدراك الصورة الكلية لهذا الحيوان الغريب عن بيئتهم ، وأحبوا أن يتعرفوا عليه عن طريق اللمس ، فوصفه كل واحد منهم من خلال الجزء الذي وقعت يده عليه . فقال بعضهم هو كالصخرة وبعضهم هو كالجذع وبعضهم هو كالحبل وبعضهم هو كالمروحة ..!!!

هذه الطريقة في الإدراك هي التي ابتليت بها الثورة السورية المباركة من فرقاء الدرب المتفقين المختلفين . أكان كل فريق يقدر الخطوة من قوس الرؤية أو التحسس الذي يليه . وهكذا كان وكان وكان وكم من خطوة نقضت خطوات في مرقب غاب عنه المستشرف البصير . ..

ومن هنا نشأت محطات الاختلاف ، وتوزع كثير من السوريين في مواقفهم على أقواس الدائرة الثلاث مئة والستين . وعلى كل درجة يحسب صاحبها أنه على شيء وأنه الذي يحسن صنعا .

وأمام كل محطة كان المستغرقون في اللحظة الزمنية الممتدة على بعد أنوفهم المكاني يأخذون قرارهم ويسبقون إلى " مضاجعهم " وفي كل مرة يجدون في سوق السياسية داعمين أو دافعين ..

إن الهدف من هذه المقاربة أن ندرك فقط سر اختلاف الناس . ومعنى قول أهل الحكمة فلان لا يرى أبعد من أنفه . وقول أهل الفقه : إنما الأمور بخواتيمها .

ارسموا الخط البياني للثورة المفجوعة بقادتها على كل المستويات ثم ارجعوا لأنفسكم كما رجع قوم إبراهيم لأنفسهم عندما قال لهم : (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ). الخط البياني رسم علمي دقيق لا يكذب ولا يخدع ولا يخون ..

وعندما يقف المتأمل أمام حطام المحطات العاثرة التي لا يقبل أحد أن يتحمل مسئوليتها إلا على طريقة المعلقين على لعبة كرة القدم : وبرهان أعطاها لعبد الباسط وعبد الباسط أعطاها لجورج وجورج أعطاها لخالد وخالد أعطاها لأنس وأنس أعطاها لطعمة وطعمة أعطاها لنصر ونصر أعطاها لهادي وهادي شاطها بعيد وطلعت فوق العارضة ..

وتعود لتقول من أين أبدؤها .. منذ أيام أرسل لي أخ كريم رسالة صوتية مذبوحة ذابحة قال فيها بصوت ناصح واضح : هؤلاء الذين ظلوا يحرضون الناس على الثورة منذ أربعين سنة أين هم ؟ وينهم ؟ ما لهم عندما جد الجد ، واستجاب الناس لدعوتهم بانوا فكأنهم ما كانوا ..

كل الشراح لبانت سعاد قالوا معنى بانت غابت وبعدت وليس من معنى اظهر وبان وعليك الأمان ..

كان العامة في حلب يقولون : طلبناه فغاب وذاب كما يذوب الملح في الماء ..,.

استعيروا من أي مدرسة شئتم وأعيدوا الحساب . فقط أعيدوا الحساب .

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 853