في الجريمة والمجرم والهوية ..!!!

من أبشع صور التمييز العنصري التي ما تزال سائدة في مجتمع الحداثة المعاصر وعلى كل مربعات الإيديولوجيا والجغرافيا .. التعامل مع الجريمة حسب هوية المجرم أو هوية الضحية . فجناية قوم ولو شرذمة منهم تعقد له المؤتمرات ، والاعتداء على قوم أو على الآحاد منهم تحرك له البوارج والأساطيل ...

الجريمة التي يرتكبها "مسلم" ولو بالانتماء هي عند قوم "الإرهاب" الذي يجب أن يحارب ويواجه وتجفف منابعه وتقطع أطرافه ..

والجريمة التي يرتكبها " يهودي " عند آخرين هي الجريمة لا جريمة فوقها ولا تحتها ، وهي الجريمة التي يمكن أن تُغفر جميع جرائم أهل الأرض مهما عظمت للتصدي لها ومواجهتها ..

في ميزان الحق والعدل الذي ورثنا لا تقاس الجريمة لا بهوية مجرم ولا بهوية ضحية . وكل ما يميل هنا أو هناك هو من العنصرية البغيضة التي هدرها الإسلام ، وجعل الرسول الكريم مآثرها تحت قدميه يوم حجة الوداع .

يذكرنا الرسول الكريم بالموقف العنصري المختل من جريمة " الشريف " وجريمة " الضعيف " على المستوى الفردي في واقعة المخزومية التي سرقت . ففي حديث عائشة رضي الله عنها يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوم أهم الناس أمر المخزومية التي سرقت ": إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها "

ميزان العدل المطلق يقيمه نبي العدل الخاتم وما بعد كلام رسول الله كلام. بل ما بعده إلا زخرف من القول وغرور .

ومن آفاق هذا الحديث أنه يخبرنا أن هذه الصورة القاتمة من التمييز العنصري البغيض كانت سائدة في الأمم والملل وعند أبناء الحضارات قبلنا .. ويبدو مع الأسف أنها ما تزال سائدة عند أتباع الملل والنحل بمن فيهم الأتباع إلى جحر الضب الذي علمنا . وعلى الرغم من التحذير والتمثيل النبوي الشريف : "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها" فما تزال الدعوى فيمن يدعي !!

في الفقه الذي قرره الإسلام ، وعلمنا إياه محمد رسول الله ، حين توضع الجريمة في ميزان العدل والجزاء يجب أن تتوارى الهوية ، وتتوارى الأسماء والمسميات والكنى والألقاب . فلا يكنى علي بن أبي طالب "بأبي الحسن " ولكن يواجه في ساحة القضاء شامير ، أو مناحيم أو شارون أو بنيامين ..!!

توزن الجرائم في الإسلام بميزان ذري وبغض النظر عن مرتكبيها : ( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) و" من " هاهنا غارقة في التنكير والتعميم . ولا تغفر للمجرم جريمته أنه ابن حارتنا أو قريتنا أو عشيرتنا أو ملتنا ..وهذا هو الحق والعدل وما عداه الجريمة والظلم .

ويزيدنا القرآن الكريم في هذا الباب توكيدا وتعليما وتحذيرا بقوله تعالى " إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا "

نهي مباشر موجه لشخص الرسول الكريم أن ينصب نفسه مدافعا عمن خان وظلم وإن كان هذا الظالم في ظاهره مسلما وإن كان المظلوم غيره ... أي غير المسلم مهما تعدد الدين واختلفت النحلة .

وقصة بني أبيرق مشهورة في كتب التفسير ، أفاض فيها المفسرون عن سبق موقف من الرسول الكريم لاتهام يهودي في الدفاع عمن ظاهره الإسلام وهو سارق وخائن .

يقول العلماء : ويؤخذ من هذه الآية حرمة قبول وكالة الظنين الظالم والدفاع عنه . والخصيم في قوله ( خَصِيمًا ) هو من نسميه في هذا العصر " المحامي " يعلم ظلم موكله وجنايته وخيانته ثم يجادل عنه أي يترافع أمام المحاكم عنه .. أو أمام ضمائر العوام الغفل الذين تدب إليهم الحمية ، وينقادون للعصبية .

في الجرائم الجماعية يبقى الإثم والجريرة أعظم . في الطاغية يقع في الملايين من الناس تقتيلا وتعذيبا لا يعف عن امرأة ولا يرحم طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ، ثم تجد من يخاصم عنه لأنه ابن الحي -زعموا- أو ابن العشيرة أو ابن الملة المنحولة المدعاة ..

وإنما يوزن المجرمون – في ميزان الإسلام - بجرائمهم لا بمللهم ونحلهم وأقوامهم ومنابتهم . والذين يجادلون عن مجرمي العرب اليوم ، تحت أي راية وشعار هم شركاؤهم ، بل هم منهم وبعض وأدواتهم ..

حقائق تعلمناها وعلمناها وما كُذبنا ولا كَذبنا ..ونقول لكل المجادلين عن الجريمة والمجرمين ...

إن الله ليقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء . أفتراه – سبحانه – تهون عليه دماء ملايين السوريين ، وعذاباتهم وتضحياتهم فيهدرها كما تهدورنها ، ويستهين بها كما تستهينون بها ..

ونقول للمجادلين عن الطغاة العرب وللمجادلين عن المجادلين عنهم

(هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا)

كان ذلك بالأمس جدال البعض عن بني أبيرق ، وهو اليوم جدال عمن نرى ونسمع ممن نرى ونسمع . من قوم زعموا أن لهم في الإسلام أربعين جدا ..

بل خابوا وخسروا وضلوا وما عرفوا ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 855