دلالات دفاع المثقف التونسي عن ديكتاتور

56 ألف فرنك سويسري قيمة الأموال المجمدة للرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، بالإضافة إلى آلاف المليارات من أموال الشعب التونسي المسروقة والمجمدة في بنوك أوروبية أخرى. ويمكن إضافة آلاف الموتى والمعذبين في السجون في عهده، رغم هذه الحقائق الفظيعة، لا يزال بعض السياسيين والجامعيين والحقوقيين التونسيين، يعبّرون عن مواقفهم المدافعة عن الرئيس السابق ويرونه رجل دولة وطنيا. كما استنكروا وفاته في المنفى استنادا إلى وجهة نظر إنسانية أو حقوقية، ولا يمر أسبوع بدون أن يتحسر أحدهم على سقوط نظامه، لأنه أنقذ تونس من الإسلاميين بزجهم في السجون. اللافت للنظر أن أكثر المدافعين عنه لم يطالبوا، في حياته، بمحاسبته ومثوله أمام القضاء لأن أغلبهم لا يزال يرى أن فترة بن علي كانت أفضل من الوضع العام لتونس ما بعد 2011.

الواقع أن تونس كانت كعالم رواية 1984 لجورج أورويل.. عالم مبني على القمع والخوف والقهر لمدة ثلاث وعشرين سنة. بن علي كان الطاغية و«الأخ الأكبر»

«Big Brother» الذي تحكم في حياة كل التونسيين بسلبهم الحرية، وتقديم نفسه البطل المنقذ لتونس من الأعداء. وقد بين كتاب إعلاميون في زمن الاستبداد، للصحافي والكاتب التونسي عامر بوعزة، مراقبة نظام الديكتاتور لكل محتويات البرامج الإذاعية والتلفزيونية السياسية، ومنع المعلومة الصحيحة عن المواطن التونسي، لتمرير الكذب وخنق أي فرصة للكشف عن حقيقة الواقع الاقتصادي والاجتماعي في عهده. لنشر الوهم والزيف استعان بالمثقفين من الشعراء والكتاب والجامعيين والمغنين والممثلين.

عادة ما تكون مهمة المثقف إنسانية لمناهضة الظلم والمناداة بالحرية لتحقيق الكرامة الإنسانية. تحت حكم بن علي، مهمة أغلب المثقفين كانت العكس. للحصول على امتيازات مادية، كانت مهمتهم خدمة وتمجيد الديكتاتورية. وطبعا كان الإعلام التونسي، كعادته دائما، المساهم الأكبر في نشر الوهم والتضليل، والدليل أننا لا نجد إلا القليل من الأعمال الفنية المهمة طيلة فترة بن علي. كل الأرقام الاقتصادية التي أكدت على التقدم الاقتصادي كانت مزيفة، فقد كان بن علي يلتجأ للتداين الخارجي لتغطية العجز الاقتصادي المتواصل. ارتفعت نسبة البطالة وحرم آلاف الشباب من حقهم في التوظيف والعمل لتفشي الرشوة. استفحل الفساد في زمنه بدون أي رادع، لأن بارونات الفساد كانوا من المقربين من عائلته. كما دمر المنظومة التعليمية والصحية. وفي المقابل يصر الممجدون لنظام بن علي أن هذا الانهيار هو نتيجة الثورة التي أضرت بتونس، ويرفضون الاعتراف بأن الخراب الذي نعيشه ليس إلا نتيجة حكم ديكتاتور. لا تزال عصابات الفساد التي أنتجها حكم بن علي تتحكم في الاقتصاد التونسي. المسيطرون على قطاع الإعلام بعد 2011 هم أنفسهم كانوا شركاء في تلميع الدكتاتورية.

ثقافة تزييف الحقائق وتلميع السياسيين مقابل المال لا تزال تهيمن على قطاع الإعلام العمومي والخاص، وهو ما نبهت إليه العديد من المرات نقابة الصحافيين، هذه عقلية الإعلام التونسي الذي خلفه نظام الديكتاتور.

نجد من بين المثقفين المدافعين عن الديكتاتور بن علي لما حققته تونس من ازدهار في عهده، أسماء كانت تنتمي للمعارضة وتتباهى بمقارعة الديكتاتورية وتروي معاناتها تحت نظام الظلم والقمع في عهد الطاغية. يمكن تفسير موقفهم بأنه اعتراف ضمني لمن كان يطلق عليهم بن علي أنهم «أعداء الوطن»، وهو الوطني الذي يحاول حماية تونس من خيانتهم. كما يمكن أيضا فهم دلالة دفاعهم عن نظام الديكتاتور بالرجوع إلى «متلازمة ستوكهولم « وهي ظاهرة نفسية تعني تعاطف الضحية مع الجاني والدفاع عنه، ما يدل على أن الضحية ذاتها تؤمن بأفكار وسلوك وقيم المعتدي. القسم الثاني هم من أظهروا أعراض مرض «الشيزوفرينيا الفكرية». بعد أن هللوا لثورة الحرية التي أنهت حكم القمع والديكتاتورية، نجدهم متعاطفين مع بن علي ليؤكدوا أن فترة بن علي كانت العصر الذهبي لتونس. القسم الثالث هم المثقفون الذين أدمنوا نشر الأوهام التي اكتسبوها مع الديكتاتور بتشبثهم بالوهم الذي كان نظام بن علي يسوق له، أن تونس كانت تشبه يوتوبيا تحققت على الأرض. لا يزال هؤلاء المثقفون يمجدون بن علي لأنهم كانوا يتجاهلون ظروف الشعب، بأغلب المناطق في تونس، ولم يكن من اهتمامهم معاناتهم من الفقر والتهميش والظلم الاجتماعي. بخروج بن علي حرموا من الامتيازات المادية والاجتماعية مقابل تمجيده. ما يثير التساؤل كيف لمثقف اطلع على العلوم الإنسانية، التي تعلي من قيمة الذات الإنسانية والحق في التعبير وإبداء الرأي ويقبل قمع وترهيب نظام بن علي. فمثله مثل أي ديكتاتور كان يزدري ويحتقر الشعب التونسي ولا يرى عامة الشعب، من بينهم هؤلاء المثقفون الانتهازيون، إلا أشياء يتباهى بامتلاكها أمام العالم ليبرهن على قوته.

يواصل بعض المثقفين الدفاع عن نظام ديكتاتور والتعاطف معه لتسهيل الصفح عنه، بدون أن يخسر بن علي مكانته الرمزية كرئيس سابقا، ويُقبل على الاعتراف به في تاريخ تونس. الصفح ميزة إنسانية ايجابية تنهي الكراهية بين الجاني والضحية، ويتحقق الصفح بتوفر شرط طلب الاعتذار. بن علي لم يعتذر ولم يعترف بجرائمه وواصل إنكار سرقاته التي وصلت آلاف المليارات، بل يعتبر نفسه إلى آخر حياته أنه خدم تونس، في الوقت الذي أكدت فيه الأرقام عكس ذلك.

من يدافعون عن بن علي يتجاهلون آلام ضحاياه من المساجين والمعذبين وعائلات القتلى. ما يحدث في تونس أن بعض المثقفين، لا يحملون قيمة التعاطف تجاه الضعفاء، وإنما يعظمون الأقوياء. ينصبون أنفسهم زعماء الفكر والإنسانية أمام الضحايا الذين ظلموا وعُذبوا وطمست أحلامهم في عهده. الصفح لا يحمل دائما ميزة إنسانية إيجابية، وﺇنما يؤدي أيضا إلى اﻹفلات من العقاب، وهو ما يشجع حكام تونس الجدد على ارتكاب الجرائم، بدون خوف من العقاب نظرا لتوقعهم الصفح.

وسوم: العدد 856