على أي ضفة يقف مقتدى الصدر؟

مروان ياسين الدليمي

نحن أمام ظاهرة استثنائية لشخصية تستحق أن توضع تحت أنظار الدارسين، لقراءتها ومعرفة الدوافع التي تحركها، باتجاهات متقاطعة بشكل لافت للنظر، حتى أن ثقتها بنفسها لا يداخلها أي شعور بالتردد أو الازدواجية، رغم أنها تتوزع في تطلعاتها بين انتماءات شعبوية وأوليغارشية في آن.. هذا النموذج يجسد في حضوره تماهي رجل الدين مع رجل السلطة في كيان واحد، وكل واحد منهما يضفي مشروعية لسلطة واستبداد الآخر بالاستناد إلى هذه الثنائية، حتى ليصعب علينا لمس حدود واضحة بين ما هو زمني ولازمني في هذا الكيان، وإذا ما أردنا توصيفه نجده أقرب إلى نموذج السلطة الابوية، كما هو شائع في تراثنا الإسلامي الثقافي والسياسي.

طيلة الأعوام التي اعقبت سقوط بغداد بفعل الغزو الامريكي عام 2003 كان رجل الدين مقتدى الصدر اللاعب الأبرز في التأثير في صنع القرار السياسي داخل المطبخ الرسمي في»المنطقة الخضراء»، التي يتحصن داخلها كل قادة القوى السياسية الفاعلة في العراق، وكان من الصعب على أي شخص آخر أن ينافسه على هذا الموقع خاصة في الوسط الشيعي، وكان موقفه مهما ازاء أي تحرك سياسي يجري في أروقة ودهاليز السلطة، ومن غير الممكن تجاوزه، وهذا ما جعله يوما بعد آخر يشعر باهميته وقوته التي لن تتمكن أي قوة أو زعامة سياسية أن تزحزحه عنها، حتى عندما أعلن قيس الخزعلي أحد أبرز مساعديه انشقاقه عنه عام (2005) وإعلانه تشيكل ميليشيا «عصائب أهل الحق» لم تترك هذه الحركة أي تأثير ينال من مكانته، ومن ميليشيا «جيش المهدي»التي يرأسها، رغم أن قيس الخزعلي أصبح في ما بعد لاعبا مؤثرا في المشهد العام بسبب سطوة ميليشياته في الشارع العراقي. ولو كانت لدى مقتدى قناعة بان الخزعلي من الممكن أن ينافسه على زعامته بين الوسط الشيعي لما تركه حرا طليقا، وهذا يعيدنا إلى تذكر ما حصل مع عبد المجيد الخوئي (1972 – 2003 ) ابن المرجع الشيعي ابو القاسم الخوئي (1899 – 1992) الذي تم اغتياله في 10 إبريل 2003، ما أن عاد من المنفى البريطاني وحطت قدماه على أرض مدينة النجف، فتمت محاصرته من قبل مجموعة مسلحة قِيلَ بأنها محسوبة على اتباع الصدر، وفي ما بعد صدر أمر قضائي بحق 24 شخصا تورطوا بعملية الاغتيال، ولكنه لم ينل حظا كافيا من التنفيذ. عملية اغتيال الخوئي راح ضحيتها واحد من ابرز زعماء الشيعة وكان مرجحا أن يكون له دور سياسي كبير في عراق ما بعد عام 2003 وربما لم يكن يقوى مقتدى على أن ينازعه عليه، لان والد عبد المجيد كان المرجع الاعلى للشيعة، قبل أن يتوفى ويتسلم المرجعية من بعده علي السيستاني. غياب عبد المجيد الخوئي عن الحياة اتاح الفرصة للصدر أن يستثمر سُمعَة والده محمد محمد صادق الصدر (1943 – 1999) في استمالة وكسب العاطفة الشيعية المتأججة لترسيخ زعامته في الوجدان الشعبي، خاصة بين الفقراء والمعدمين والمهمشين،، الذين كانوا ومازالوا المادة الخام التي يراهن عليها الزعماء الشعبويون في معظم دول العالم التي تعاني من التخلف الاجتماعي ومنها المنطقة العربية لترسيخ سلطتهم وتفردهم بالحكم.

مقتدى الصدر أخذ الجمهور المحبط والمحروم من أبسط حقوق الحياة، إلى الناحية التي يريد له فيها أن يعبِّأه بتطلعاته إلى الزعامة، وأن يوظف ذلك مع ما يجده مناسبا حسب قناعته الشخصية، حتى إن كانت قناعاته تعكس خلطة من المواقف المتقاطعة، فعلى سبيل المثال ليس من السهولة العثور على علاقة مقنعة قد تربط بين تحالفه في فترة مبكرة من العهد الجديد في العراق مع الشيخ حارث الضاري، الذي كان يمثل بعد سقوط بغداد وحتى وفاته، أبرز زعيم للطائفة السنية، تصدر واجهة العناوين المناهضة للاحتلال الامريكي وعلاقته التي لا يشك بقوتها مع أحمد الجلبي أبرز حلفاء الامريكيين؟ وهذا ما ينطبق على علاقة الشراكة التي تجمعه مع بقية الطاقم السياسي الشيعي، الذي جاء مع القوات الامريكية التي يعتبرها الصدر نفسه قوات احتلال ويطالب برحليها. التناقضات التي تجتمع في شخصيته لم تكن واضحة لدى عامة الناس، وإن كانت مرصودة ومشخصة لدى المتفاعلين مع المشهد السياسي العراقي، لذا لم يكن لها أي تأثير سلبي على مكانته، بل استمر محافظا عليها وعلى قدرته في الإمساك بنبض الشارع وتحريكه وفق ما يشتهي، أو وفق ما يتفق مع سياسة إيران التي غالبا ما يقيم فيها لفترات طويلة من أيام السنة.

في الوقت نفسه الذي استمرت فيه ماكنة اتباعه الدعائية، التي تنهض بمهماتها مجموعة من الاكاديميين والمثقفين والكتاب والإعلاميين، التي تؤكد في متن خطابها على هويته الوطنية بملامحها العراقية والعربية، إلاّ أن هذه الهوية لم يصادف أن تكون في موضع اختبار حقيقي إلى أن جاءت انتفاضة الأول من اكتوبر 2019 وبعد أن رفع المتظاهرون شعارا رئيسيا (ايران بره بره وبغداد تبقى حرة) إلى جانب شعاراتهم المطالبة بإنهاء النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، فكان ذلك بداية المواجهة مع الصدر، واللحظة التي بدأ فيها بالانفراط ذلك الخيط الوثيق والقوي، الذي يجمع الصدر مع الحاضنة الشيعية بدلالتها الأوسع، وربما هذا الخيط أوشك أن ينقطع، لمَّا دعا اتباعه إلى تظاهرة مليونية في 24 يناير احتجاجا على مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ومساعده أبو مهدي المهندس بطائرة امريكية بدون طيار وكان شعار التظاهرة الوحيد (أمريكا بره بره وبغداد تبقى حرة)، فقد جاء هذا الشعار من حيث التوقيت غير موفق، فوضع نفسه في حالة مواجهة مع متظاهري أكتوبر في جميع مدن وسط وجنوب العراق، الذين ضاقوا ذرعا من هيمنة إيران على العراق، وهنا بانت الخنادق بين الطرفين بكل تفاصيلها واتجاهاتها، واتضح على أي ضفة يقف الصدر.

اليوم لم يعد غالبية الشيعة في العراق يعنيهم أن يكون الحاكم من طائفتهم، كما كانوا يحلمون قبل عام 2003 حينما كانوا يرددون سرا وعلانية (لا ولي إلاّ علي، ونريد قائد جعفري) لأن تجربة حكم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، لفترة تزيد على الستة عشر عاما، كانت كافية لهم حتى يتيقنوا من أن هذا الخيار السياسي، لن يرفع عنهم الإحساس بمظلوميتهم، لأكثر من 1000 عام، ولن يحقق لهم العدالة الاجتماعية ولا الرفاهية في العيش الكريم، بل كرّس أبشع أنواع القهر والطبقية واللاعدالة والخضوع والتبعية للأجنبي.

إصرار مقتدى على أن يكرس صورته باعتباره البطل الشعبي، الذي ينتمي للفقراء وينتصر لهم، جعله يتنقل بين أدوار متناقضة، بدون أن يضع في حساباته إمكانية أن يتشكل بسبب ذلك موقف شعبي ضده، خاصة من قبل أتباعه. ورغم ذلك بقي مستمتعا بركوب أي موجة غضب تتصاعد في الشارع العراقي، لأجل تكريس زعامته، مستثمرا الطاعة الكبيرة التي تبديها القاعدة الشعبية، التي تأتمر بأمره، مهما بدت أوامره متناقضة، وهذا ما كشفته مواقفه المتقلبة ازاء تظاهرات أكتوبر، التي لم يكن له صلة بانطلاقتها، لكنه ما أن وجد تصاعد الدعم الشعبي لها، وامتداده في جميع مدن وسط وجنوب العراق، أوعز لاتباعه بأن يتواجدوا مع المتظاهرين، وبدون أن يعلنوا عن هويتهم بشكل صريح، رغم انه شريك أساسي في النظام القائم منذ تاسيسه عام 2003 والذي خرج متظاهرو اكتوبر ضده ويدعون إلى إسقاطه.

عدد من الكتاب والمثقفين حاولوا الإشارة إلى ما يرتكبه مقتدى الصدر من تخبط واضح في المواقف وما ينتج عنها من تداعيات سلبية على الواقع العراقي، لكن هذه الجهود لم يكن لها صدى مؤثر، ولم تفلح في تغيير بوصلة الولاء له عند اتباعه، وكأنه لا يعنيهم ذلك بقدر ما يعنيهم أن يكونوا في حالة ولاء مطلق لزعيمهم لتصل في بعض صورها إلى ما يشبه التقديس لكل ما يرتبط به كشخص. وهذا دليل على أن اتباعه يدينون له بالولاء التام قبل ولائهم لأي عنوان آخر، وهذا ما تأكد مرة اخرى عندما طلب منهم الانسحاب من بين صفوف متظاهري أكتوبر، وانسحبوا فعلا، ولكن بعد أن أعلن متظاهرو اكتوبر في 2 فبراير عن موقفهم الرافض لاختيار محمد توفيق علاوي رئيسا لمجلس الوزراء، بصفقة تمت بين «كتلة سائرون» التي يقودها الصدر و»كتلة الفتح» بقيادة هادي العامري زعيم ميليشيا بدر، حينها وجد الصدر نفسه ولاول مرة امام إشارة رفض لم يكن يتوقعها، ربما استفزت زعامته، فكان رد فعله سريعا وانفعاليا، فأمر اتباعه الذين اعتمروا قبعات زرقاء ليميزوا انفسهم عن متظاهري اكتوبر، بأن يطردوا المتظاهرين من بناية المطعم التركي، التي يتحصنون فيها، بعد أن بات هذا المبنى طيلة الشهرين الماضيين، رمزا لانتفاضتهم، وتمكنوا فعلا من طردهم مستخدمين ضدهم الهراوات والسكاكين، فأصابوا عددا كبيرا منهم واعتقلوا آخرين، ومارسوا التعذيب بحقهم.

ولم يكتف أصحاب القبعات الزرقاء بمهاجمة ساحات الاعتصام في بغداد وبقية محافظات الجنوب والوسط، انما تمادوا أكثر باقتحامهم لبيوت المشاركين بالانتفاضة بحثا عنهم ولترويع اهاليهم، وهذا ما حدث في مناطق الرحمانية والشعلة والدولعي والحرية الثالثة في بغداد.

رغم أن مقتدى الصدر يقف خلف أكبر كتلة برلمانية (56 نائبا) وله حصة الأسد في المناصب الوزارية والإدارية (6 وزارات)، إلا أنه مارس دور المقاوم للوجود الامريكي والمناهض للفساد والقائد للتظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير، وعلينا أن لا ننسى أن أي حكومة بعد عام 2003 لم تتشكل بدون أن تحظى بقبوله ومباركته وهذا ما حصل مع حكومة المالكي والعبادي وعبد المهدي واخيرا وليس آخرا محمد توفيق علاوي.

وسوم: العدد 865