إخفاق " الربيع العربي " أخَر زوال إسرائيل ، ولم يُلغِه

في أكتوبر 2012 ، قال هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا الأسبق في مقابلة مع " نيويورك تايمز "  : "  بعد عشر سنوات من اليوم لن تكون إسرائيل موجودة " ، وتنبه من قرؤوا قوله يومئذ أنه ، وهو المدافع المتحمس عن إسرائيل ، لم يقترح أي شيء لوقايتها من الزوال ربما يقينا منه بأنه لا أمل في هذه الوقاية . وفي ذات التوقيت ،  نشر تقرير ل 16 وكالة استخبارات أميركية سار نفس مسار ما قاله كيسنجر ، ويوجز عنوانه " الإعداد لشرق أوسط في مرحلة ما بعد إسرائيل " هذا المسار . والفرق بين الرؤيتين أن كيسنجر حدد  العام 2022 موعدا لزوال إسرائيل ، أما التقرير فاتسم بالحذر ، وترك الموعد مفتوحا . ويتفق كيسنجر في تحديده الزمني مع  المفسرين لما في سورة الإسراء عن تتبير كيان اليهود في فلسطين . وأهم مؤثر في زوال إسرائيل في تقرير الوكالات الاستخبارية هو ما سمته " المد الشعبي الثوري "  الذي قالت إنه سيزيل أنظمة الحكم العربية الوثيقة الصلة بإسرائيل ، والحامية لها من شعوبها ، ويأتي بأنظمة أكثر ديمقراطية وإسلاما وعداء لإسرائيل . تقرير الوكالات الست عشرة سبق " الربيع العربي " أو ما سمته " المد الشعبي الثوري " ، وهذا يدفع إلى الشك بأنها كانت على علم ببوادر " الربيع العربي " إن لم نقل إنها أسهمت فيه . وقد خاب هذا الربيع ، وبدل الإتيان بأنظمة ديمقراطية دمر البلدان العربية التي انفجر فيها باستثناء تونس التي ما زالت خطواتها نحو الديمقراطية بطيئة متعثرة ، وانقلب ربيعا عبريا انكشف فيه تطبيع كثير من الدول العربية مع إسرائيل واتسع . وأسهمت المخابرات الأميركية وتحديدا السي آي إيه في حرف الربيع العربي عن أهدافه إسهاما يخالف روح اللامبالاة بمصير إسرائيل التي تجلت قوية في تقرير الوكالات الست عشرة وفي مقابلة كيسنجر . كيف نشرح هذه المخالفة ؟!  الاحتمال قوي أن اللوبي الإسرائيلي قام بدور حاسم في  دفع السي آي إيه وسواها من قوى الحكومة العميقة في أميركا إلى  الإسهام في حرف الربيع العربي  عن وجهته الشعبية النبيلة ، وأن المجيء بترامب رئيسا لأميركا كان جانبا من هذا الإسهام لسيره بإسرائيل في اتجاه مضاد لتوقعات وكالات الاستخبارات وتوقعات كيسنجر ؛ اتجاه القوة والثبات  بدل اتجاه الضعف وللزوال . اعترف ترامب بالقدس عاصمة موحدة لها ، وأقر شرعية ضمها للجزء الذي تحتله من المرتفعات السورية ، واندفع في محاربة الأونروا والقضاء عليها ، ودفع دولا عربية للتطبيع جهرة مع إسرائيل ، وتحويل عدائها المظهري لها إلى عداء حقيقي لإيران تتحالف فيه مع إسرائيل ، وأعلن صفقة القرن للحل بينها وبين الفلسطينيين بمضمون كله لمصلحتها ، ولا شيء فيه للفلسطينيين سوى كيانية مهلهلة بلا سيادة ولا حدود ، تصل بين أجزائها المقطعة جسور وأنفاق تحت سيطرة إسرائيل   التي بدأت  فعلا منذ أيام بوضع علامات حول هذه الأجزاء تحذر المستوطنين " من دخول أراضي الدولة الفلسطينية "  أو  دويلة فروة النمر في الواقع  ! فهل نجت إسرائيل من الزوال الذي توقعه كيسنجر ، ووكالات الاستخبارات الأميركية الست عشرة ، ومفسرو ما جاء في سورة الإسراء عن تتبير ( إهلاك ) اليهود في فلسطين ؟! في رأينا أن إخفاق الربيع العربي أخر زوال إسرائيل ، ولم يلغه ، وأن الزوال محتوم ولا نجاة لها منه مهما كانت الصورة التي سيتخذها ، وأقوى مؤثرات زوالها هو سرعة تزايد الفلسطينيين في الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر تزايدا سيجعل اليهود أقلية صغيرة يين أغلبية فلسطينية كبيرة . فإذا كان المتوقع أن يكون الفلسطينيون في الضفة وغزة في 2030 عشرة ملايين ، وأن يكون  فلسطينيو الداخل حوالي ثلاثة ملايين ، أي ثلاثة عشر مليون فلسطيني في فلسطين التاريخية ؛ كيف  تستطيع الأقلية اليهودية  الواضحة التي قد تكون في حدود سبعة ملايين ونصف أن تتنكر لحقوقهم الوطنية والمدنية ؟ ! وأي قوى في العالم ستؤيد سياستها العنصرية التمييزية الاستيطانية ؟  يستحيل أن تشنق الجغرافيا والتاريخ والحقائق البشرية  إخضاعا متعسفا لأهوائها المرضية العمياء ، وسيكون مصيرها في أحسن الأحوال مصير النظام الأبيض العنصري في جنوب أفريقيا الذي انتهي في 1994 بانتخابات على قاعدة الصوت الواحد حين تغلب ال 30 مليون وطني أسود وملون بقوتهم التصويتية على الملايين الخمسة البيض . وإذا لم يوافق الإسرائيليون على هذا الأسلوب الذي سيؤدي إلى دولة واحدة مع الفلسطينيين فلن يكون أمامهم سوى الهجرة ، وتقرير وكالات الاستخبارات الأميركية يرجح هجرتهم نهاية لدولتهم في فلسطين . وأصوات إسرائيلية كثيرة فائقة القيمة في رأيها ترى زوال إسرائيل حتمية آتية عاجلا أم آجلا . وفي 2017 كتب المحلل السياسي آري شافيت في صحيفة " هآرتس " أن إسرائيل تلفظ آخر أنفاسها ، وأن الإسرائيليين ضحية أكذوبة أرض الميعاد وأكذوبة المحرقة النازية اللتين يقرر  أنهما من مخترعات الصهيونية .

                             ***

" العالم يتحرك ويتغير بسرعة حاليا في تحولات عميقة تهدد حتى الكيان الصهيوني في وجوده ، وهو يعلم ذلك دون أن يعلنه . " . المؤرخ الجزائري فوزي سعد الله .

وسوم: العدد 866