نعم يجب محاكمة بوتفليقة

رغم العشرين سنة التي قضاها بوتفليقة على رأس السلطة، نساه الجزائريون بسرعة، ولم يعودوا يتكلمون عنه، بمجرد إبعاده عن الحكم، بعد فشله في ضمان عهدته الخامسة في إبريل/نيسان 2019، ليعود الكلام عنه هذه الأيام بقوة بمناسبة المحاكمات التي تتم لبعض الوجوه السياسية والمالية من الأوليغارشية التي ارتبطت بحكمه.

وجوه سياسية من أمثال الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال، الذي طالب بإحضار بوتفليقة «كشاهد» إلى المحكمة، في هذه الملفات السياسية والمالية الثقيلة، التي طالب النائب العام بصددها بعشرين سنة سجنا، بعد أن كانت 15 سنة فقط، قبل استئناف الحكم. الرأي نفسه الذي دافع عنه الوزير الأول أحمد أويحيى وهو يدافع عن نفسه… طبقت برنامج الرئيس وتعليماته كمنفذ لأوامر.

محاكمات أفزعت الجزائريين، وهم يستمعون إلى كمية الأموال المنهوبة والفساد المستشري، بمناسبة تقديم ملفات اقتصادية للمحكمة، كمشاريع تركيب السيارات، التي استفاد منها رجال الرئيس وأخوه السعيد، الذي كان قناة التواصل الوحيدة بينه وبين محيطه الفاسد من رجال أعمال وسياسيين. داخل نظام سياسي تشخصن بشكل كبير جدا، غابت فيه كل مؤسسات الدولة، كما صرح بذلك رئيس الوزراء الأسبق عبد المالك سلال أثناء المحاكمة… فلا برلمان ولا حكومة ولا رئاسة، وهو يحاول أن ينفي مسؤولياته عن الأفعال المنسوبة إليه، واعترافه بأن الدولة كانت «هاملة»، ما جعل القاضي يقول له إنه كان من مصلحتكم أن تتركوا إنسانا مقعدا وعاجزا على رأس أهم مؤسسة دستورية، لتستفيدوا أنتم وعائلاتكم من هذا الوضع. علما بأن ابن سلال هو الآخر في السجن، بعد اتهامه في قضايا فساد مرتبطة بتركيب السيارات، بعد أن توسع الفساد إلى كل أفراد العائلة.

رجل مريض، بل عاجز عن الحركة والكلام لمدة سنوات، كان ينوي الترشح لعهدة خامسة، بعد عشرين سنة كاملة من الحكم، دشن بداية حملة انتخابية، تم فيها تزوير ستة ملايين استمارة، وجمع 75 مليار دينار كتمويل للحملة من قبل «رجال أعمال» يعرفون مسبقا أنهم يستثمرون في مشروع رابح ـ كما فعلوا في العهدات الرابعة السابقة – سيجنون منه أضعاف ما صرفوا، بمجرد الإعلان عن فوز هذا الرئيس المريض والغائب، الذي أخذ أخوه المستشار مكانه، كصاحب قرار أوحد بدل كل مؤسسات الدولة المعطلة.

بوتفليقة، كعراب للفساد، كما كشفته هذه المحاكمات لبعض الوجوه السياسية والمالية الفاسدة، بانت مسؤولياته المباشرة كشخص لا يمكن أن يفلت من العقاب والمحاكمة، حتى لو كان عقابا رمزيا، ما زال يطالب به الجزائريون، بعد ان اكتشفوا هول الكوارث الذي تسبب فيها الرجل ومحيطه العائلي المباشر. محاكمة ليس المطلوب ان تكون نتيجتها دخول بوتفليقة السجن، هو المقعد والعاجز عن الكلام وكبير السن ـ احتفل في 2 مارس/آذار الحالي بعيد ميلاده الـ83 ـ بل المطلوب منها أكثر محاكمة نظام سياسي وممارسات رجال ونساء وثقافة سياسية شوهت مؤسسات الدولة وأضعفتها.

بوتفليقة الذي يحس الجزائريين بأنه خدعهم واحتقرهم، وكان بعيدا من الناحية النفسية عنهم، عكس رؤسائهم السابقين، بادلوه البعد نفسه، كما برز بقوة منذ بداية الحراك الرافض للعهدة الخامسة. محاكمة مطلوبة، من خلال الرجل، للنظام السياسي ومؤسساته ككل. يجب ألا يفلت من التعرية، ليس في المجال المالي فقط، بل الســــياسي وما ارتبط به من فساد، فالوالي الذي زور الانتخابات، لابد أن يحاكم ويعاقب وهو الحال نفسه مع رئيس الدائرة والوزير والنقابي الفاسد ورجل السياسة والإعلام والدين، وكل من شارك في هذا الفساد السياسي، الذي توسع وانتشر بشكل صناعي في السنوات الأخيرة، بعد أن ارتبط بالريع.

انتشار للفساد بمختلف اشكاله مسّ المواطن الجزائري، الذي بدأ في التكيف معه، وإيجاد التبريرات له في حياته اليومية التي نخرها الفساد، ما يزيد من مسؤولية بوتفليقة كنظام سياسي ورجل لم يتسبب في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية فقط، بل أفسد أخلاق الجزائريين والجزائريات.

بوتفليقة الذي كان ضحية لشخصيته المريضة والمعقدة، في علاقاته بالجزائر والجزائريين الذين لم يحبهم، فبادلوه الشعور نفــــــسه، هو الذي كان يعتقد أنه خلق، لحكمهم حتى قبل بومدين وبن بلة، اللذين كان يقول عنهما أنه هو الذي خلقهمـــا ســـياسيا، واوصلهما إلى الحكم.. بومدين ابن الفلاح الفقير، أنا الذي علمته يلبس الكرافات.. وبن بلة أنا الذي سوّقته إلى بومدين وقيادة الأركان في عام 62، كما كان يقول للمقربين منه، أثناء فترة ابتعاده عن السلطة -79/99- التي زادت في تعقيد شخصيته وحقده على الشعب الجزائري، الذي لم يتضامن معه حسب رأيه، وتركه فريسة لمنافسيه من العصب السياسية والعسكرية، التي ناصبها العداء منذ تلك التجربة التي كادت أن تؤدي به الى السجن، بتهم فساد أرغمته على مغادرة الجزائر لسنوات، هو الذي كان مقتنعا بأنه خليفة بومدين من دون منازع.

بوتفليقة الذي يكون قد تأثر كثيرا بمولده وتربيته في مغرب المخزن، الذي حاول تقليد ما يميز حكمه العائلي وعلاقة ملوكه مع الشعب، خاصة عندما يتعلق الأمر بالملك الحسن الثاني، الذي دخل معه بوتفليقة في علاقة استنساخ لعلاقته مع المواطنين، من دون أن تصل إلى العنف الذي ميزها في المغرب، مكتفيا بما عرفته من تعال على المواطنين وبُعد نفسي وصل إلى الاحتقار في بعض الأحيان، مرورا بكل أشكال البهرجة والتبذير، التي حاول تقليـــــدها وهو يبني مسجدا، تماما كما فعل الملك الحسن الثاني، لم يتمكن من تدشــــينه وهو على رأس السلطة، تقـــول بعض المصـــادر أنه تفاوض لآخر دقيقة قبل مغادرته السلطة لكي يدشنه كمعبر مقدس للتاريخ، لم يكن سالكا بالنسبة له. ثقافة بوتفليقة المخزنية التي كانت بعيدة عن الثقافة السياسية للجزائريين ورؤسائهم، الذين أحبوهم وأحسوا بأنهم كانوا قريبين منهم وجدانيا، رغم كل عيوبهم السياسة كرجال سلطة، حكموا البلد في ظروف مختلفة وصعبة، قربتهم من شعبهم في محطات كثيرة. عكس بوتفليقة، الذي تحولت القطيعة النفسية معه الى قطيعة سياسية مع نظام سياسي، بعد أن أقنع محيطه بأنه حاكم خالد، ليس في حاجة لمؤسسات ولا لانتخابات ليحكم هذا الشعب الذي خدعه بلغة منمقة غير صادقة لم يتعود عليها الجزائري، صاحب اللغة المباشرة، الباحث عن الصدق كقيمة مركزية في من يحكمه.

وسوم: العدد 867