أزمة الأمن القومي العربي

د. ناجي خليفة الدهان

كان الأمن القومي وما يزال المسألة التي تشغل الأمم والحكومات مهما بلغ حجم القوة التي تحت تصرفها ونوعها، ومسألة توفير الأمن على نسبته يشير إلى نجاح السياسية الخارجية للدولة وقدرة أجهزتها المختصة على بلوغ الأهداف المرسومة، وذلك من منطلق أن الأهداف السياسية الخارجية تُحدّد وفقاً لاعتبارات الأمن القومي. 

اعتمد مفهوم الأمن القومي لدى العصور الوسطى على المفهوم العسكري وعلاقات حسن الجوار، فضلا عن المفهوم الاجتماعي، وكان ذلك في العصور القديمة الأشورية دون أن يصل إلى كونه دراسة متخصصة أو أساسًا تقوم عليه دعائم المجتمع والدول.

وقد تطور مفهوم الأمن القومي ليصبح مفهوماً استراتيجياً يمكن تلخيص جوهرة في (تلمس عناصر الضعف الاستراتيجي في الإقليم القومي، ومحاولة تخطّي ذلك الضعف وتصحيحه باتخاذ إجراءات وقائية تضمن ألا يكون ذلك الضعف لاتجاهات معادية، قد تكون قاتلة) وبهذا فإن مفهوم الأمن القومي هو: تقنيين لمجموعة من المبادئ تتضمن قواعد السلوك القومي وتمثّل الحدّ الأدنى للحماية الذاتية، وهذه المبادئ تنبع من طبيعة الأوضاع الاستراتيجية والخصائص المختلفة المتعلقة بعلاقات التعامل مع الامتداد الإقليمي وخصائصه من جانب، والعنصر البشري  وسلوكه من جانب آخر، والدول المحيطة ووزنها من جانب ثالث، وتتداخل جميع هذه المتغيرات في تشكيل الوعاء المادي للإرادة القومية.

ولقد تزايد الاهتمام بالأمن القومي وتحقيقه على النطاق العالمي والإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية، وتطوّر مع التطورات المتسارعة في ظل الثورة الصناعية الثالثة، وما اختصرته من مسافات وأزمنة جعلت عالم اليوم قرية كونية تتصل أطرافها بما لديها من معطيات لتؤثر سلباً أو إيجابياً على كيانها، ويظهر لنا أن مضمون الأمن القومي أتسع ليصبح مترابطاً مع كل ما يمكن أن يعكس الخطر على الدولة أو على الأمة، فلم تكن المشكلة تتعلّق فقط بإقليم أو حدود إقليمية ولكن المفهوم أضحى يتضمّن التعامل مع أي حدث أو موقف أو تغيير يحدث في العالم بأسره. 

إن الأمن القومي العربي ما زال مفهوماً حديثاً ومتحركاً من الاتفاق على تعريفه وتحديد معالمه. وما زالت صلته بالأمن القطري فكرة ضبابية غائمة، فأين يبدأ الأمن القومي وأين ينتهي؟ وأين أول الأمن القطري وأين آخره؟  وما معايير الخطر القومي ؟ وما القوى القطرية التي يمكن احتسابها في خانة الأمن القومي؟ وكيف يمكن تحويل هذه القوى القطرية إلى قدرات قومية تنظمها وتعينها وتطورها وتستخدمها قيادات قومية متخصصة؟ وما القيادات والمؤسسات والأجهزة التي يجب أن تتولى شؤون الأمن القومي بجوانبه السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية؟ (1)

ويمكن القول: إن الفكر السياسي العربي لم ينته بعد إلى صياغة محدّدة لمفهوم الأمن القومي العربي، أو يواكب تحوّلات المناخ الإقليمي والدولي وتوازناته وانعكاساته على تصوّر أبعاد هذا الأمن، وإن هذا الموضوع ما زال مطروحاً للتحليل ومفتوحاً للمناقشة رغم كل ما كتب عنه، ولكن ثمّة اجتهادات لتعريف الأمن القومي العربي.

لم يتفق الباحثون وخبراء الاستراتيجية على مفهوم الأمن القومي، لا من حيث تعريفه ولا من حيث استراتيجيات تحقيقه، وتعدّدت التعريفات بشأنه مثلما تعدّدت الآراء بشأن العناصر المكونة له، وقد اختلفت التعريفات باختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الأمن فثمة رؤية على أنه مفهوم عسكري، ورؤية على أنّه مرادف للسياسة الخارجية وثالثه على أنه قضية مجتمعية، ورابعة تؤكد أن الأمن ليس سوى التنمية.

إن معظم الدراسات التي تحدثت عن الأمن القومي العربي، اقتبست مصطلحاتها ومفاهيمها ومضامينها من الدراسات الأجنبية المتعلقة بالأمن الوطني، وخاصة الصادرة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقد جنحت تلك الدراسات باللغة العربية الى استعمال مصطلح الأمن القومي في مقابل مصطلح Securite National  أوSecurity  National   وغفل الباحثون العرب عن أن التعريفات الغربية تطبّق على مجتمعات شكّلت ما يسمى الدولة الأمة – أي أن الدولة تضمّ ضمن حدودها الأمة كلها مثل ما هو الحال في فرنسا، وانجلترا ، وإيطاليا ، وإسبانيا(2)

مفهوم الأمن القومي العربي:

ورد مفهوم الأمن القومي في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴿4﴾ سورة قريش

إن الأمن القومي العربي هو قدرة الأمة العربية في الدفاع عن أمنها، وحقوقها وصيانة استقلالها، وسيادتها على أرضها وكل تراب وطنها العربي الكبير الممتد من المحيط الى الخليج العربي وحماية منجزات الأمة، وقيمها من التهديدات الموجهة للأقطار العربية وللأمة العربية مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا وجود للأمن القومي العربي طالما أن هذا السرطان الصهيوني الخبيث مستقر في قلب الوطن العربي(3) مما يجعل من الصعب على الأمة تنمية قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية القادرة على تحقيق الأمن والرفاه للأمة(4)

والأمن القومي هو: إجماع الأمة شعوباً وأنظمة على الأهداف والوسائل والآليات التي يجب إتباعها والعمل على تحقيقها لحماية كرامة الأمة العربية وشرفها وحقوقها التي تأتي في مقدمتها التنمية البشرية والاجتماعية وعلى وجه الخصوص في المجال الاقتصادي والسياسي وتعتبر الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان العربي هما الركيزة الأساسية لتحقيق دعائم الأمن القومي العربي الذي تأتي الوسيلة الرئيسية في تحقيق القوة العسكرية درعاً واستخداماً وبعدها تؤدي الدعامات الأخرى من سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية وعلمية وتكنلوجية أدوارها في حماية الأمن القومي العربي وحفظ شرف الأمة وإعلاء سمعتها ومكانتها بين الأمم.

ومفهوم الأمن القومي: يعني قدرة الدولة على حماية قيمها من التهديدات الداخلية والخارجية ويعتبر التهديد العسكري هو التهديد الواضح حيث أن الدولة تكون آمنه عندما لا تحتاج للتضحية بمصالحها المشروعة في سبيل تجنب الحرب وأن تكون قادرة في حالة التحدي على حماية مصالحها بشن الحرب، وعندما ظهرت تهديدات جديدة إلى جانب التهديد العسكري ظهر ضعف هذا المفهوم، واتسع هذا المفهوم بحيث أصبح يعني قدرة الدولة على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار للعمل الوطني والقومي في كافة المجالات (5) 

ويعرف الأمن القومي العربي: (على أنه هو قدرة الأمة العربية على حماية كيانها الذاتي ضدّ الأخطار الخارجية من أجل ضمان بقائها).

كانت المحصلة في النهاية تراجع للأمن القومي العربي لأسباب منها ما هو سياسي مثل التجزئة التي تعرض لها الوطن العربي وسيادة مفهوم القطرية،  وتبعية بغض الدول للدول الخارجية، وانفرد بعض الدول عقد اتفاقيات مع الكيان الصهيوني خارج الإجماع العربي، ومنها ما هو إيدلوجي مثل التوظيف الخاطئ لمفهوم القومية العربية ومنها ما هو اقتصادي كالمديونية والتعبئة الاقتصادية، علاوة على ضبابية الفكرة ولم تشفع العوامل الاجتماعية من وحدة الدين واللغة والثقافة والحضارة والاقتصاد (من الثروة النفطية والموارد الطبيعية والمساحات الزراعية والقدرة السياحية، والعسكرية و الطاقة البشرية والترسانة الهائلة من الأسلحة) في خلق نظام عربي قادر على حفظ الأمن القومي.

إن أول ما يتبادر للذهن عند الحديث عن الأمن القومي العربي بشكل عام هو وجود نظام عربي يملك القدرة على تحقيق هذا الأمن واستمراره ،  والوضع الذي تمر فيه الأمة العربية من التمزّق والتشرذم في الرؤى والمواقف والولاء... أتاح للدول ذات المصالح في اختراق الأمن القومي والتوغّل في توسيع الهوة بين الاقطار العربية وإثارت الأزمات والنعرات القطرية والطائفية والعرقية...

ويرى بعض الكتاب أن امتلاك القوة العسكرية كفيلة بتحقيق الأمن القومي، وإذا ما أسقط ذلك على مفاهيم الأمن القومي فإن هذه المفاهيم وبلا استثناء قد أخذت البعد العسكري بعدا أساسياً في تحقيق الأمن القومي .

والأمة العربية في إطارها المكاني أي الوطن العربي تحتاج إلى القوة العسكرية إضافة إلى الرؤيا السياسية والثقافية الموحدة والتنمية الاقتصادية... لما يملكه الوطن العربي من موقعه الاستراتيجي المهم وثرواته الطبيعية والاقتصادية التي تعد مطمعاً لكل قادر على اختراقها وراغب في تعظيم منافعه، لذلك يتحتم على هذه الأمة بناء قوّة عسكرية عربية لتحقيق أمنها القومي والحفاظ على سلامتها ووطنها وقيمها وحضارتها ومستقبلها ومصالحها... ومجابهه التحديات التي تواجهها وإيقاف العابثين والطامعين بمقدراتها وثرواتها حتى تعود الفائدة إلى أصحابها وملاكها. 

إن الأمة العربية تمتلك من القوة القومية الكثير، ولكنها غير قادرة على تفعيل هذه القوى لصالحها، الأمر الذي نستطيع القول فيه إن عناصر قوة القومية العربية غائبة عن مسرح الحياة العربية رغم امتلاكها، وهذا ما يجعل الأمن القومي أبوبه مشرعه للداخل والخارج دون استئذان.

فتطور الأحداث اللاحقة في استمرار الحرب على العراق منذ عام 1991م ، مع دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة الدول العربية ، والسماح لهم في استغلال الأرض والسماء والمياه العربية للتحشد والهجوم على العراق حتى احتلاله من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003م وبالتنسيق مع إيران، لتصبح اللاعب الرئيسي في العراق ومن ثم اختراق الأمن القومي العربي من خلال تحريك الخلايا النائمة وتحويل الصراع إلى طائفي وإخراج العراق من الموازنة واشغال الوطن العربي في الصراعات الداخلية (سوريا، واليمن، وليبيا، ولبنان)، قد دمر الأمن القومي العربي وقضى على أسسه وكذلك انهيار التوازن العسكري الاستراتيجي لصالح اسرائيل والدول المعادية للأمة العربية لحقبة من الزمن ليست قصيرة .

-المراجع-

(1) هيثم الكيلاني – مفهوم الأمن القومي العربي – دراسة في جانبيه السياسي والعسكري وأعمال مؤتمر الأمن العربي – التحديات الراهنة – والتطلعات المستقبلية ، الدار البيضاء – مركز الدراسات العربي الأوربي 1996م صـ 16

(2) هيثم الكيلاني – مفهوم الأمن القومي العربي – الفكر الاستراتيجي العربي الأوربي عام 1998م صـ 64-66 

(3) القران الكريم سورة قريش

(4) محمد حافظ إسماعيل – أمن مصر القومي في عصر التحديات – ط1 – مركز الاهرام للترجمة والنشر – القاهرة 1987 م صـ9 

(5) د. حنان خميس – الأمن القومي العربي – الدائرة السياسية / عمان 17/10/2005م صـ2

http://pulpit.alwatanvoice.com/cont-28815 html 

وسوم: العدد 870